السبت، أغسطس 22، 2009

دردمات وثنائية السجان والسجين بقلم امير العمري

المخرج العراقي سعد سلمان


دردمات: ثنائية السجان والسجين




بقلم امير العمري




"دردمات" هو ما أنجزه فنان الفيلم العراقي المغترب في باريس سعد سالمان، وصوره في "العراق بعد الفوضى" - إذا جاز التعبير.

"دردمات" هي الهمهمات أو الغمغمات التي قد تكون خارجية أي مسموعة، يهمهم بها المرء لنفسه أساسا، أو دفينة داخل العقل لكنها مسموعة له.. بعد أن يعجز عن فهم ما يحدث له وما يحدث حوله.


إنه ليس فيلما مثل سائر الأفلام، يروي قصة تلعب فيها الشخصيات أدوارا رئيسية أو ثانوية تدور حول "حبكة" ما لكي تصل بنا إلى النهاية المحتومة، بل هو أيضا نوع من "الدردمات" السينمائية من ناحية الشكل أيضا إذا جاز التعبير، والمقصود أنه يعتمد على التحرر الكبير في السرد، وفي تركيب الجمل التي يستخدمها في بناء عالمه السينمائي.

ليس في الفيلم شخصيات بالمعنى المتعرف عليه بل شخصيتان أساسيتان فقط هما السجان والسجين.

وصحيح أن هناك التزام بمبدأ وحدة الزمان والمكان، لكن سعد سالمان يكسر هذا الإطار الزماني المكاني ويتجاوزه تماما كما يتجاوز "الدراما" التقليدية التي يحكمها الصراع بين الشخصيات، فيقوم بتجريد موضوعه ويحصره في هاتين الشخصيتين: المثقف والسجان، والإثنان يعكسان مأزقا مشتركا، فالسجان الذي ينفذ الأوامر والتعليمات- كما يقول- طوال سنوات عديدة، يقتل حسب التعليمات، ويعذب طبقا للأوامر، لا يمكنه أن يصدق أن هذا النظام الصارم الذي ظل خاضعا له لسنوات، قد سقط وانتهى، ولم يعد هناك ضباط ولا جنود في المعتقل الرهيب الكامن تحت أرض مزرعة للدواجن في بغداد، وهو يتصور في البداية أن في الأمر "مؤامرة ما". لكنه يبدأ وهو بين بعض العقل والكثير من الجنون، في تذكر كيف اختفى كل المعتقلين، بعد أن لقوا جميعا حتفهم بالقتل، ولم يبق هناك سوى سجين واحد هو زهير" الذي يقوم بدوره سعد سالمان نفسه، ذلك المثقف الذي قضى أكثر من عشرين عاما في سجون النظام، ويجد نفسه في لحظة عبثية مفارقة، الناجي الوحيد من المذبحة الجماعية في المعتقل في الساعات التي تسبق السقوط.

السجان لا يستوعب لحظة التغيير الفارقة في حياته فينتهي إلى الجنون المطلق والهذيان الذي لا ينتهي: يضرب أبواب الزنازين ويصرخ في المعتقلين الذين لم يعودوا هناك، يخاطب مسؤولا لم يعد له وجود على الطرف الثاني من الهاتف، يجدل أسلاكا يحاول أن يصنع منها مشنقة، يفكر في شنق السجين أو اطلاق النار عليه ثم يتراجع عن الفكرة ويقدم له الطعام ويحلق له لحيته التي استطالت فجعلته يبدو أقرب إلى حيوان مذعور يحملق بعينيه الواسعتين المندهشتين في الفراغ لا يفهم ماذا يدور حوله. ويقرر السجان اصطحاب السجين إلى الخارج للنجاة معه، وأمام ممثلي القوات الغازية يتهم كلاهما الآخر بأنه السجان، وينتهي الأمر بالإفلات من المأزق المؤقت ولكن في اتجاه المأزق الأكثر .


إنه مأزق السجان والسجين، وهو مأزق وجودي كما أنه مأزق تاريخي أيضا. من ناحية هو أقرب إلى عبث كامي الفارق في علاقة الفرد بالعالم، منه إلى أفكار سارتر حول مسؤولية الفرد عما يحدث له، لكنه أيضا عن ذلك المأزق التاريخي الذي يتمثل في أن "الحرية" التي تتحقق أخيرا حينما يرى السجين الشمس للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، سرعان ما يكتشف أنها ليست الحرية التي يعرفها بخبرته السابقة في الحياة قبل السجن. لقد اختفت الأماكن، واختفت معها "الذاكرة" التي تحددها في ذهنه. إنه يخرج من المعتقل لكي يكتشف أنه أصبح سجينا في سجن أشد قسوة، ليس فقط سجن الواقع الكبير، بل سجن الذات بعد أن فقد القدرة على الإحساس بما يحدث حوله أو عجز عن فهم أي منطق له.

إن بغداد التي عرفها السجين المثقف قبل دخوله السجن ليست هي التي يخرج إليها بعد "سقوط التمثال".

ما هذه الوجوه، وماذا حدث للنساء: لماذ يرتدين الملابس السوداء، وما كل هذا الحزن المطل من عيونهن، وأين ذهبت الوجوه البشوشة، ومن أين أتت كل هذه السيارات وهؤلاء البشر، ولماذا لم يعد يجد كتبا في جماليات الشعر والفن، لماذا أصبحت كلها فجأة كتبا دينية. وما هؤلاء التجار المنتشرين كالوباء في كل مكان، أين الوزارات.. أين الداخلية والأمن، بل أين ذهبت الدولة؟ أين الدولة؟

هذا السؤال الأخير يتردد على صورة "دردمات" خارجية، أي بصوت عال، وهو يتوجه بالسؤال إلى رجل في عرض

الطريق. الرجل يشير بيده في اتجاه ما ويقول إنها هناك. يسأله زهير: هل تراها؟ نعم إنها في نهاية الممر. يسير في اتجاه الممر وينفذ في مشهد يتجاوز الواقعية إلى السريالية، من داخل السوق، لكنه لا ينتهي سوى إلى الفراغ.

أما السجان المجنون، العريف "جبار" فإنه يصبح لصيقا به كما لو كان قدره الذي لا يملك منه فكاكا، فهو يتبدى له في كل مكان، بل ويبدو أحيانا كما لو كان يطارده، يريد أن يخنقه بكتلة من الأسلاك المجدولة يلفها حول رقبته. هذه الأسلاك يراها أيضا في كل مكان من شوارع بغداد، تلك الأسلاك العشوائية الكثيفة المجدولة الممتدة في الفراغ. إنها الخوف الكامن في داخله من المعتقل الذي لم يكن يرى في داخله سوى الضوء الأحمر.

هذه التساؤلات لا تؤدي إلى إجابات "منطقية" من داخل فيلم سعد سالمان، فهو ليس عملا تقليديا يخضع للمنطق المألوف كما أشرت، بل يبدو ككل، أقرب إلى حلم، أو بالأحرى، كابوس طويل ممتد في الزمان والمكان. نعم هناك ملامح للواقع من مدينة بغداد بشوارعها ونهريها الخالدين وأسواقها وسكانها، ولكن في سياق آخر مختلف بعد أن فقدت الأشياء معناها، فالأماكن لم تعد هناك، وما بقى فقد صلته بالذاكرة أو أصبح حطاما، والناس ليسوا نفس الناس رغم أن ملامحهم لم تتغير كثيرا، والقبح حل محل الجمال، والحزن حط على المدينة، والذاكرة نفسها أصبحت مهددة بالفقدان والضياع.. فما السبيل؟

هذه التساؤلات كلها تأتي إلينا من بين ثنايا لقطات هذا العمل البليغ البديع الرقيق الذي يصنعه فنان مهجووس بطرح الأسئلة، لكنه غير معني بتقديم إجابات عليها، فهو لا يرغب في محاكمة أحد، ولا في توجيه إدانات، بل يبدو فيلمه بأكمله، كما لو كان مصنوعا من وحي مثقف اغترب عن هذا الواقع، سواء وسط سنين المنفى الممتدة في أوروبا، أو داخل غياهيب السجن، ثم عاد وحيدا، كما لو كان قد ولد اليوم فقط، مع موت آلاف الأشياء التي كانت تشكل معالم أحلامه.. واليوم لم تعد الأحلام هناك. ولا يوجد أحد يمكنه أن يسمع، تماما كما كان الأمر دائما في حياة (زهير- سالمان): "ثلاثون سنة أتكلم ولا أحد يسمع!

هنا كاميرا واثقة، تعرف متى تتحرك، تمسح جدارا أو صفحة نهر، وغناء شجي حزين يمنح الصورة أحيانا لحظات من الإنارة الداخلية بعد أن تتوقف كل الكلمات والدردمات. وأداء تمثيلي، صحيح أنه يميل إلى الشكل المسرحي في أداء محمد المعموري تحديدا (في دور السجان) إلا أنه مقصود لتكثيف تلك الحالة من الهوس التي تجعله مثلا يقوم بتمثيل دور الجلاد والضحايا عندما يأخذ في اطلاق الرصاص على معتقلين وهميين لم يعد لهم وجود في المعتقل، ثم يلقي بالسلاح ويرتمي على الأرض ليمثل دور الضحية وهو يترنح متألما ينازع لحظاته الأخيرة قبل الموت.

نهاية الفيلم.. شعار مكتوب على جدار قرب النهر "عاش العراق الجديد".. بطلنا يبدو أنه سيستغرق في النوم.. أو ربما يدخل إلى غيبوبة طويلة.. فالفيلم ينتهي بالإظلام التام مباشرة بعد هذا الشعار المكتوب.. فما الذي حدث لعراق زهير وأين أخذوه منه.

ليست هناك كما ذكرت، إجابات، ولا رغبة في تقديم اجابات أو "بيان" احتجاجي من خلال المزج بين الوثائقي والدرامي، حقا هناك إعادة صورة مؤثرة بواقعيتها الوثائقية لبغداد بعد الحرب، لكن مفردات "دردمات" أقرب إلى مفردات الشعر، كلمات وجمل وأبيات متناثرة، لا تهدف إلى الحكي وإلى صنع "التراكم" بل إلى التعبير عن المشاعر والهواجس والافكار والأحاسيس. وفي الفن.. هذا كل ما يهم.


عن موقع الجزيرة الوثائقية

السبت، أغسطس 08، 2009

فيلم " المسيح الدجال " وصورة المرأة في اللاوعي الجمعي الاوروبي بقلم صلاح هاشم

ثعلب وغراب وغزالة في طبيعة لارس فون تراير الشر

لقطة من فيلم المسيح الدجال للارس فون تراير الحاصل علي جائزة احسن ممثلة في مهرجان "كان " 62

شارلوت في افضل واعمق ادوارها ربما علي الشاشة


شارلوت جانسبورغ المرأة العشيقة والزوجة والأم والرمز والمثال في فيلم تراير الذكي


لارس فون تراير فنان السينما المبدع الخلاق في الدانمرك واحد اعظم عشر مخرجين سينمائيين ربما في العالم

العودة الي الطبيعة شر في فيلم تراير




شاشة باريس 2009

يكتبها صلاح هاشم

يعرض حاليا في باريس وعموم فرنسا

فيلم " المسيح الدجال " :

صورة المرأة في مرآة اللاوعي الجمعي والعودة الي الطبيعة الشر

بقلم صلاح هاشم

من ابرز الافلام التي خرجت للعرض في باريس حديثا فيلم " المسيح الدجال " للمخرج الدانمركي لارس فون تراير ( من مواليد كوبنهاجن الدانمرك في 30 ابريل 1956 اخرج اكثر من 11 فيلما وحصل بفيلمه " راقصة في الظلام عام 2000 علي سعفة " كان " الذهبية ) وكان الفيلم عرض في مسابقة مهرجان " كان " السينمائي 62 الفائت. وحصلت به ممثلته الفرنسية شارلوت جانسبورج علي جائزة أحسن ممثلة، وكنت شاهدت الفيلم في المهرجان، واعجبت به كثيرا، علي الرغم من بعض النقاد صفروا ضد الفيلم في العرض الخاص بالصحفيين في المهرجان ، ونعتوه ومخرجه بأقبح الالفاظ ، وكنت من ضمن قلة اعجبت بالفيلم، وأشادت به وبفنه، ثم اني انتهزت فرصة خروجه للعرض في باريس لمشاهدته مرة ثانية ، والتمعن فيه، فاستمتعت به أكثر..

يحكي الفيلم عن أم تفقد طفلها اثناء ممارستها الجنس مع زوجها والد الطفل وهو عالم وطبيب نفساني وتكون صدمة الام كبيرة بما وقع حين يتسلل الطفل من فراشه في أول مشهد في الفيلم ويشاهد ابويه وهما يمارسان الجنس سويا فيحمل لعبته علي شكل عروسة ويقترب من النافذة ويفقد توازنه ليسقط من حالق علي ارتفاع شاهق ويموت علي قارعة الطريق الذي تغطيه الثلوج في الشتاء، وكانت الام شاهدت الطفل خلسة وهو يقترب من النافذة الا انها لم تتوقف مع زوجها عن ممارسة الجنس لكي تسارع الي نجدة الطفل وانقاذه من موت محقق، وربما يكون مخرج الفيلم لارس فون تراير خبر ذات التجربة في حياته اثناء طفولته، فاصابته بصدمة او عقدة نفسانية، وقد اراد ربما بهذا الفيلم من ناحية ان ينبهنا الي خطورة هذا الامر وتأثيراته النفسانية العميقة علي الاطفال، واراد من ناحية اخري ان يعاقب بفيلمه تلك الام التي فضلت متعتها الشخصية الانانية وضحت من اجلها بطفلها، والشيء المؤكد في الحالتين ان فيلم " المسيح الدجال " كما في جل الافلام، يستشعره ويحس به كل منا علي طريقته ومن خلال تربيته وثقافته وخبراته الحياتية ايضا ، ولذلك فاننا – وهذه هي القضية – لانري ابدا ذات الفيلم ، ولا نبصره من زاوية واحدة، بل تتدخل عوامل كثيرة لكي تشكل رؤيتنا الفريدة والجديدة في هذا " النوع " من الافلام التي تعزز من حق الاختلاف ، وتصبح بمجرد مشاهدتها مثيرة للنقاش والجدل كما في فيلم " المسيح الدجال "، وكما في جل افلام المخرج الاسباني لوي بونويل مثل فيلم " الكلب الاندلسي " وفيلم " لوس اولفيدادوس " ، ويحتفل السينماتيك الفرنسي الشهير حاليا به ويعرض في ريتروسبيكتيف- استعادة - كل افلامه وحتي الثاني من اغسطس ..

واعتبر هذا المشهد الاول في الفيلم الذي يؤسس في ما بعد لتطور الحدث الدرامي بمثابة فيلم بمفرده اذ يكشف عن مخرج رائع وبصمته الفنية السينمائية التي لا تخطئها العين من خلال ذلك "التوليف" المدهش بين الصوت والصورة ، ذلك التوليف الذي يستغرقك، ويستحوذ بشحنته الفنية المتوهجة علي كل كيانك ،مازجا بين متعة شهوة الجنس والألم، بين اليأس والرجاء ، ويستخدم هنا تراير اللقطات المكبرة اثناء فترة الجماع ، ويقطع علي لقطة مكبرة لقضيب في لحظة الانتصاب، ثم يعود الي مشهد الزوجين العاريين وهما يشهقان من فرط المتعة والنشوة، ويصور باللقطات البطيئة جدا حركة الطفل وخروجه من الفراش ، ويبني او يشكل ذلك المشهد الافتتاحي علي موسيقي كلاسيكية اوبرالية حزينة..

وفي المشهد التالي نري جنازة الطفل حيث يغمي علي الام من فرط حزنها علي طفلها – تلعب دور الزوجة والأم الممثلة الفرنسية الشابة الجميلة شارلوت جانسبورج - ونتابع في ما بعد حالات الجنون التي تنتابها بعدما تصير مسكونة بمشاعر الذنب والألم ويحاول الزوج – يلعب دوره في الفيلم الممثل الامريكي القدير ويليام ديفو- وهو طبيب نفساني ان يعالج زوجته عبر جلسات علاج تفضفض فيها عن المها عله ينتشلها من عذاباتها التي سوف تقودها الي حافة الجنون وهاوية الضياع، لكنه يفشل في مهمته فيقترح هليها ان يلجأ الاثنان الي حضن الطبيعة ويقيمان سويا في كوخ لهما يدعي " عدن " اي كوخ الجنة في قلب غابة موحشة فتوافق، وكانت الزوجة لجأت الي ذلك الكوخ من قبل وهو عبارة عن بيت من الخشب لكي تنكب علي كتابة بحث عن " الساحرات الشريرات في العصور الوسطي " والمؤسسة الدينية التي كانت آنذاك تعتقل النساء حين يشتبه في امرهن واتصالهن بقوي الجن والعفاريت وممارستهن لاعمال السحر، ثم تقوم بعد تعذيبهن تقوم بحرقهن في الميادين العامة وسط صيحات وتصفيق وصراخ الدهماء

وهنا يبدأ فيلم جديد حين ينتقل الزوجان الي الغابة لنشهد عملية " تحول" او ميتامورفوز تطرأ علي الأم تتحول معها من ملاك الي شيطان وتتلبسها قوي الشر والعفاريت لتصبح ساحرة من ساحرات العصور الوسطي واشبه ما يكون بالمرأة الغول، وقد تذكرت اثناء مشاهدة الفيلم الغني بالاشارات والاحالات الي الافلام والاعمال السينمائية العظيمة في تاريخ السينما تذكرت فيلم " وحش البحيرة السوداء " الذي شاهدته في طفولتي في " سينما ايزيس " ، كما ذكرني بأشهر افلام التحول في تاريخ السينما مثل تحول الممثل الامريكي القدير سبنسؤ تراسي من طبيب طيب الي وحش رذيل مرعب في فيلم "دكتور جيكل ومستر هايد "كما يتحول الفيلم ايضا من فيلم درامي الي فيلم من أفلام النوع اي افلام الرعب، ويجعنا نخشي علي انفسنا من تلك المرأة التي صارت مسكونة بقوي الشر ونريد الآن ان تقتل زوجها وتتخلص منه وربما كل الذكور باية طريقة، ونري ذلك في مشاهد قاسية دموية مرعبة وصادمة..

وهم العودة الي الطبيعة

فالزوجة الام التي تحولت الي وحش مرعب ملييء بالشبق ، ولا تشبع ابدا من ممارسة الجنس- وكل هذه التحولات تعكس في الواقع صورة المرأة كما يتمثلها مخرج الفيلم لارس فون تراير، فهي عنده ذلك "الحيوان الجنسي " المخيف ، ونحن بالطبع لا نشاركه هذا التصور التطهري المتخلف الديني الوسيطي نسبة الي العصور الوسطي ان صح التعبير - تريد ان تنتقم من زوجها حين يرفض ان ينكحها فتطعنه في خصيتيه بسكين وتكون قبلها اجرت عملية استمناء لقضيبه الذي يقذف دما ، ثم انها في احد اشد المشاهد واكثرها قسوة في الفيلم تغرس سكينا في لحم الساق ثم تدخل فيه صامولة متصلة بطاحونة حجرية ثقيلة حتي تمنعه من السير والتحرك الا وهو يجر تللك الطاحونة المربوطة بالساق، ويذكرنا هذا المشهد بمشهد قطع حدقة العين بسكين حاد في فيلم " الكلب الاندلسي " للاسباني لوي بونويل وهو احد اشهر واعظم الافلام السريالية في تاريخ السينما ..

وتتوالي مشاهد التعذيب في الفيلم لتصل الي حد دفن الزوج حيا في طين الغابة واهالة التراب عليه، ويشعلها المخرج لارس فون تراير حربا بين الجنسين، ولا نعرف كيف ستنتهي ومن سوف يكسب تللك الحرب: أهي تلك المرأة التي تحولت الي " المسيح الدجال " رمز الغواية ، ام هذا الزوج البريء المخلص، الذي قد ينجح في القضاء عليها ويخلصنا من شرورها في النهاية ؟

وعلي العكس من الافكارالخاصة بان العودة الي الطبيعة الام - كما يري المفكر الفرنسي جان جاك روسو - سوف يكون فيه خلاصنا من قبح وسوءات عالمنا الاستهلاكي المادي الصناعي في تلك المدن الكزموبوليتانية الاسفلتية التي تجثم ثقيلاعلي انفاسنا بعماراتها الشاهقة وتخنقنا ،والتي يصفها الشاعر الالماني برتولت بريخت بقوله ان " فوقها دخان وتحتها بالوعات، وحماك الله من شر أهلها " ..

يقدم لنا لارس فون تراير تصوره الخاص بجنة عدن هذه في حضن الطبيعة والبراءة ، فيكشف لنا في فيلمه عن " وهم العودة " الي الطبيعة الذي سوف يكون فيه خلاصنا والبلسم الشافي، لأنها صارت كما يتمثلها ، صارت "الجحيم " بعينه ، والارض اليباب الخراب التي صورها الشاعر الانجليزي ت. اس . اليوت في قصيدته بنفس الاسم ليعلن عن خراب وانهيار حضارة الغرب المادية الاستهلاكية..

هنا في حضن تلك الغابة الموحشة كقبر،التي يقدمها لنا تراير في فيلمه،تطلع علينا من كل ناحية الحيوانات الكاسرة المتوحشة لتخيفنا وترعبنا، ويظهر ذئب ووعل في الفيلم ثم يطلع علينا ثعلب دموي متوحش مرعب لكي يقول لنا بصوت آدمي أجش مرعب - يذكرنا بصوت الشيطان الذي سكن جسد الطفلة الصغيرة في فيلم " طارد الارواح " للامريكي ويليام فريدكين - يقول : " ..لقد صارت الفوضي تتحكم في العالم .. " ..

فيلم " المسيح الدجال " فيلم قوي وشجاع ويكشف عن جرأة مخرج في تقديم فيلم باهر متميز علي المستوي الجمالي البصري التقني . جرأته في ان يفصح من خلال "الاستبطان الذاتي " والغوص في الاعماق عن افكاره وكوابيسه وتصوراته بخصوص المرأة. جرأته في أن يستخرجها من لاوعيه الباطن ، وبكل ما فيها من تشوهات وعنف وقسوة ، لكي يقذف بها في وجه مجتمع برجوازي استهلاكي مادي منافق محفلط وجبان ، ولم يكن ليقبل ابدا بالاعتراف بصدقها وحقيقتها ومصداقيتها، كما فعل الاسباني بونويل في فيلمه " الكلب الاندلسي " فاثار عليه غضب الطبقات البرجوازية التقليدية الرجعية الحاكمة، وكما فعل المخرج الايطالي بيير باولو بازوليني في فيلمه " ثيورم "- اي نظرية - واثار عليه غضب وحنق البرجوازية الايطالية المعفنة، فظلت تتعقبه وتطالب بمحاكمته، ولما لم تنفع معه محاكم، قامت باغتياله والتمثيل بجثته انتقاما منه علي رصيف الشارع العام ..

ويقول المخرج لارس فون تراير في حوار معه انه لم يكن يقصد ايذاء البعض بفيلمه بل لقد اراد فقط ان يكشف عن حقيقة التصورات بخصوص المرأة عند بعض المثقفين في الغرب، فمازال بعض الرجال ينظرون الي المرأة علي انها " ساحرة " من ساحرات العصور الوسطي وتستحق الحرق ، وقد اراد ان يسخر منهم ومن تصوراتهم في الفيلم، وان يتطهر هو ذاته اثناء صنعه من بعض عقده النفسانية ومشكلاته في التعامل معهن، وقد نجح. والغريب كما يقول تراير ان البعض من النقاد اساءوا فهم الفيلم وكتبوا ضده، ويريدون حرمان تراير في عصر الانترنت وفضاءات الحرية، من توجيه الانتقادات في فيلمه الي " حضارة الرجال في الغرب "..

فيلم " المسيح الدجال " بروعة تصويره، واحكام بنيانه، بايقاعه وافكاره وارتفاع مستوي جودة اداء الممثلين فيه وتألق شارلوت جانسبورج في دور الام والزوجة، وحصولها به علي جائزة احسن ممثلة في دورة مهرجان " كان " 62 ، يستحق المشاهدة عن جدارة. لانه باضافة الي كل ما ذكرنا ، يحقق اضافة فنية جديدة ومهمة الي مسيرة لارس فون تراير ( اخرج اكثر من 11 فيلما روائيا طويلا ولحد الآن ) كتجربة سينمائية أصيلة، تجربة متوهجة ومتفردة ومثيرة للاعجاب ..

السبت، أغسطس 01، 2009

تعقيب وتوضيح من الناقد امير العمري بمناسبة فوزه بجائزة قلم الاهقار الذهبي

المخرج الفلسطيني ايليا سليمان

ايليا سليمان في مهرجان كان السينمائي 2009

الناقد السينمائي امير العمري



تعقيب وتوضيح من امير العمري بمناسبة فوزه بجائزة " قلم الاهقار الذهبي " في النقد السينمائي



أمير العمري : لماذا والي متي يكون النقاد في المهرجانات للفرجة فقط ؟



كتب : صلاح هاشم

شعرت بسعادة غامرة ، عندما قرأت الخبر التالي الذي نشرته جريدة " ايلاف " بتاريخ الجمعة 31 يوليو 2009 ، بخصوص فوز الناقد السينمائي المصري الكبير الصديق أمير العمري المقيم في لندن بجائزة " قلم الاهقار الذهبي ".. ويقول الخبر:


" إيلاف من لندن: فاز الناقد السينمائي المصري أمير العمري، المقيم في لندن حالياً، بجائزة "قلم الأهقار الذهبي" وقيمتها 5000 دولار عن مقاله النقدي المميز عن فيلم" الزمن الباقي" للمخرج المصري إيليا سليمان بين الحداثة وما بعد الحداثة. ويعتبرأمير العمري واحداً من أبرز نقاد السينما في العالم العربي ، وهو كاتب وباحث ومحاضر سينمائي. نشر مقالاته السينمائية في عدد كبير من الصحف والمجلات العربية. حاضر في عدد من الجامعات، من بينها كلية الدراسات الشرقية في لندن، وكلية الاعلام في جامعة 6 أكتوبر. شارك بوصفه عضواً في لجان التحكيم لعدد من المهرجانات السينمائية العربية والعالمية أبرزها مهرجان "أوبرهاوزن السينمائي للأفلام التسجيلية والقصير" (ألمانيا)، مهرجان طهران للأفلام القصيرة (إيران)، مهرجان لوكارنو السينما (سويسرا)، مهرجان تطوان السينمائي (المغرب)، ومهرجان كان السينمائي (اللجنة الدولية للنقاد). شغل العمري عدداً من المناصب الإدارية نذكر منها، رئيس جمعية نقاد السينما المصريين (2002-2003)، ومدير مهرجان الاسماعيلية السينمائي (2001) ورئيس تحرير مجلة السينما الجديدة (2002-2003). ويحرر حالياً صفحة السينما في موقع بي بي سي أرابيك دوت كوم التابع لهيئة الاذاعة البريطانية. صدرت للعمري ثمانية كتب من بينها "سينما الهلاك: اتجاهات وأشكال السينما الصهيونية، اتجاهات جديدة في السينما، هموم السينما العربية وكلاسيكيات السينما التسجيلية". منهمك إضافة الى عمله في موقع البي بي سي بتحرير مدونة "حياة في السينما" على شبكة الانترنت التي أطلقها في أغسطس 2008. ". وأوضحت ايلاف أن المعلومات المذكورة في الخبر عن سيرة امير العمري الذاتية والابداعية، مقتبسة بتصرف من موقع وكيبيديا الحرة..

والحقيقة ان مصدر سعادتي وفخري بحصوله علي تلك الجائزة ، هو اعتزازي اولا بصداقتي لامير منذ زمن بعيد ، ولأنه أمير من النوع الذي لاينسي ابدا اصدقائه، فهو يذكر دوما بهم، ويتذكرهم ، ويحبهم كما هم ، وليس كما يحب امير ان يكونوا ، أن يكونوا مثله او علي ذوقه أوشاكلته ، ولذلك يتركهم امير (علي هواهم) اوعلي سجيتهم ، وهو شييء جميل ومتميز عنده، فهو لا يسعي ابدا لتغيير اصدقائه،ولا يطلب منهم ان يتمثلوا رأيه،او يشاركوه وجهة نظره في الحياة والسينما والافلام ، ولهذا السبب احمل لأميرمحبة وتقدير خاصين..

غير ان امير ، وهو جانب مهم جدا في شخصيته، يتميز عن بقية اصدقائي بميزة خاصة ومهمة ، الا وهي انه يشجع اصدقائه المقربين علي الابداع والعمل والكتابة، وقد كانت سعادتي كبيرة جدا بزيارته حديثا الي باريس،فقد تجولنا وتصعلكنا كالعادة في حواريها وشوارها ، وتحدثنا في امور شتي من ضمنها تربية العيال و الفن والافلام ، ولم نتعب من المشي والكلام ..

ومن خلال حواراتنا التي لم تنقطع، كنت اشعر بان تلك الحوارات المفتوحة علي الحياة والهواء الطلق تحت سماء باريس، يجب ان تسجل علي الفور حتي لا تضيع، وانها تحفز،ولو بشكل غير مباشر، تحفز وتشجع أيضا علي الابداع والعمل والكتابة، كما انها تشي في ذات الوقت بقلب انساني كبير عند " أبو ريم " يجعلك تحبه أكثر..

كتابات ذات طابع خاص

فرحت في الحقيقة لامير، عندما قرأت الخبر المنشور في " ايلاف " ، كما لو كنت انا الذي فزت بالجائزة، فامير صاحب قلم أصيل، ومتميز، وله " نفس " خاص في الكتابة – كتابة تفكر ، وتوظف السينما كأداة تفكير، بل وتشعر وانت تقرأ أحيانا مقالاته، بأنه كان يمكن بان يضيف اليها من عنده الكثير، الكثير من بنات افكاره ومواقفه وقناعاته، بالاضافة الي الافكار التي تضمنتها تلك المقالات من قبل،ومن هنا تنشأ متعة اللقاء والحديث معه، والصعلكة في صحبته في شوارع المدينة ، حيث لا ينتهي معه ابدا حبل الكلام عن الحياة والسياسة والافلام ومغامرة الكتابة..

هذه المغامرة المسنودة عند امير علي ثقافة سينمائية موسوعية، ومعرفة واجادة للغة اجنبية ، وتجربة حياة سينمائية وغير سينمائية عريضة ، وفضول معرفي لاحد له .لكني احببت بعد ان اطلعت علي الخبر المذكور ان استوضح امير أكثر في ما يتعلق بتلك الجائزة، فأرسل الي أمير الرد التالي الذي يقول فيه :



لماذا والي متي يكون النقاد في المهرجانات للفرجة فقط




" ..عزيزي صلاح
لم تشأ كل الظروف والترتيبات أن أشارك في مهرجان وهران السينمائي الثالث، وقد اضطررت بالتالي لعشرات الأسباب الخاصة بالعمل، وبانشغالي في مهرجان آخر انهمكت بالعمل فيه، وأيضا بسبب تعذر الاتصال المستمر مع ادارة مهرجان وهران، لترتيب التغطية الاعلامية التليفزيونية اليومية التي كنا في بي بي سي نعتزم القيام بها، وتركيز المهرجان على موضوع اشتراكي في حلقة النقد السينمائي.. بينما لم أتمكن من كتابة البحث المطلوب في حينه، وغير ذلك من أسباب، حالت دون ذهابي.
لكني شاركت بالفعل في مسابقة أفضل مقال بمقالي عن فيلم "الزمن الباقي" لسبب رئيسي، هو اهتمامي الكبير بفكرة حصول النقاد أخيرا،على تقدير حقيقي في مهرجان عربي من خلال مسابقة، وليس من خلال اختيارات أصحاب المهرجان ، وهو ما كنت أطالب به، وهذا من أهم الجوانب التي ابتكرها مهرجان وهران الذي لم يسبق لي حضوره بالمناسبة.
إنني أرى أن النقاد، الذين يصنعون السينمائيين ويساهمون بدور بارز في لفت الأنظار إلى أفلام كثيرة ومخرجيها، لا يلقون نفس ما يلقاه السينمائيون عادة من احتفاء وتقدير بمنحهم جوائز مالية. وكنت دائما أرى أنه لابد من تقدير جهود النقاد ، وتكريم هذا الجهد بما يليق، أي عن طريق تخصيص جوائز مالية أيضا على غرار ما يحصل عليه السينمائيون. وسواء حصلت أنا على الجائزة ، أم حصل عليها غيري من النقاد ، فهذا يعد تكريما لنا جميعا ولما نقوم به.
في المقابل يجب أن أعترف بأنني لم أكن سعيدا، عندما علمت أن مشاركة عشرة من النقاد في ندوة حول السينما العربية ويطلب من كل منهم إعداد ورقة بحث يساهم بها ، بكل ما يقتضيه هذا من جهد وعمل شاق قد يستغرق أكثر من اسبوعين إذا كان الناقد فعلا يتعامل بالجدية المطلوبة مع مادته، وعلمت ان المشاركة ستكون بدون أي مقابل مالي. وكان يجب في اعتقادي أن يقدر المهرجان هذا الجهد الخاص من المساهمات، وألا يقال إن هذا الجهد سيكون "تطوعيا"، فما معنى " التطوع " هنا خاصة وكيف يمكن ان يكون المقابل للجهد المبذول لكتابة المادة النقدية المطلوبة مجرد " تقدير رمزي " ، ولماذا يطلب من اي ناقد أو كاتب محترف التفرغ للقيام بجهد تطوعي ، في حين أن المهرجان يعلن أن لديه ميزانية تبلغ 2 مليون دولار؟
ولماذا لا يخصص المهرجان عشرين ألف دولار مثلا كمكافآت للنقاد؟ هل وجود النقاد الذين يساهمون في وجود المهرجانات وترسيخها، حتى ولو عن طريق انتقادها، أصبح وجودا رمزيا، هل يكفي دعوتهم للفرجة على تكريم السينمائيين (بالجوائز والتقدير والأموال أيضا!!). وحديثي هنا لا ينحصر فقط في مهرجان معين، بل يشمل معظم المهرجانات العربية. والموضوع بأكمله كما أشرت، يتعلق بمكافآت رمزية في النهاية، فهل ترقى في النهاية جوائز النقد أو مكافآت النقاد إلى ما يحصل عليه السينمائيون!
وأنا لا أتكلم عن المال من أجل المال، فهذه المبالغ لا تغني أحدا منا.
وأخيرا.. ولعلمك الخاص، حتى هذه اللحظة أنا قرأت ما نشر عن حصولي على جائزة ذات قيمة مالية منحتها لجنة تحكيم في مهرجان وهران، ولم يمنحها المهرجان، لكني لم أسمع ولا كلمة واحدة، ولم أتلق أي رسالة من المهرجان تفيد حصولي على هذه الجائزة، ولا من الذي استلمها نيابة عني مثلا.. لا شيء على الاطلاق من جانب المهرجان بل صمت مطبق.. فما معنى هذا؟ هل فوجيء المهرجان بحصول ناقد مستقل لم يحضر المهرجان، على هذه الجائزة من لجنة تحكيم لم يعلن عن أسمائها مسبقا ، ولم أكن أعرف ممن تتكون أصلا!
لا أعرف

وتقبل تحياتي

أمير العمري

..



كل هذه التساؤلات المهمة التي يطرحها امير العمري هنا في تعليقه هي مايجب ان ينشغل به كل نقاد السينما الجادين المحترفين بالفعل ، والمطلوب الآن موقف محدد وموحد تجاه تلك المهرجانات التي لا تحترم النقاد ولا تعجبها ارائهم وانتقاداتهم علي مساخرها وميزانياتها وحفلاتها الاستعراضية وتريد ان يعملوا ويكتبوا ببلاش. وباب التعليقات مفتوح في سينما ايزيس للتعقيب والنقاش والردود لمن شاء ان يدلي بدلوه..

سينما ايزيس تهنيْ امير العمري ، وبمناسبة حصوله علي جائزة " قلم الاهقار الذهبي " تعيد هنا نشر المقال الفائز بالجائزة المنقول عن مدونته " حياة في السينما " وبعض تعليقات القراء حوله..




المقال الفائز بجائزة " قلم الاقوار الذهبي "




فيلم "الزمن الباقي" لإيليا سليمان بين

الحداثة وما بعد الحداثة



بقلم امير العمري



فيلم "الزمن الباقي" للمخرج إيليا سليمان هو الإسم المطبوع باللغة العربية على شريط الفيلم الذي عرض في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ62 ، ورغم ذلك مازلنا نقرأ لمن يطلقون عليه "الزمن المتبقي"، تماما كما تطلق صحيفة معينة على فيلمه السابق "يد إلهية إسم "يد قدرية"!

كثيرون يعتبرون أن أسلوب التعبير السينمائي عند إيليا سليمان في فيلمه البديع هو أسلوب ينتمي إلى ما بعد الحداثة postmodernism في حين أن الصحيح أنه ينتمي إلى الحداثة modernism أساسا، وفي المقام الأول.

الأسلوب الحداثي يتضح أولا في كون الفيلم قائما على التأمل العقلي، رغم البناء الذي لا يمكن اعتباره بناءًَ تقليديا على أي مستوى. إنه بناء ينتقل بين الأزمنة انتقالات واضحة ومحسوبة عبر فترات زمنية محددة، دون أن يقفز فيما بينها أو يجعلها تتداخل بحيث لا يستطيع المشاهد التفرقة بين الماضي أو الحاضر: في الأزياء وطريقة التعبير أو الملامح، بل إن وجود "البطل- المؤلف- المخرج" في الكثير من لقطات ومشاهد الفيلم صامتا متأملا، يؤكد طيلة الوقت على وجود "صاحب الرؤية" أو "صاحب النص" وعلى أهميته، وهذه كلها من الملامح الأصيلة للحداثة modernism في حين أن ما بعد الحداثة تميل إلى استبعاد المؤلف أو التقليل من أهميته ومن أهمية ذاكرته أو حياته الشخصية، كما تميل إلى تداخل الأزمنة والخلط فيما بينها في نسيج مركب أقرب إلى "الاسكتشات".

ليس هذا فقط بل إن وجود المؤلف، صاحب النص والرؤية، يرتبط ارتباطا وثيقا بفكرة استدعاء الذاكرة، وتصفية الحساب مع الماضي، في محاولة لفهم ما حدث في الماضي، وكيف كان ممكنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه: على الصعيد الشخصي السينمائي يعيش واقعه داخل فلسطين المحتلة بكل ما يحيطه من مظاهر "اغتراب" يعبر عنها ويعكسها في فيلمه ببراعة، أو على الصعيد العام: الانتقال من تراجع إلى آخر، ومن اشتداد في القسوة يؤدي إلى مزيد من التهميش والاغتراب دون القدرة على الفعل لأنه محكوم عليه بالهزيمة أمام قوة بطش ليس لها مثيل في التاريخ بل إنها تبدو كما لو كانت قوة "من خارج التاريخ" لا يصلح معها بالتالي التعامل بالمنطق القائم بل بخلق واقع آخر هو أقرب إلى الحلم.

يتبع إيليا سليمان في فيلمه أسلوبا "حداثيا" modernist في تصوير ما يمكن وقوعه في الواقع ولكن مع بعض المبالغة أو التضخيم مثل مشهد الدبابة التي تتابع شابا فلسطينيا يخرج من بيته لالقاء كيس القمامة. صحيح أن التناقض بين الدبابة الضخمة ومدفعها الطويل، والشاب الضئيل الحجم وكيس القمامة التافه الشأن قد يثير السخرية والضحك، ولكن هذا أيضا ليس فقط قابلا للحدوث، بل إن مشاهد من هذا النوع حدثت أمام كاميرات التليفزيون وعلى الهواء مباشرة دون أن تثير أي ضحكات بالطبع لأنها تبدأ ثم تنتهي عادة نهاية دموية.

إذن هناك استبعاد لفكرة تصوير ما لا يمكن تصور وقوعه (وهو عنصر أساسي في سينما ما بعد الحداثة).

الزمن والماضي

ثالثا: إن سياق الصور والمشاهد وطريقة تركيبها معا ينتقل في الزمن تدريجيا، هو سياق ينشد مخاطبة العقل، ودعوة المشاهد إلى التأمل والتفكير، فهو لا يعتمد على العبث من أجل العبث بل يعتمد منهج التغريب من أجل التقريب كما عند بريخت، ولم يكن مسرح بريخت بأي معيار مسرحا ما بعد حداثي بل حداثي تماما لأنه لم يكن انقلابا على العقل بل محاولة لفهم التاريخ (أي الماضي والحاضر معا) من مقياس العقل والتأمل والإحساس بالمتعة الفنية الكامنة في البنية الداخلية للعمل الفني في الوقت نفسه.

رابعا: يمكن القول إن فيلم "الزمن الباقي" لا يقدم الماضي من خلال أي نظرة "نوستالجية" أي تعكس الحنين إلى ذلك الماضي، كما تميل أعمال ما بعد الحداثة عموما، بل الهدف من تقديم الماضي هنا هو فهم الوضع الذي وصلنا إليه في الحاضر، وليس التطلع بحنين إلى ما كنا عليه، بل التأكيد على استمرارية الدوران الجهنمي لعجلة التاريخ في اتجاه تكريس الظلم وتوسيع نطاقه، وفقدان القدرة على مواجهته بالقرارات والشعارات الفارغة طول الوقت، بحيث نصل إلى تلك الحالة "العبثية" التي يصورها إيليا سليمان حسب رؤيته الشخصية للحالة الفلسطينية التي تتلخص في: العجز، الدوران في نفس الحلقة، الصمت والانتظار، شيخوخة الذاكرة، ممارسة لعبة الكر والفر مع الطرف الآخر، الحلم بالقفز فوق الحاجز "المادي تماما" بطريقة سحرية، مثل الحلم بعبور نقطة التفتيش الإسرائيلية بل وتفجيرها تماما بقوة المرأة وفتنتها، أو تدمير دبابة إسرائيلية بقذفها ببذرة المشمش، أو التصدي لآلة الحرب الإسرائيلية الهائلة بقوة العدالة الإلهية التي تنزل فارسة جبارة من السماء في فيلم "يد إلهية".

وعلى الرغم من وجود المخرج- البطل- المؤلف حاضرا في الكثير من مشاهد الفيلم، يتطلع، ويراقب، ويتأمل، فليس المقصود هنا تجسيد فكرة "التلصص" التي تعد أساسا جوهريا أيضا في سينما ما بعد الحداثة، بالمعنى الحسي المباشر أي التلصص على ممارسة الجنس مثلا أي اقتحام المحرم وتصويره والفرجة عليه بعد تصويره سرا، أو تصوير الجنس بشكل جريء مقتحم صريح.

إن "تطلع"- وليس "تلصص" إيليا سليمان هنا، يجسد كما أشرت، الوجود المادي لصاحب الرؤية السينمائية (كمرادف لصاحب النص في الأدب) ويؤكد عليه كشاهد على مسار التاريخ طوال ستين عاما أي منذ مولده في عام "النكبة" نفسها 1948.

اختلاط الأساليب

ويغيب عن الفيلم أيضا ما يعرف في سينما ما بعد الحداثة باختلاط الأساليب والرؤي الفنية، وهو ما يطلق عليه منظرو ما بعد الحداثة pastiche أي المزج بين الأساليب مثل الكوميديا والدراما النفسية وأسلوب الفيلم الرومانسي والفيلم الموسيقي.. إلخ

هذا الانتقال الحر بين الأساليب الفنية في سينما ما بعد الحداثة يميل إلى تحرير السينمائي من التقيد بأسلوب أو منهج ما محدد في التعامل مع مادته، اتساقا مع التحرر من المفهوم "الأيديولوجي" الواحد في سينما الحداثة عموما، ومن فكرة الخضوع للشكل. ويظل هذا الطرح عموما طرحا نظريا، يتطور باستمرار ولا يمكن تصور أنه أصبح مغلقا غير قابل للمراجعة بل إن أساس فكر ما بعد الحداثة هو التطور المستمر والتعديل والتبديل والتداخل بل والانتقال ما بين مفردات الحداثة وما بعدها في نسيج فني واحد.

في فيلم "الزمن الباقي" هناك حقا نزعة إلى المبالغة الكاريكاتورية في تقديم الشخصيات والأحداث، هذه النزعة تتصاعد مع المضي في الزمن، أي أن الفيلم يبدأ بشكل واقعي ثم يميل في صعوده زمنيا إلى أسلوب أقرب إلى مسرح العبث، ولكن دون أن يكون هناك خلط وانتقالات متعددة بين أساليب سينمائية مختلفة بدون أي حواجز كما في أفلام أخرى تنتمي مذهبيا لسينما ما بعد الحداثة ربما كان أشهرها مثلا فيلم "برازيل" لتيري جيليام.

إن "الزمن الباقي" ينتقل من أسلوب إلى آخر في النصف الثاني منه، ليس كوسيلة لتحرير الخطاب من تقليديته، والتعبير عن موقف من الحياة يتمثل في رفض وحدة الأسلوب واللغة، بل يعد امتدادا لنفس الرؤية أو الخيال السينمائي داخل الإطار نفسه وهو السخرية من التاريخ ولكن من داخل المنطق التاريخي نفسه، وتصوير "الوجود الإنساني" نفسه باعتباره مأزقا مشتركا، فمأزق الفلسطيني ليس منعزلا هنا عن مأزق الإسرائيلي.

سخرية من التاريخ

إن مشهد توقيع وثيقة الاستسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في بلدية الناصرة، يكثف سخرية المخرج من التاريخ: هنا على الطرف الأول رجل دين مسيحي ورجل دين إسلامي، ورئيس البلدية الذي يهرع إلى مكان الاجتماع كل ما يقلقه هو تأمين حياته لذا يرفع له مرافقه علما أبيض من خارج نافذة السيارة. وعلى الطرف الإسرائيلي عسكريون ببزاتهم العسكرية الخشنة يعيشون وهما يصنعونه ويريدون تسجيله في وثيقة تاريخية هو وهم "الانتصار" كما لو كانوا قد خاضوا حربا ضد جيش حقيقي يضارعهم في قوتهم وبأسهم وانتصروا عليه بالقتال في أرض المعركة. إنهم أيضا يصرون على التقاط صورة تذكارية للجميع معا بهذه "المناسبة التاريخية" حسبما يقول الضابط الإسرائيلي. هذه سخرية واضحة من التاريخ من داخله.

ومع امتداد الزمن يتحول الفلسطيني إلى معتقل في بيته: إيليا سليمان يجلس مع والدته في شرفة المسكن، يكتفيان بالتطلع إلى الألعاب النارية بمناسبة حلول العام الجديد.

وعلى الأرض يبدو كلا الطرفين منغمسين في لعبة هزلية تبدو كما لو كانت ممتدة إلى الأبد. لاحظ مثلا المشهد الذي يتناوب فيه الطرفان، الفلسطينيون والإسرائيليون، جذب نقالة يرقد فوقها مصاب فلسطيني داخل مستشفى. هؤلاء يريدون إسعافه بسرعة، وأولئك يريدون اعتقاله. السلاح يحسم الأمر في النهاية ولكن هل يعتبر هذا الحسم خروجا من المأزق أم تعميقا له!

التأويل هنا واضح، والموقف أيضا واضح، وهو تأويل عقلاني تماما يحمل رؤية وموقفا سياسيا حتى لو لم يكن المخرج- المؤلف يقصد توصيل معنى مباشرا من خلاله. إنه ذلك "اللهو" الذي يبدو تلقائيا، أو يأتي في إطار "فوضى" بصرية، إلا أنها تلك "الفوضى المنظمة" التي تميز الفن الحداثي.

ولاشك أن رؤية إيليا سليمان الحداثية جدا، هي التي تسبب ما يطلق عليه "قلق التأثر" أو "المدلول المكمل" (حسب دريدا) الذي يرجئ المدلول باستمرار إلى ما لا نهاية. إنه يقترب من عالم ما بعد الحداثة دون أن يلجه بالكامل، بل يكتفي بالتوقف على عتباته، مفضلا الاحتفاظ بقدرته على التأثير والإقلاق حتى من خلال السخرية من التاريخ، ومن الذات، ومن الوعي المدرك.

إن لقطاته الثابتة (التي لا تتحرك فيها الكاميرا) التي يغلب عليها الحجم المتوسط medium shots تبدو الأكثر مناسبة للتأمل، للتفكير، لمراجعة المدرك المتلقى أو الوعي المتراكم وإعادة النظر، ليس فقط في التاريخ المروي، بل في الموقف الإنساني الذاتي أيضا. ولعل في هذا كله تكمن عظمة هذا العمل السينمائي الكبير وأهميته.

------



تعليقات علي المقال



sakita يقول...

مقال جميل، لدي تعليق قد يكون خروجا عن الموضوع قليلا:

ذكرت فيلم برازيل مثالا لفيلم ما بعد حداثي يه خلط وانتقالات متعددة بين مختلف الأساليب السينمائية... ورغم أنني أوافقك في مسألة الخلط بين الأساليب السينمائية إلا أنني لا أراه فيلما ما بعد حداثيا لأن له رسالة حداثية واضحة - الفيلم يشكل نقد للبيروقراطية، والمجتمع الاستهلاكي وهو متأثر جدا بأجواء رواية أورويل 1984 (وفي نهاية الأمر كلاهما يتحدثان عن موظف يقع في الحب متحديا أعراف النظام لكن يفشل) لكنه لا ينتقد النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي فحسب مثل رواية أورويل (الذي كان شيوعيا خاب أمله بالشيوعية بعد زيارته للاتحاد السوفييتي) بل ينتقد أيضا المجتمع الاستهلاكي وما يسمى بـ corporate america (رغم كونه بريطانيا) والبيروقراطية الخ.... النهاية أيضا مختلفة إذ أن بطل 1984 يدرك خسارته ويقوم النظام بالقضاء على رغبته بالمقاومة بالتعذيب وغسيل الدماغ أما في فيلم برازيل فلا يعلم البطل بأنه خسر بل يعيش في عالم من الأوهام - بحسب إحدى نهايات الفيلم فهنالك نهاية بديلة للسوق الأمريكي.

باختصار فيلم برازيل له نقد واضح لظواهر اجتماعية موجودة وإن كان يعتمد أسلوبا مختلفا... لا أدري ما هي بعد الحداثة تماما لكنني لا أظنها تقدم على مثل هذا النقد للمجتمع.


أمير العمري يقول...



عزيزي: موضوع ما بعد الحداثة طويل ومتشعب وأحسن ما قرأت فيه لباحث أمريكي (من أصل مصري) مشهور جدا في الولايات المتحدة وأوروبا هو الرائد الحقيقي لتيار ما بعد الحداثة اسمه إيهاب حسن Ihab Hassan يمكنك الرجوع إلى كتاباته وكتبه وهي عديدة. حاولت تبسيط الموضوع وتبيانه من خلال مقال تطبيقي وليس كلاما نظريا متقعرا، لكن تلخيص الأمر في حالة "برازيل" ينحصر في النقاط التالية:

العودة إلى أساليب سينمائية قديمة (مثل الفيلم نوار مثلا)، ويختفي فيه الفارق بين الماضي والحاضر والمستقبل. ترى الباحثة ليندا هتشيون أن "برازيل" ما بعد حداثي لأنه يعيد النظر إلى التاريخ بشكل ساخر، ولأنه يعد محاكاة ساخرة parody لفيلمين شهيرين هما "المدمرة بوتيمكين" لأيزنشتاين، و"حروب النجم" لجورج لوكاش. وكلها كما تلاحظ، تتعلق بالشكل واللغة والأسلوب، وهو ما تطرقت إليه في مقالي المشار إليه مقارنة مع فيلم :الزمن الباقي"، وليس لكونه يحمل رسالة ما أو موقفا فكريا.

__

sakitaيقول...


بالنسبة لما بعد الحداثة فانا لست مطلعا على الكتابات النقدية في الموضوع وأظن أنه أصلا مصطلح مختلف عليه (فوكو الذي يرى البعض نظريته البنيوية ما بعد حداثية كان قد انتقد الما بعد حداثة) فهو مصطلح ملتبس برأيي. لقد ظننت دوما أن الاهتمام في الشكل/البناء في أدب/سينما ما بعد الحداثة هو محاولة للتعبير عن مضمون ما بعد حداثي بشكل يلائمه... أما المضمون فهو فشل الحداثة وشعور الفرد بالوحدة الخ... سقوط الأيديولوجيات والايمان بعدم قدرة الإنسان معرفة الحقيقة بل كل ما نعرفه هو وجهة نظر ليس إلا الخ... لذا فأي فيلم له رسالة لم أكن أراه ما بعد حداثيا... ربما علي أن أقرأ أكثر عن الموضوع.