لقطة من فيلم " لكل سينماه " الذي عرض في مهرجان " كان " الستين
كانت عربة العروض السينمائية المتجولة تدور في شوارع المدينة منذ وقت الظهيرة، بعجلاتها البطيئة، مثيرة الغبار والموسيقى الصاخبة، ونشوة الملصقات الراقصة العابقة بالرائحة. ثم حطت رحالها عند جدار البلدية الخلفي مع بدايات المساء، تلاحقها شبه حرب أهلية من الاطفال والفتيات والصبيةالمندهشين.. امسى شارع المدينة الوحيد عامرا بالضجيج، وكأنما توقف النهر نفسه، الذي يقسم المدينة مثل قلب عن الجريان، حبست المقاهي أنفاسها، وانقطع الناس عن ممارسة أي شيء ماعدا اللحاق فاقدي الرشد بعرض الليل المبكر، يسومهم حر الغروب الصيفي، يتطلعون الى الفسحة المرشوشة بالماء قرب الحديقة الصغيرة على الجانب الآخر المقابل لباب البلدية، حيث قامت شرطة المخفر انفسهم برشها بصفائح الماء التي يوردون بها خيولهم.بدأت ازهار القرنفل وفل الرازقي ترسل شذاها بين الابخرة الساخنة والحشائش المهملة خلف جدار الازبال، وأخذت بضع نسوة يتطلعن من خلف السياج الخشبي المشبك، واشجار (الانكدنيا) متلهفات، بحرارة تقطع الانفاس ينظرن من خلال سيقان الورد، وقد تلطخت ارجلهن بطين الحديقة، الى قطعة القماش البيضاء المنصوبة على الجدار الخالي.حيث كان الجميع يتطلعون الى تلك الجهة تقودهم غبطتهم الى ذلك الابتهال المصيري الذي لايسمع من خلال صمته غير خفق أجنحة الانتظار.لم يحرك أحد ساكنا، وماأن دقت الثامنة، وحان الوقت الذي يلمح فيه الظلام، حتى تهيأعامل العرض للف الشريط الاول، وكف الاطفال والصبية الذين أفترشوا لهفتهم، كانهم جلسوا هناك منذ شهور أو سنين وتوقفوا عن الحركة الا من رعشات غضة في اصابع الصغار وافواههم المفتوحة. وفي اللحظة التي استدرنا فيها الى الجدار حين هطل النور الجامح من الماكنة حول قماشة الحائط، تحول ذلك الجدار امام دهشتنا الى ظلال تسعى وتهتز فوقها الحياة .في وسط ذلك الذهول المخيف أطل وجه ملك صغير تعلوه كبرياء الكآبة، وغرق الجميع في صمت، كان يكفي أن تمر نسمة عابرة لكي تحدث فيه شرخا من الضجيج، ثم صفق أحدهم لذلك الوجه كأنه لن يستطيع ان يصفق له في فرصة أخرى أبدا. وبدأت سحابة خانقة من الدخان تتجمع حول نور الماكنة، ولم يعد بامكاننا الاحساس بالحرارة بعد ظهور فيلم صامت لرجل يركض بشكل متقطع وحركة سريعة، بخطوات متعجلة متوالية، يتبعه طفل صغير بقبعة كبيرة، يبدو صبيا لعامل تصليح زجاج، ينفرد الطفل ويقترب عبر الشارع الذي شيدت حوله البيوت المتلاصقة والعمارات، يرمي نوافذ البيوت بالحجارة فيتهشم الزجاج حول الجالسين ويتناثر من فوق الحائط، مما اضطر جمهور المشاهدين الى الابتعاد برؤوسهم في حركات متوحدة خوف الشظايا المتطايرة من زجاج الحائط المتهشم.ظهرت لوحة سوداء مترجمة مكتوبة على الشاشة لم يسنح لأحد ان يقرأها، ثم وقعت أبصارنا من جديد على الشارع الأبيض، مرة اخرى، الشبابيك المحطمة والتي على وشك أن تتحطم، والرجل الصامت يصلح تلك الالواح التي كسرها الطفل (الذي يشتغل معه) قبل لحظات، ويلاعب حواجبه وشاربه الهتلري الصغير وعصاه لشرطي يراقبه وهو يتفصد عرقا وغيظا.. غير اننا لم يخالج احدنا أدنى شك منذ تلك اللحظة بحب ذلك الرجل الأفاق تلك المحبة العظيمة حتى ماتبقى لنا من سنوات أو أيام.استمرت عروض الشاشة، استعراضات عسكرية، أخبار وأفلام قصيرة نسيتها ذاكرته، تنظر العيون من خلالها مشاهد الحياة ملونة وبلا ألوان، فقد كانت تلك الشاشة تبدو الوحيدة الحية بين العيون المندهشة الجاحظة التي افترسها سحر تلك الليلة الغازية.أخذ سرب من الخفافيش يصطدم بهالات النور الصلبة، ويترك آثاراً كالوميض على الرقعة البيضاء الساخنة وهي تنوس بصوت يعلو على مكبر الصوت، واخذت أمواج البق والناموس الطافية في هواء المزارع القريبة تنهش الاذرع والاقدام وقد هيجتها الحرارة والضوء القوي المتدفق وانعكاساته السرية، الا ان احدا لم يأبه لطنينها المرعد تحت الدشاديش القصيرة .وعلى الجانب الاخر من السياج، كانت بقايا شتلات الازهار الصيفية تقذف اخر انفاسها الطرية عبر الليل الساخن بعد ان داستها الاقدام المنتشية في معرض الصور الماكرة.لكنه غادر هذا السحر بعد انتهائه، منطويا على نفسه، مشدوها وهاد ئا بشكل غريب، ولاول مرة عرف انه قد حرم من هذا العالم النادر، والافتتان العنيف، لزمن طويل، بعد ان رحلت عربة السينما الى مدن اخرى تعرض فيها عروضها الجديدة،.كانت تلك هي الصرخة الاولى التي أيقظت غفوة طفولته، وباضطراب كبير شقت أحلامه جدار بيضتها التي مازالت دافئة بغبار سباتها، وعاد الى غيوم حياته الداكنة من جديد، وهاهو أثر ضجر انطفاء الاضواء الغريبة يعود الى دوران قشرته بعد ان تبخر ذلك الوهم الهروب، تاركا مابين اسنانه طعما كالرماد.بعد ايام قال له (خليل حمادة): بماذا تفكر؟ قال له: في السينما التي رأيتها..قال: عجيب، ياللصدفة لقد كنت أيضا افكر بذلك..ولما رأى حزنه اعطاه مجلة (العالم المصورة) وقد كانت توزعها عربة السينما السيارة للكبار فقط، فاحتفظ بها من دون ان يقرأها دفعة واحدة، خشية ان تنتهي متعتها، وصار يتصفح منها صفحتين كل يوم، ويرجىء تقليب الصفحة التالية ليوم اخر، دون ان تفوته فرصة ألتهام كل ماكتب في تينك الصفحتين، أحب من خلالها صور ملكات جمال الخمسينيات وقصص العلماء الغرباء والرجال المشهورين.كانت مدينته الصغيرة تلك الايام لاتزيد عن شارع ضيق ينتهي بنهر، يدور حوله الشارع نفسه بايقاع هادىء يشوبه حزن، يملأ ليلها صخب مولدة الكهرباء التي تفترش القطعة الشمالية الملاصقة لنخيل النهر، تلك القطعة التي تغمرها الطحالب السوداء والضفادع، وتشغل ماكنة الطحن القسم الجنوبي للنهر قبل ان يتجه نحو منعطفه الاخير خارج المدينة المهجورة.بعد ان رحلت عربة السينما وحيدة على الطريق الترابي القصير المرافق للنهر، عادت الجموع التي احتشدت منتظرة عودتها في اشاعات متوالية لأيام عديدة من الانتظار الاسطوري، غير انها اتجهت صوب مجاهل أخرى ومدن متصلة خلف الحدود الادارية.وكان ان مرت عدة سنوات من دون ان يرى الاشياء المتحركة ثانية، الا انه اصبح مشدوداً الى تلك الليلة كانما ولد فيها، وظلت مشاهد الخيول الهاربة ووقع حوافرها على الصخور، ووجه شابلن والملك الحزين تبرقش احلامه. كان كل شيء يعود به فقط الى الماضي وهو مازال في مراحل صباه الأولى، ولم يشعر طيلة حياته بقربه الى شيء جميل كجمال تلك اللحظات الهائلة الممتلئة بحلمه الاول المجنون، وابتدأ أناس كثيرون يترقبون تلك الرحلة التي تزيل صدأ خمول المدينة المتلاشية خلف طريقها الترابي الوحيد الذي يؤدي الى الصحراء من جهة واخرى الى عتمة بساتين النخيل .كانت حياته منكمشة حول الراديو الكبير ماركة (سيرا) في بيت خاله، وذكريات ذلك اليوم الناعم الذي حمل عصي الضوء الفاجر الذي تهشمت فوقه أمطار فجر طفولته، والتي كانت بمثابة شرارة البرق التي اشعلت أغصان شجيرات فراغ ربيعه المتلكئة عبر احراش تلك المدينة المنسية والتي وردت صدفة في الاطلس الهولندي ولمرة واحدة ضمن دوائر المدن الحمراء التائهة في خرائط جغرافية العراق البشرية.كانت يومها تبدو مثقلة بالغبار والاساطير التي تدور في صمت أزقتها الغامضة، وبيوتها ترتكز على بعضها مفتوحة الابواب من كل الجهات، مرصوفة بالحجارة والطين اليابس والاسفلت الرجراج .سماء واطئة تتغير امزجتها بتغير أمزجة النهار، والأيام التي لايميز بعضها عن البعض الآخر، بعد نجاحه الى المدرسة المتوسطة وانتقاله الى المدينة الكبيرة لم يستأثر باهتمامه سوى (طرزان) ملك الادغال في الكتب الرخيصة المسلسلة. وسرعان ماعاوده ذلك الحنين القديم للصور المتحركة، كانت السينما هذه المرة داراً كبيرة تعرض فيلماً واحداً طويلاً، اختبات خلفه عدة افلام سيعلن عنها في الايام المقبلة، دخل وقتها صفا طويلا من المقاعد بين ظلمات مصطنعة طافية، فرشت أجنحتها على صالة مشيدة بجدران هائلة، في منتصفها شاشة اكبر من تلك التي شاهدها بثلاثة اضعاف، لكنه كان متهيئا لرؤية فيلم كامل، محتفظا بورقة عريضة توزع امام الدار، رسمت عليها صور أبطال الفيلم ولقطات منه مطبوعة بشكل سيء ولكنه مثير. امتلات كارتونات شغف طفولته بصناديق كاملة من تلك القصاصات التي تبعث الى الآن في نفسه ذكريات رائحتها الأثيرة. وكانت أغلب صور نهاراته تغيب خلف الوجوه المنزلقة لمارلين مونرو وآفا كاردنر واودري هيبورن.كانت سينما (غازي) الصيفي تعرض فيلما من افلام شركة(مترو جولدوين ماير) ولكنه ذهب ليرى سينما تعرض أي شيء دون أن يسأل عن نوع الفيلم او عنوانه .توسطت المسرح القريب من الشاشة نافو رة صغيرة لتلطيف جو ليالي حزيران الخانقة، ومن خلف أفق الشاشة العريض كانت ومضات النجوم تبرق عند اصطفاقها بحاجز النور القوي المنبعث من صخب دوران العارضة عند الغرفة العليا الملاصقة لفندق أخذ رواده يتزاحمون عند الفتحات مختلسين النظر للفيلم المجاني.غدت تلك الاماكن هي التي سوف يشعر فيها بالألفة طوال حياته، ولطالما أدرك ان قدره هو ان يجلس مصغيا لكل نأمة في الظلام، وينسى الى الأبد كل ما يحدث خارج القاعة التي تفصله عن كل شيء في عالم خلف الجدران، وقد احس ان تلك الحياة هي التي يطيب له التنفس فيها محاولا أغلب أوقاته الأمساك بخيط ولو كان ضئيلاً من ذلك الجمال المستحيل .فهو يعرف ان كل شيء زائل ومحال الا تلك الدقائق المليئة بلحظات الافتتان المغرق بالفرح، والتي لم يستطع ان يغيبها حتى الظلام، فيزداد استمتاعا قبل ان يتوارى من امام عينيه .لكنه بقي يستعيد في كل مرة تلك الغبطة التي طوقت غضاضته وهو يراقب مندهشا تحول الصور البراقة في تلك الأمسية النائية. ملاحقا تلك الاطياف الغريبة التي برزت له ذات ليلة، مصغياً الى جرس من بعيد يتوارى صداه في مياه الايام التي ملأتها دوما رياح الأحلام التائهة في حقول صباه الباكرة، ومشاهد هذيانات الفن وهي تتسرب الى قلبه خلسة، ممتزجة بروائح زهر القرنفل، ووميض ظلال طيور الخفاش على شاشة الفضة، والبروق المتبعثرة المتطايرة لآخر شظاياالنجوم..
مختارات ايزيس
العالم سينما
قصة لزعيم الطائي
كانت عربة العروض السينمائية المتجولة تدور في شوارع المدينة منذ وقت الظهيرة، بعجلاتها البطيئة، مثيرة الغبار والموسيقى الصاخبة، ونشوة الملصقات الراقصة العابقة بالرائحة. ثم حطت رحالها عند جدار البلدية الخلفي مع بدايات المساء، تلاحقها شبه حرب أهلية من الاطفال والفتيات والصبيةالمندهشين.. امسى شارع المدينة الوحيد عامرا بالضجيج، وكأنما توقف النهر نفسه، الذي يقسم المدينة مثل قلب عن الجريان، حبست المقاهي أنفاسها، وانقطع الناس عن ممارسة أي شيء ماعدا اللحاق فاقدي الرشد بعرض الليل المبكر، يسومهم حر الغروب الصيفي، يتطلعون الى الفسحة المرشوشة بالماء قرب الحديقة الصغيرة على الجانب الآخر المقابل لباب البلدية، حيث قامت شرطة المخفر انفسهم برشها بصفائح الماء التي يوردون بها خيولهم.بدأت ازهار القرنفل وفل الرازقي ترسل شذاها بين الابخرة الساخنة والحشائش المهملة خلف جدار الازبال، وأخذت بضع نسوة يتطلعن من خلف السياج الخشبي المشبك، واشجار (الانكدنيا) متلهفات، بحرارة تقطع الانفاس ينظرن من خلال سيقان الورد، وقد تلطخت ارجلهن بطين الحديقة، الى قطعة القماش البيضاء المنصوبة على الجدار الخالي.حيث كان الجميع يتطلعون الى تلك الجهة تقودهم غبطتهم الى ذلك الابتهال المصيري الذي لايسمع من خلال صمته غير خفق أجنحة الانتظار.لم يحرك أحد ساكنا، وماأن دقت الثامنة، وحان الوقت الذي يلمح فيه الظلام، حتى تهيأعامل العرض للف الشريط الاول، وكف الاطفال والصبية الذين أفترشوا لهفتهم، كانهم جلسوا هناك منذ شهور أو سنين وتوقفوا عن الحركة الا من رعشات غضة في اصابع الصغار وافواههم المفتوحة. وفي اللحظة التي استدرنا فيها الى الجدار حين هطل النور الجامح من الماكنة حول قماشة الحائط، تحول ذلك الجدار امام دهشتنا الى ظلال تسعى وتهتز فوقها الحياة .في وسط ذلك الذهول المخيف أطل وجه ملك صغير تعلوه كبرياء الكآبة، وغرق الجميع في صمت، كان يكفي أن تمر نسمة عابرة لكي تحدث فيه شرخا من الضجيج، ثم صفق أحدهم لذلك الوجه كأنه لن يستطيع ان يصفق له في فرصة أخرى أبدا. وبدأت سحابة خانقة من الدخان تتجمع حول نور الماكنة، ولم يعد بامكاننا الاحساس بالحرارة بعد ظهور فيلم صامت لرجل يركض بشكل متقطع وحركة سريعة، بخطوات متعجلة متوالية، يتبعه طفل صغير بقبعة كبيرة، يبدو صبيا لعامل تصليح زجاج، ينفرد الطفل ويقترب عبر الشارع الذي شيدت حوله البيوت المتلاصقة والعمارات، يرمي نوافذ البيوت بالحجارة فيتهشم الزجاج حول الجالسين ويتناثر من فوق الحائط، مما اضطر جمهور المشاهدين الى الابتعاد برؤوسهم في حركات متوحدة خوف الشظايا المتطايرة من زجاج الحائط المتهشم.ظهرت لوحة سوداء مترجمة مكتوبة على الشاشة لم يسنح لأحد ان يقرأها، ثم وقعت أبصارنا من جديد على الشارع الأبيض، مرة اخرى، الشبابيك المحطمة والتي على وشك أن تتحطم، والرجل الصامت يصلح تلك الالواح التي كسرها الطفل (الذي يشتغل معه) قبل لحظات، ويلاعب حواجبه وشاربه الهتلري الصغير وعصاه لشرطي يراقبه وهو يتفصد عرقا وغيظا.. غير اننا لم يخالج احدنا أدنى شك منذ تلك اللحظة بحب ذلك الرجل الأفاق تلك المحبة العظيمة حتى ماتبقى لنا من سنوات أو أيام.استمرت عروض الشاشة، استعراضات عسكرية، أخبار وأفلام قصيرة نسيتها ذاكرته، تنظر العيون من خلالها مشاهد الحياة ملونة وبلا ألوان، فقد كانت تلك الشاشة تبدو الوحيدة الحية بين العيون المندهشة الجاحظة التي افترسها سحر تلك الليلة الغازية.أخذ سرب من الخفافيش يصطدم بهالات النور الصلبة، ويترك آثاراً كالوميض على الرقعة البيضاء الساخنة وهي تنوس بصوت يعلو على مكبر الصوت، واخذت أمواج البق والناموس الطافية في هواء المزارع القريبة تنهش الاذرع والاقدام وقد هيجتها الحرارة والضوء القوي المتدفق وانعكاساته السرية، الا ان احدا لم يأبه لطنينها المرعد تحت الدشاديش القصيرة .وعلى الجانب الاخر من السياج، كانت بقايا شتلات الازهار الصيفية تقذف اخر انفاسها الطرية عبر الليل الساخن بعد ان داستها الاقدام المنتشية في معرض الصور الماكرة.لكنه غادر هذا السحر بعد انتهائه، منطويا على نفسه، مشدوها وهاد ئا بشكل غريب، ولاول مرة عرف انه قد حرم من هذا العالم النادر، والافتتان العنيف، لزمن طويل، بعد ان رحلت عربة السينما الى مدن اخرى تعرض فيها عروضها الجديدة،.كانت تلك هي الصرخة الاولى التي أيقظت غفوة طفولته، وباضطراب كبير شقت أحلامه جدار بيضتها التي مازالت دافئة بغبار سباتها، وعاد الى غيوم حياته الداكنة من جديد، وهاهو أثر ضجر انطفاء الاضواء الغريبة يعود الى دوران قشرته بعد ان تبخر ذلك الوهم الهروب، تاركا مابين اسنانه طعما كالرماد.بعد ايام قال له (خليل حمادة): بماذا تفكر؟ قال له: في السينما التي رأيتها..قال: عجيب، ياللصدفة لقد كنت أيضا افكر بذلك..ولما رأى حزنه اعطاه مجلة (العالم المصورة) وقد كانت توزعها عربة السينما السيارة للكبار فقط، فاحتفظ بها من دون ان يقرأها دفعة واحدة، خشية ان تنتهي متعتها، وصار يتصفح منها صفحتين كل يوم، ويرجىء تقليب الصفحة التالية ليوم اخر، دون ان تفوته فرصة ألتهام كل ماكتب في تينك الصفحتين، أحب من خلالها صور ملكات جمال الخمسينيات وقصص العلماء الغرباء والرجال المشهورين.كانت مدينته الصغيرة تلك الايام لاتزيد عن شارع ضيق ينتهي بنهر، يدور حوله الشارع نفسه بايقاع هادىء يشوبه حزن، يملأ ليلها صخب مولدة الكهرباء التي تفترش القطعة الشمالية الملاصقة لنخيل النهر، تلك القطعة التي تغمرها الطحالب السوداء والضفادع، وتشغل ماكنة الطحن القسم الجنوبي للنهر قبل ان يتجه نحو منعطفه الاخير خارج المدينة المهجورة.بعد ان رحلت عربة السينما وحيدة على الطريق الترابي القصير المرافق للنهر، عادت الجموع التي احتشدت منتظرة عودتها في اشاعات متوالية لأيام عديدة من الانتظار الاسطوري، غير انها اتجهت صوب مجاهل أخرى ومدن متصلة خلف الحدود الادارية.وكان ان مرت عدة سنوات من دون ان يرى الاشياء المتحركة ثانية، الا انه اصبح مشدوداً الى تلك الليلة كانما ولد فيها، وظلت مشاهد الخيول الهاربة ووقع حوافرها على الصخور، ووجه شابلن والملك الحزين تبرقش احلامه. كان كل شيء يعود به فقط الى الماضي وهو مازال في مراحل صباه الأولى، ولم يشعر طيلة حياته بقربه الى شيء جميل كجمال تلك اللحظات الهائلة الممتلئة بحلمه الاول المجنون، وابتدأ أناس كثيرون يترقبون تلك الرحلة التي تزيل صدأ خمول المدينة المتلاشية خلف طريقها الترابي الوحيد الذي يؤدي الى الصحراء من جهة واخرى الى عتمة بساتين النخيل .كانت حياته منكمشة حول الراديو الكبير ماركة (سيرا) في بيت خاله، وذكريات ذلك اليوم الناعم الذي حمل عصي الضوء الفاجر الذي تهشمت فوقه أمطار فجر طفولته، والتي كانت بمثابة شرارة البرق التي اشعلت أغصان شجيرات فراغ ربيعه المتلكئة عبر احراش تلك المدينة المنسية والتي وردت صدفة في الاطلس الهولندي ولمرة واحدة ضمن دوائر المدن الحمراء التائهة في خرائط جغرافية العراق البشرية.كانت يومها تبدو مثقلة بالغبار والاساطير التي تدور في صمت أزقتها الغامضة، وبيوتها ترتكز على بعضها مفتوحة الابواب من كل الجهات، مرصوفة بالحجارة والطين اليابس والاسفلت الرجراج .سماء واطئة تتغير امزجتها بتغير أمزجة النهار، والأيام التي لايميز بعضها عن البعض الآخر، بعد نجاحه الى المدرسة المتوسطة وانتقاله الى المدينة الكبيرة لم يستأثر باهتمامه سوى (طرزان) ملك الادغال في الكتب الرخيصة المسلسلة. وسرعان ماعاوده ذلك الحنين القديم للصور المتحركة، كانت السينما هذه المرة داراً كبيرة تعرض فيلماً واحداً طويلاً، اختبات خلفه عدة افلام سيعلن عنها في الايام المقبلة، دخل وقتها صفا طويلا من المقاعد بين ظلمات مصطنعة طافية، فرشت أجنحتها على صالة مشيدة بجدران هائلة، في منتصفها شاشة اكبر من تلك التي شاهدها بثلاثة اضعاف، لكنه كان متهيئا لرؤية فيلم كامل، محتفظا بورقة عريضة توزع امام الدار، رسمت عليها صور أبطال الفيلم ولقطات منه مطبوعة بشكل سيء ولكنه مثير. امتلات كارتونات شغف طفولته بصناديق كاملة من تلك القصاصات التي تبعث الى الآن في نفسه ذكريات رائحتها الأثيرة. وكانت أغلب صور نهاراته تغيب خلف الوجوه المنزلقة لمارلين مونرو وآفا كاردنر واودري هيبورن.كانت سينما (غازي) الصيفي تعرض فيلما من افلام شركة(مترو جولدوين ماير) ولكنه ذهب ليرى سينما تعرض أي شيء دون أن يسأل عن نوع الفيلم او عنوانه .توسطت المسرح القريب من الشاشة نافو رة صغيرة لتلطيف جو ليالي حزيران الخانقة، ومن خلف أفق الشاشة العريض كانت ومضات النجوم تبرق عند اصطفاقها بحاجز النور القوي المنبعث من صخب دوران العارضة عند الغرفة العليا الملاصقة لفندق أخذ رواده يتزاحمون عند الفتحات مختلسين النظر للفيلم المجاني.غدت تلك الاماكن هي التي سوف يشعر فيها بالألفة طوال حياته، ولطالما أدرك ان قدره هو ان يجلس مصغيا لكل نأمة في الظلام، وينسى الى الأبد كل ما يحدث خارج القاعة التي تفصله عن كل شيء في عالم خلف الجدران، وقد احس ان تلك الحياة هي التي يطيب له التنفس فيها محاولا أغلب أوقاته الأمساك بخيط ولو كان ضئيلاً من ذلك الجمال المستحيل .فهو يعرف ان كل شيء زائل ومحال الا تلك الدقائق المليئة بلحظات الافتتان المغرق بالفرح، والتي لم يستطع ان يغيبها حتى الظلام، فيزداد استمتاعا قبل ان يتوارى من امام عينيه .لكنه بقي يستعيد في كل مرة تلك الغبطة التي طوقت غضاضته وهو يراقب مندهشا تحول الصور البراقة في تلك الأمسية النائية. ملاحقا تلك الاطياف الغريبة التي برزت له ذات ليلة، مصغياً الى جرس من بعيد يتوارى صداه في مياه الايام التي ملأتها دوما رياح الأحلام التائهة في حقول صباه الباكرة، ومشاهد هذيانات الفن وهي تتسرب الى قلبه خلسة، ممتزجة بروائح زهر القرنفل، ووميض ظلال طيور الخفاش على شاشة الفضة، والبروق المتبعثرة المتطايرة لآخر شظاياالنجوم..
عن ايلاف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق