الثلاثاء، سبتمبر 08، 2015

البهجوري في باريس: ذكريات وحكايات الف ليلة وليلة في عاصمة النور بقلم صلاح هاشم في مختارات سينما إيزيس



مختارات سينما إيزيس


البهجورى فى باريس: ذكريات وحكايات

 ألف ليلة وليلة فى عاصمة النور

 

بقلم

صلاح هاشم











جورج البهجورى يعنى لى الكثير والكثير وهو أكثر من صديق لى ، فقد كان لحسن حظى أول إنسان مصرى ألتقى به فى باريس، وعندما أدرت الكاميرا لأصور لأول مرة بعد ما التحقت لدراسة السينما فى جامعة «فانسان» فى باريس، كان جورج البهجورى وفنه «موضوع» فيلمى الوثائقى الأول، وكنت قبلها قد تشرفت بالعمل معه فى مجلة «الوطن العربى » أول مجلة عربية خارج الوطن العربى ، اكتب عن مدينة باريس وأحيائها واحتفالاتها ومهرجاناتها وشوارعها الخلفية.. ويرسم هو هذه التحقيقات الميدانية.


تعرفت على الفنان المصرى الكبير جورج البهجورى فى باريس فى الشارع فى بداية السبعينيات، وتجمعنى بجورج - الذى أعتبره «عمى» وعمنا جميعا نحن أبناء جيل الستينيات فى مصر وأستاذنا- حكايات وحكايات مثل حكايات ألف ليلة وليل

 وأعترف أننى حرت من أين أبدأ، وأين يجب أن أتوقف، بل ماذا أكتب، بعد أن تدافعت الذكريات العزيزة التى جمعتنا.
تعلمت أشياء كثيرة من خلال الصداقة التى جمعت بيننا فى باريس، فقد أخذت عن جورج الذى كان يقدمنى ككاتب مصرى شاب وواعد من جيل الستينيات للعديد من أصدقائه مثل المغنى الفرنسى من أصل يونانى من مواليد الإسكندرية جورج موستاكى .
أخذت عنه حبه الجم للحياة وإقباله عليها، ومدّ اليد إلى الجار وإعلاؤه لقيمة «التسامح» فى حياتنا. وأعتبر أن لقائى الأول بجورج البهجورى فى الشارع فى باريس كان له أبلغ الأثر فى قرارى البقاء والاستقرار فى باريس بدلا من الذهاب للدراسة فى لندن، ومن ثم توجهى لدراسة السينما وحياتى بعد ذلك فى المدينة.. والذكريات التى كان البهجورى شاهدا عليها، من قريب أو من بعيد، ولسنوات طويلة وحتى زواجى من فرنسية، وميلاد ابنتى البكر.
أجل. لقد كنت محظوظا بالفعل، حين التقيت فى اليوم التالى على وصولى إلى باريس بجورج البهجورى مع زوجته فى متحف اللوفر، فى بداية السبعينيات، ولم أكن أعرف أى إنسان بعد فى المدينة الكبيرة، فى أول زيارة لى لعاصمة النور..
فدعانى هو وزوجته إلى العشاء فى بيتهما ،الذى تعرّفت فيه على أصدقاء كثر، وفتح لى بيته فى باريس، وجعل منه ملجأ وملاذاً وركناً أيضا للنوم، لشاب مصرى ساخط ومتمرد ومتشرد مثلى ، وهو لايعرف عنه أى شيء، سوى أنه ابن بلد من حى «قلعة الكبش» فى السيدة زينب، وقد حط فى باريس، بعد ان انتهى من «الفاندانج» أى العمل فى قطف العنب فى كل مزارع فرنسا، وبعد أن أجهز على كل عناقيد الكروم فى الريف الفرنسى البديع ، طاف بأنحاء البلاد ومدنها الكبرى ، من عند قرية «فيل فرتنش سور صون» بالقرب من مدينة «ليون» وحتى قرية «بار» بالقرب من مدينة «ستراسبورج» فى أقصى الشمال، ولا توجد فى جعبته إلا الحكايات، يقصّها على العابرين.
الآن اطمئن- قلت لنفسى - تستطيع أيها الوغد ان تتصعلك كما تشاء فى المدينة، وتجد فى المساء عند جورج ركناً يأويك ، فلا تضطر للنوم مثل صعاليك باريس «الكلوشار» على الأرصفة..
وحين خرجت فى تلك الأمسية الصيفية الجميلة من عند جورج فى شارع سانت اندريه ديزارت» قديس الفنون» وخطوت إلى الخارج، كانت باريس كلها - من عند كاتدرائية «نوتردام دو بارى » العريقة، وحتى ميدان «التروكاديرو» حيث يقع «متحف الإنسان» وحتى «سينماتيك» هنرى لانجلوا العريق- تفتح لى ذراعيها، وقد صارت لى أنا الدرويش المسافر من «قلعة الكبش» وطناً، وسكة إلى «الفضول» والدهشة المتجددة دوما.. والمغامرة
. •
تشكيل حديث وروح عريقة ..
مستمدة من المصرى القديم صانع الحضارة

منذ نحو 34 سنة أقيم فى متحف مدينة «لومان» الفرنسية معرض عن الحضارة المصرية القديمة من عهد الفراعنة حتى القرن العشرين ضم نماذج تعبر عن مصر
وكان للفنان جورج البهجورى حضور، فقد خصصت قاعة بالدور الأرضى للوحاته، وذهبت وكتبت:
قاعة صغيرة هى فى الحقيقة أقرب ماتكون إلى صومعة كاهن فى أحد المعابد المصرية، ومن هنا تبدو القاعة أوالصومعة إمتدادا حقيقيا للتاريخ المصرى القديم فى قلب الحارة المصرية، وانتقلنا من الوجدان التاريخى الجماعى لتلك الحضارة، إلى الوجدان المصرى الراهن المتمثل فى لوحات ذلك الفنان التى نستشف من خلالها امتدادا زمنيا راسخا لنفس البعد الحضارى المصرى ، ويبدو ذلك بشكل واضح فى ثلاثة عناصر أساسية فى لوحات جورج البهجورى ..
أولا: فى صورة المرأة الحامل والأقنعة والعائلة، نادرا ماتتفجر ألوان الفرح فى تلك اللوحات، بل تغلب عليها الألوان القاتمة- اللون البنى المحروق واللون الأزرق بدرجاته المتفاوتة، حتى أنها تكتسب بفعل تلك الألوان الترابية هالة من القداسة، وتبدو كما لو أنها قد أعدت خصيصا لكى يحملها بعضهم فى موكب جنائزى فرعونى مهيب.
فإذا تأملت الوجوه مليّا فى لوحاته، تبينت خطوطا حادة من الألم الممزوج بحزن يلخص رؤية «صوفية» فلسفية فى الحياة تنطق بها العيون كما لو كانت تتشوق إلى حياة أخرى ، بل انها تبدو لنا أحيانا وكأنها تشكو لنا حالها البائس، كما لو أنها تفكر فى أن تخطو خارج اللوحة.
خارج جدران سجن الذات واللوحة والألم والمصير الإنسانى.. ولن يكون فى وسعها إذا تيسر ذلك، سوى أن تفعل شيئا واحدا فقط: أن تحلّق .. ولا يدرى المرء لماذا يحس فى مواجهة لوحة من لوحات البهجورى أنه يود ان يعانق أشخاصها، فأى قدر غريب يجمعنا يا ترى ، ولماذا نتعاطف هكذا معها؟..
هل السرّ هو تلك الشطحات الصوفية ونظرات الدراويش التى تطل من العيون؟
تلك العيون الواسعة اليقظة الساهرة على العالم، كعيون «حورس» الإله المصرى الذى يرمز له بصورة باشق أو نسر من النسور الجارحة..إذن ثمة امتداد وجدانى لتلك الحضارة فى أعمال البهجورى ، لذلك فقد كان اختياره كفنان مصرى معاصر ملحق بمعرض عن مصر بالغ الأهمية والبلاغة.
ثانيا: عنصر الكتلة. هناك حالة من التوحد والامتزاج بين الأجساد والوجوه والأيدى فى لوحات البهجورى ، تعكس «حالة» من الثبات والاستقرار لا تتزعزع، حيث تتداخل الأجساد هنا وتلتقى العيون التى تنظر داخل الصورة وخارجها لكنها متشبثة أشد التشبث ببعضها، فتشكل لوحة أقوى من الزمن وعناصر الفناء، وتصبح جدارا غير قابل للهدم.
لذلك تبدو شخصيات جورج فى لوحاته كما لو كانت قد زرعت زرعا فى قلب اللوحة كالأحجار الجرانتينية التى قام المعمارى المصرى القديم بصفها هرما فى منتصف الكرة الأرضية بالضبط.
ثالثا: يتشكل هذا الامتداد التاريخى الزمنى للحضارة الفرعونية فى حاضر مصر، عبر إحساس الفنان بعنصر الضوء- ضوء الشمس التى قدّسها المصرى القديم وعبدها.
ورويدا رويدا يزداد إحساس الفنان بعامل الضوء وتأثيراته على فكره ووجدانه، وبالتالى على لوحاته، التى أصبح الضوء يطغى بشكل حاسم على أشخاصها فتبدو أطرافها غارقة فيه أو بالأحرى تسبح فيه

عن مجلة صباح الخير العدد3112 الصادر في 1 سبتمبر 2015

ليست هناك تعليقات: