الخميس، سبتمبر 24، 2015

في ماهية النقد : الناقد السينمائي طبيب نفساني بقلم هوفيك حبشيان وتعليق من المحرر في مختارات سينما إيزيس


                                         مختارات سينما إيزيس
                                                          في ماهية انقد

لقطة من فيلم الف ليلة وليلة البرتغالي لجوميز

مختارات سينما إيزيس

 

في ماهية النقد

الناقد السينمائي طبيب نفسي

 يكشف العقل الباطني للمخرج

بقلم


هوفيك حبشيان


بين فترة وأخرى، يعود السؤال الذي طُرح مراراً حول أهمية النقد السينمائي: هدفه، فوائده، دوره في صناعة السينما من جهة، وتشكيل ذوق المشاهد من جهة أخرى. سؤال شرعي، وخصوصاً في ظلّ تدهور الدور الذي كان يضطلع به النقد في أزمنة سابقة، وأمام طغيان الصورة على حياتنا واندثار معناها وتعدد توظيفها، منها التوظيف السياسي والايديولوجي والرأسمالي. الا ان استجواب النقد اليوم دليل الى انه لا يزال حاضراً في حياتنا. وظيفته قد تكون تغيّرت مع مرّ الأيام، وخصوصاً في فترة ما بعد صعود الصورة على حساب الكلمة. اليوم، بات على النقد أن يخدم: يخدم الصانع، يخدم القارئ في صحيفة، يخدم المنظومة الشاملة. وطبعاً، ليست هذه وظيفة النقد الأهمّ. النقد ليس وظيفة تابعة للسينما، بل منفصل تماماً عنها، له أدواته الخاصة ولغته، ولو انه لا وجود له من دونها. وظيفته جمالية فكرية ثقافية في المقام الأول.
ما هو النقد السينمائي؟ ذات مرة، عندما طُلب مني أن أحكي عن النقد، تساءلتُ: كيف يمكن الحديث عن النقد، وهو ممارسة ليس لها قوانين محددة. ليس بعلم دقيق. ليس فيه معايير جامعة تُطبَّق على كلّ الأفلام، بل الصحّ والخطأ فيه مرتبطان بالتراكمات، ونتيجة الاختبار الشخصي والذوق. النقد لا يمكن أن يتكوّن نتيجة غريزة أو حاسة الشمّ أو فكرة جاهزة. انه معرفة، ولكنها معرفة غير نهائية. وهذا ما يضمن استمراريته منذ سنوات. لو كان علماً لانتهى منذ زمن طويل.
في النقد، عليك أن تحبّ الأفلام، لأنك ستمضي ساعات طويلة في مشاهدتها، وأحياناً مشاهدة أفلام رديئة، مكررة ومستهلكة. من الصعب طرح تجربة النقد ببضع مفردات دقيقة وجذابة، فهو أولاً وأخيراً ممارسة تتوقف الى درجة كبيرة على مزاج الكاتب وذوقه. الكاتب الايطالي أمبرتو ايكو كان يدّعي أن النقد يختلف بحسب ما أكله الناقد قبل دخوله الى الصالة.
أياً يكن، النقد ساهم في النهوض بالسينما، وشارك في انتشارها وشرحها وفكّ أسرارها وطرحها أمام جمهور من القراء السينيفيليين، حدّ انه يستحيل فصل أحدهما عن الآخر. النقد فنّ ايضاً. بعض المقالات النقدية أهم من الأفلام التي تتحدث عنها. بيد انه مهما علا شأن النقد، فهو في النهاية في حاجة الى "منقود" كي يكون موجوداً. العمل الفني يسمّى بالنقد ولكن يستطيع أن يكون من دونه. يصعب على الناقد أن يتكلم عن مهنته انطلاقاً من تجارب الآخرين. التجربة الشخصية هي الأهم. والنقاد أحدهم مختلف جداً عن الآخر. هناك نقّاد "نجوم"، يواصلون كتابة مقالاتهم في الندوات وشاشات التلفزيون، وآخرون يعتبرون أن كلامهم ينتهي مع انتهاء المقال ويفضلون الكتابة بعيداً من الأضواء. ربما هذا هو المكان الحقيقي لممارسة النقد، ذاك الذي لا يخضع للضغط أو للترويج. هناك نقّاد انتقلوا مع الوقت الى صناعة الأفلام وتخلّوا عن النقد، وهي كانت حلمهم الأول. آخرون عندما بدأوا بالكتابة، وجدوا لذة كبيرة واستمروا بها. هناك شعور بأن الكتابة عن السينما هي طريقة الناقد في صناعتها. شخصياً، كلما تعمّقتُ في روائع السينما، احترمت السينما أكثر، وقلت: ما حاجة السينما اليَّ كمخرج؟
النقد نشاط لا يحتاج الى أيّ شهادة من جامعة. المهم أن تثق به جهة وتفتح له منبرها. مع ذلك، هناك بين النقاد مَن درس السينما أو تاريخ الفنّ أو الصحافة. حتى ان بعضهم جاء من مهن أخرى لا علاقة لها بالفنّ، كالطبّ. طبعاً، أول الشروط لكتابة النقد: التحلي بثقافة سينمائية واسعة جداً. النقد الذي يكتبه شخص يشاهد للتو فيلمه الأول لا يُعوَّل عليه. ولا بأس اذا كان يمتلك الناقد ذاكرة جيدة، كي تحضر الأسماء والوجوه والتفاصيل ساعة يشاء. طبعاً، غنيٌّ عن القول انه يجب ان يتمتع بعين لاقطة وحسّ بالتفاصيل، يعني كل ما يمنحه القدرة على قراءة الفيلم، وتفكيك الظاهر والباطن. أحياناً، ما لا نراه في الفيلم من عناصر متسترة أهم مما نراه. في هذا السياق، كثيراً ما يقال لنا: "... وهل يعي المخرج كلّ المعاني التي تسقطها على الفيلم؟". أنا أقول: هذا غير ضروري. المهم ما يوحي لك الفيلم من معانٍ. في هذا المعنى، الناقد هو الطبيب النفسي للمخرج، يكشف عنه أشياء تكون في عقله الباطني ولكنه لا يدركها أحياناً. أنا من أنصار النقد الذي يكشف. الناقد الجيّد هو الذي يستطيع أن يشارك في صناعة الذوق وتطويره والارتقاء به، وتوجيه الأنظار الى أشياء تستحق الاهتمام والدعم.
النقد كما يُمارَس اليوم، وخلافاً لما يُعتقد، لا يعني أن نكوّن دائماً رأياً سلبياً ازاء الفيلم. النقد ليس دائماً "ضد" الفيلم، بل هو عملية تحقيق المسافة المناسبة منه للنظر فيه. على الناقد، أولاً، أن يظهر أيضاً قدرة معينة على التحليل والاجتهاد، الاّ ان هذا التحليل يجب الا يخضع لمعايير يتكرر استخدامها بشكل منتظم. ثانياً، على الناقد أن يعرف أكثر من المُشاهد، على الأقل كمعلومات، وأن يتسلّح بمفاهيم فكرية أكثر حداثةً من مفاهيم المجتمع الذي يعيش فيه. والا ما قيمة الناقد غير السبّاق الذي ينخرط في السائد من الأفكار المتداولة، يستنسخها بكسل شديد. هذا كله يفرض عليه أن يعيد النظر في بعض المصطلحات النقدية المتداولة، كـ"فيلم بلا هوية"، الخ. يجب تحديد ما الهوية وما الهوية في السينما، قبل أن نكرر ببغائياً مصطلحات ورثناها. ثالثاً، على الناقد أن يضع قدراً من الحبّ في مقاله ويتشارك هذا الحب مع الآخرين. في النهاية، نحن لا نتطرق الى دراسة طبية أو اقتصادية. مجالنا الجماليات، الألوان، الصورة المتحركة. المطلوب من النقد أن يُعديني حبّ السينما. تروق لي تسمية هذا الأمر بـ"سياسة العدوى"، على غرار "سياسة المؤلفين" الرائجة في فرنسا. المقصود هو أن ينتقل حبّ السينما من واحد الى آخر.
يُحكى كثيراً عن فائدة النقد. بالنسبة إلى النقاد، الفوائد كثيرة: أولاً السفر الكثير والتعرف الى بلدان وثقافات وحضارات وأماكن مختلفة. ثانياً، دخول الأفلام مجاناً. ثالثاً: التعرف الى صنّاع الأفلام والتقرب منهم والتشبع بعالمهم من الداخل. بالنسبة إلى غير النقاد، النقد مفيد بقدر افادة السينما نفسها: وعي اجتماعي، تكريس ثقافة الانفتاح، فهم الآخر. ثم، أليست الجمالية في ذاتها هدفاً لا يمكن التقليل من شأنه؟ يسألون أحياناً: لِمَ نحتاج الى رأي ناقد حين يمكننا أخذ رأي المواطن العادي؟ الجواب أن للأخير مهنة أخرى، وهذه المهنة تمنعه عموماً من أن يتزوّد الثقافة السينمائية الواسعة. الفرق بينه وبين الناقد ان الأخير يهتم بالسينما نحو عشر ساعات في اليوم، ثم يضع اطلاعه في تصرف القراء. لعل واحدة من وظائف النقد هي اكتشاف مخرجين وإلقاء الضوء على مواهب شابة، ومتابعة العمل الذي بدأته المهرجانات. مثل هيتشكوك مع شباب "الموجة الجديدة" في فرنسا صارخ في هذا المجال. هناك أيضاً مسألة تصنيف الأفلام وترتيبها وفق "جانرات" سينمائية مختلفة، فاستحضار القديم من خلال الجديد.
من الأفكار المغلوطة التي تلتصق بالنقد فكرة "النقد الموضوعي". ليس هناك شيء اسمه نقد موضوعي. هذا خطأ يقع فيه كثر. النقد الموضوعي يعني اننا أجرينا استفتاء وأخذنا آراء الآخرين ثم دمجناها بعضها ببعض كما تُدمج الفاكهة في آلة الـ"مولينيكس"، وحصلنا على خلاصتها. هذا ليس نقداً. ليس في النقد ديموقراطية. عندما يكتب الناقد، يكتب أولاً عن نفسه، وعن ذوقه وأفكاره وتطلعاته وثقافته. اذا انسجم رأيه مع رأي الأكثرية، فليكن، واذا لم ينسجم، فهذه مشكلة الآخرين وليست مشكلته. الأهم، ألاّ يكتب الناقد لغيره. بمعنى أن لا يكتب ارضاءً للقارئ "العزيز". في النهاية، النقد رأي، وليس من الضروري أن يكون الحقيقة المطلقة. الحقيقة المطلقة حول فيلم يمكن أن تتكون من خلال تراكم المقالات النقدية التي تفنّد تفاصيله.
يمكن الرد على مَن يدعي ان النقد يجب أن يكون بناءً بالقول إن البناء يكون حين يضع المخرج أسس الفيلم. بعدها، أينفع البناء أم التدمير؟ علماً ان هناك أفلاماً لا تستحق الا ان تسخر منها وبشدة. هناك نقد ساخر لم نألفه في العالم العربي. كوننا نعيش في مجتمعات شبه قبلية، فكلّ نقد ساخر او هازئ يُعتبَر تجريحاً. مرات ومرات، سمعنا صفة "حاقد" في معرض حديثنا عن فيلم. حتى لو لم تكن هناك أي علاقة شخصية بين الناقد والمخرج. استطراداً، في رأيي، من الأفضل ألا تربط الناقد بالمخرج أيّ صداقة اذا أراد أن يتحرك بحرية ولا يقع في فخّ الاخوانيات والمسايرة والشللية. هناك نقاد ينتصرون لفكرة انه يجب مراعاة ظروف صناعة الفيلم ومعرفة كلّ شي عن انتاجه، كما الحال مع الناقد البريطاني الكبير درك مالكوم الذي يقول لـ"النهار": "هناك مدارس نقدية عدة. هناك ناقد يقول لك: لا أريد أن أعرف شيئاً عن الهند، ولا عن مصاعب انجاز الفيلم في الهند، ولا عن الأعمال السابقة للمخرج. أريد أن أشاهد الفيلم بمعزل عن هذا كله وسأعطي رأيي فيه. أنا أعمل على عكس ذلك. كل ما يتجاهله الناقد الآخر يهمّني ويكون ذا أهمية في تقويمي للعمل. عليّ أن أكون مطلعاً على الواقع لأرى حجم التنازل الذي يقدّمه المخرج. طبعاً، الأمر أصعب عندما يتعلق الأمر بفيلم ايسلندي. أحياناً، يطيب لي أيضاً أن أقابل المخرج، وأسأله كيف أنجز الفيلم. ولكن هذا ليس واجباً على كلّ النقاد. أصنّف نفسي من النقاد التدخليين. تقتصر مهمتي على ارسال ناس الى السينما لا يكونون دائماً على استعداد تام لمشاهدة أفلام مختلفة. أحياناً أنجح وأحيانا لا.
في المجتمعات العربية، هناك خلل حقيقي في فهم النقد، خصوصاً في بلدان ليس فيها تقليد طويل في هذا المجال. في بيئة كهذه، وظيفة النقد تكون أصعب، اذ عليه أن يسبق المجتمع وأفكاره وأن يكون أكثر تقدمياً منه. نحن نعيش في منطقة أخلاقية، كلّ شيء فيها مرتبط بالكرامة والشرف. فلا عجب اذا تم النظر الى النقد باعتباره اهانة للشخص المنقود أو حتى انتقاصاً من رجولته (نعم، نعم). حتى ان بعضهم يعتبره قدحاً أو ذمّاً. قد يرفع عليك دعوة بحجة الإساءة الى أداء الفيلم التجاري في الصالات. ليس هناك وعي كافٍ في هذا المجال في العالم العربي. أما من جانب الكتّاب، فالنقد العربي يعيش الآن أسوأ أيامه: بين تخلي الصحف عنه وضيق المساحة المخصصة له، وعدم ولادة جيل جديد من النقاد، انتقل النقد الى وسائط التواصل الاجتماعي. وفيها ما هبّ ودبّ، من أخطاء وإبداء أراء سريعة تتراوح بين الشتائم والفكر البدائي. مشكلة أخرى تواجه النقد العربي: هجرة الشباب المطالعين باللغة العربية في الكثير من البلدان وتفضيلهم عليها اللغات الأجنبية، ولا سيما الانكليزية. وعدم قدرة اللغة العربية على مواكبة التطور التكنولوجي في مجال السينما.

hauvick.habechian@annahar.com.lb
عشر حقائق لنقد أفضل...
1 - على الناقد أن يكون ملماً بكلّ شيء. لا ننسى ان السينما تتكوّن من لقاء الفنون. تجمعها كلها. بدءاً بالسينما طبعاً، مروراً بالفنّ التشكيلي، المسرح والأدب والموسيقى.
2 - لا يمكن التعمق في السينما من دون الاطلاع على التشكيل. الكثير من المصوّرين السينمائيين استلهموا من لوحات كبار معلمي الرسم. هناك علاقة عضوية بين السينما والرسم، وذلك منذ بداية السينما، مع التعبيرية الألمانية.
3 - لا يمكن تجاهل المسرح. المسرح كان ولا يزال الينبوع الذي شربت منه السينما، ولو انفصلت عنه اليوم، الا ان المسرح هو أقرب الفنون الى السينما، وخصوصاً في استخدامه الحوارات.
4 - الأدب. وهل يمكن الحديث عن سينما بلا أدب؟ معظم الأفلام اقتباسات لروايات معروفة أو غير معروفة. حتى لو كانت السينما في مرحلة من مراحل تكوينها تخلّت عن الأدب لمصلحة النصوص الأصلية التي تولّى المخرجون كتابتها، طمعاً بالتخلص من تأثير الأدب في السينما.
5 - الموسيقى: الرفيقة الدائمة للسينما.
6 - هناك أيضاً علم النفس والجغرافيا والتاريخ. هذا كلّه ضروري كي نقيّم عملاً. الفيلم السينمائي ليس معزولاً عن محيطه. انه المحيط في ذاته.
7 - النقد لا يُمكن أن يمارَس بغض النظر عن تاريخ السينما ومراحلها وتطورها والتيارات التي صنعتها. للسينما عمق تاريخي واجتماعي وسياسي وجمالي لا يمكن تجاهله.
8 - النقد لا يمكن فصله عن مجمل الحركة السينيفيلية الغنيّة جداً في العالم.
9 - النقد الرصين هو نقد يتفادى استعمال صفات كثيرة من مثل "رائع" و"جميل" و"جيد" و"سيئ". الفنّ لا يُختزل بهذه الطريقة.
10 - هناك نقاد غربيون يبتعدون عن القول في فيلم معين اذا كان جيداً أم سيئاً. شخصياً، أميل الى النقد الذي يترك للمُشاهد فرصة أن يستنتج وأن يكرّس بعض الجهد في اقتناص المسكوت عنه والقراءة بين السطور



عن جريدة " النهار " اللبنانية بتاريخ 24سبمبر 2015


تعليق  من سينما إيزيس بقلم المحرر


أهم شييء في النقد الذي يحتاج الى ثقافة موسوعية، واعتبره ابداعا مستقلا عن الافلام التي يتحدث عنها، وان كان متصلا تبقى زيادة الخير خيرين ، هو انه يحتاج ان يكون لدى الناقد نهم معرفي ، وفضول واشتياق الى استكشاف العالم في كل لحظة وليس الآن فقط، كما يحتاج الناقد الذي يعيش هكذا ويتغذى على الأفلام، أن تكون بمثابة "الرئة" التي يتنفس بها، يحتاج الى اتقان لغة أو عدة لغات أجنبية، وهذا مهم جدا في رأيي لأن الترجمات عندنا عن لغات أجنبية وبخاصة في حقل السينما متخلفة جدا،ومغلوطة، وباطلة وغير دقيقة، وواقعة ، ولاتسوى. النقد السينمائي تغذيه حاسة أو غريزة أو حاجة الفضول المعرفي ذاك عند الناقد ، وحب الترحال والسفر والمغامرة، والتواصل من خلال الافلام مع الآخر والحياة والوجود.انه في كلمة- مع اعتزازي وتقديري لمقالك عزيزي هوفيك - - فلسفة حياة كاملة. فهكذا وجدته ومارسته ومازلت..

كل التقدير وخالص محبتي

صلاح هاشم .


كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس

ليست هناك تعليقات: