الأربعاء، فبراير 04، 2015

سينماتيك باريس ينظم معرضا لمخرج أفلام الحب فرانسوا تروفو بقلم صلاح هاشم.كاتب ومخرج مصري


مختارات
سينما إيزيس






تروفو

       سينماتيك باريس ينظم معرضا لمخرج أفلام الحب
فرانسوا تروفو
  تروفو  كان يفكر دائما في المتفرج وهو يصنع أفلامه

  بقلم
 صلاح هاشم
كاتب ومخرج مصري

ينظم "السينماتيك الفرنسي" حاليا معرضا للمخرج الفرنسي الكبير فرانسوا تروفو الذي توفي في 21 اكتوبر عام 1984 ، في سن الثانية والخمسين، وذلك بمناسبة مرور ثلاثين عاما على وفاته. ويستمر المعرض حتى 29 يناير 2015. وسوف تعرض بالمناسبة كل أفلامه وتقام طاولة مستديرة حول التأثيرات التي أحدثتها أفلام تروفو وتراثه الفني على جيل السينما الفرنسية الشابة الجديدة. ويضم المعرض العديد من وثائق وخطابات ومراسلات وصور  وسيناريوهات-عليها تعليقات وتعديلات وشروحات بخط يده - تروفو، التي تعكس يقينا هوسه بإقتناء كل شييء والحفاظ عليه من الضياع والاندثار، ومقاطع من افلام تروفو ومتعلقاته الشخصية، والاختبارت الفيلمية الخاصة بإختيار الممثلين التي كان يجريها لمعرفة الممثل الأجدر بالدور في أفلامه، والعديد من الازياء وقطع  الأثاث – مثل مكتب تروفو في شركة الانتاج التي أنشأها لصنع أفلامها -  والملابس التي ارتدتها شخصيات أفلامه، كما في ذلك الثوب الأحمر الذي ارتدته الممثلة الفرنسية كاترين دينوف في فيلم " المترو الأخير"..
 وكانت أسرة المخرج الفرنسي الكبير الراحل أهدت السينماتي أرشيفه الثمين، فتوافرت له مادة غنية تستطيع بالفعل أن تؤرخ لمسيرة تروفو السينمائية الطويلة ، لأن كل مافي المعرض الكبير الذي يعتبر الحدث السينمائي الأول في عاصمة النور، يحيلنا الى ثيمة وموضوع " الحب " . أجل ذلك الحب الذي كرس له تروفو كل أفلامه، وجعلها دوما وابدا تفيض بتلك العواطف الجياشة عاطفيا وانسانيا التي تقربنا من انسانيتنا وتجعلنا نحب السينما أكثر في أفلام " 400 ضربة " و " جول وجيم " و عروس المسيسيبي " و فيلمه الأثير " إمرأة الجوار LA FEMME DACOTE   بطولة فاني ىردان وجيرار دو بارديو ، أحد أجمل الافلام التي تحدثت عن الحب في العالم..
أحب تروفو السينما وكان يقول : " .. أعمل افلامي لكي أحقق تلك الأحلام التي راودتني في فترة المراهقة، ولكي أسعد نفسي، والآخرين أيضا، اذا كان ذلك ممكنا .. " ..وقد وضعت ادارة مؤسسة السينماتيك هذه العبارة لتروفو على حائط معرضه الكبير في باريس لكي تكون أول مايقابلك حين تخطو الى الداخل. لتتعرف على حياة هذا المخرج تروفو( من مواليد باريس عام 1932 وتوفي في ضاحية نويي سور سن عام 1984 ) الذي مازال علي الرغم من مرور ثلاثين عاما علي وفاته, يشغل القلوب هنا والاذهان, باعتباره أحد أفضل المخرجين الذين أنجبتهم فرنسا, ضمن مجموعة " الموجة الجديدة " في أواخر الخمسينيات..
 وتضم جان لوك جودار وكلود شابرول وانياس فاردا وايريك رومر وغيرهم, وكانوا جميعهم يكتبون في النقد السينمائي، وينشرون مقالاتهم في مجلة كاييه دو سينما ( كراسات السينما ) التي كان يرأس تحريرها الناقد الكبير اندريه بازان,  وقبل ان يشرعوا في مابعد في اخراج افلامهم , بطريقتهم, ضد السينما السائدة.
 وكان فيلم " اربعمائة ضربة" لتروفو أول فيلم روائي طويل من اخراجه, حصل كما هو معروف علي جائزة عام 1959 في مهرجان " كان " السينمائي الدولي ففتح لاصحاب تلك الموجة الباب علي مصراعيه, لتجديد وتثوير السينما الفرنسية, بالاعتماد علي موضوعات حية, اقرب ماتكون الي السيرة الذاتية لمخرجيها واحلامهم واحباطاتهم( سينما المؤلف ), والنفور من اقتباس الاعمال الادبية, وتصوير افلامهم التي يكتبون سيناريوهاتها بأنفسهم خارج الاستوديوهات علي رصيف الشارع الفرنسي, وامساكهم فيها بتوهج الحياة ذاتها, نبضها وحيويتها, وتفاعلهم مع متناقضات المجتمع الفرنسي آنذاك, وحياته ومشكلاته. فكان ان تركت تلك الموجة بصمتها علي صيرورة وتطور السينما في العالم, شكلا ومضمونا, ووصلت تأثيراتها حتي الي مخرجين يعيشون في البرازيل مثل جلوبير روشا( سينما نوفو ) , وايطاليا مثل برناردو بيرتولوتشى, الذي تعلم السينما من خلال قراءة مقالاتهم في الكراسات الكاييه, و مشاهدة افلامهم في " السينماتيك " الفرنسي..

  اضغط علي الريشة حتي ينفذ دمي الي لحمك

 وكانت افلام فرانسوا تروفو الذي عمل في بداية اشتغاله بالسينما مساعدا للمخرج الايطالي الكبير البرتو روسوليني( الواقعية الجديدة ) , اكثر افلام هذه المجموعة تناولا و معالجة لموضوع الحب, او بالاحري موضوع العشق الجامح, في اطار ال21 فيلما التي اخرجها فرانسوا تروفو اثناء حياته, ومن ضمنها فيلم " عروس المسيسيبي" 68بطولة كاترين دينوف وجان جاك بلموندو, وفيلم " جول وجيم " 61 بطولة جان مورو وفيلم " الجارة " 81 الذي يعتبره البعض, أحد أعظم الافلام التي عالجت موضوع الحب في السينما العالمية. وهو الذي صنع من فاني اردان نجمة كبيرة في فرنسا, واطلق شهرتها كممثلة رائعة في البلاد, فانهالت عليها عروض الافلام من بعده, الا انها ومنذ ان اضطلعت ببطولة هذا الفيلم أمام  جيرار دوبارديو ولحد الآن, لم تستطع ان تتجاوز تمثيلها و دورها فيه, وتتفوق علي نفسها, في أي فيلم آخر بعده , فقد كان فرانسوا تروفو, الذي ارتبط معها بعلاقة غرامية آنذاك, فصل الفيلم كما يقولون علي مقاس نجمتنا..
 وكان كما في جل افلامه,  كما في فيلم " حكاية اديلين ه " 75 بطولة ايزابيل ادجاني, وجسدت فيه شخصية ابنة فيكتور هوجو, وفيلم " جول وجيم " بطولة جان مورو, وفيلم  " المترو الاخير" 80 بطولة كاترين دينوف,  كان يجعل من فيلمه, تصريحا بالحب لبطلته علي الشاشة, الا ان توقيعه علي ذلك التصريح في فيلم " الجارة" لبطلته وحبيبته فاني أردان, فاق كل التوقيعات, فقد كان توقيعا وقعه بدمه, كما تقول بطلة فيلمه " جول وجيم " , حين تروح تكتب رسالة علي ورقة لحبيبها في الفيلم,  فتقول له: " هذه الورقة هي لحمك. وهذا الحبر دمي. لذلك اضغط علي الريشة, حتي ينفذ دمي الي لحمك, ويتسلل الي ما تحت الجلد. يتسلل الي عروقك " ولعل فرانسوا تروفوا كان بالمثل يردد علي نفسه, وهو يصنع فيلمه ذاك " الجارة "لحبيبيته فاني أردان, فيقول " هذه الشاشة هي لحمك, وهذا الشريط الذي اصنعه لك هو دمي " فقد كلن تروفو مثلنا جميعا, أسيرا لامبراطورية العشق الجامح, العشق المجنون الذي لايعرف المساومة, العشق الذي لايرضي الا بالذوبان والانصهار في حضن الحبيب حتى لو قادنا جميعا  جميعا الي حتفنا..

          " الجارة " يكشف عن تأثيرات هيتشكوك ورينوار


هيتشكوك

فيلم " الجارة" يحكي عن مفاجأة تنتظر ماتيلدا( فاني اردان ) التي عشقت برنار( جيرار دو بارديو ), وانفصلت عنه, وتزوجت برجل آخر احبها وعوضها , او هكذا ظنت, عن حبها القديم, وكانت رحلت بعيدا عن برنار الي مدينة اخري كي تنسي والي الابد عشقها له, الا انها تكتشف بالمصادفة, ان الاقدار ساقت اليها من جديد ببرنار الذي احبته, حيث هبط مع زوجته في البيت المجاور, وهو لايدري بأن حبيبته القديمة, صارت جارته, فيعودان بلهفة الي استئناف علاقة حبهما القديمة, ويسكبان معا الزيت علي ناره التي لم تكن قد انطفأت بعد, فتأتي عليهما, وتقودهما الي حتفهما, وربما كانت قصة استئناف علاقة الحب القديمة بين حبيبين, قصة مستهلكة وقديمة وعادية, الا انها هنا علي يد فرانسوا تروفو, تتحول الي رواية بوليسية مشوقة, علي طريقة معلمنا هيتشكوك, الذي كان تروفو من أشد المعجبين بافلامه وصدرله كتاب قيم كما نعرف, جمع فيه حواراته مع المخرج البريطاني الكبير, وتظهر في فيلم " الجارة " تأثيرات هيتشكوك علي تروفو, من ناحية اهتمام تروفو في جل افلامه, كما في فيلم " العروس ترتدي الحداد " 67 بطولة جان مورو وفيلم " عروس المسيسيبي" 68  اهتمامه بعنصر التشويق في الفيلم , وكان كثيرا مايردد في احاديثه بأنه يهتم ب" متعة " المتفرج بالفيلم أكثر من اهتمامه ب " التحليل" اللازم, الذي يجب منحه للمتفرج, حتي يكون متفهما لاحداث الفيلم , اثناء متابعته لها علي الشاشة, وكان يقول ايضا انه اذا وجد نفسه عاطلا علي العمل, بسبب افتقاد افلامه لعنصر " المتعة ذاك المهم, فانه لن يتأسي ويحزن لحاله, او يتعجب من انه صار عاطلا عن العمل, لأنه يري عن قناعة, يري ان المخرج يجب ان يكون محبوبا ومرغوبا ومطلوبا, فاذا لم تكن افلامه تقدم متعة ضرورية للجمهور, فان الحاجة اليه تصبح معدومة, ولا عجب ان وجد نفسه عاطلا من دون عمل..
كما تظهر هنا في فيلم " الجارة " , وفي جل افلام تروفو , تأثيرات مخرجه المفضل واستاذه المخرج الفرنسي الكبير جان رينوار" قواعد اللعب " علي افلامه, عبر توجهات تروفو واختياراته الانسانية العميقة, في معظم افلامه, واهتمامه بتناول موضوع العواطف, وتداخلاتها في علاقتنا نحن البشربعضنا بالبعض الآخر, وتشريحه في افلامه ل عاطفة الحب التي توجع, ونحن لانكف عن لعب لعبته, منبع كل سعادة زائلة, ونخرج منها دوما ويالحظنا التعس خاسرين ومقهورين, ونحن نترك في كل فيلم من افلامهما, إن في " قواعد اللعب" وان في " الجارة "  قطعة منا. .
يا الهي ماهذا الفيلم الذي يجعلك تشهق بعد مشاهدته وتردد اجل هذا هو الحب الحقيقي. حب برنار وماتيلدا في " الجارة " LA FEMME DA COTE  الذي يجعلها تذوب, بالمعني السوائلي الدقيق للكلمة, وليس بالمعني المجازي, وتغيب عن الوعي في حضرته, وتروح تتوسل اليه اني ببعادك اصبحت دارا خربة مهجورة,  وارضا يبابا فاجعلني فقط ظلا لظلك..
 أجل هذا هو الحب الحقيقي الذي ينتهي بالجنون والموت, ومن لم يجرب هذا الحب او لم يعشه,  ولو مرة واحدة في حياته, فكأنه لم يعش, ولم يذق طعم الحياة والوجود, هذا هوالحب الحقيقي  الذي يحول فيلم " الجارة " بنسيجه الفني المرهف  الصوفي علي يد فرانسوا تروفو الي قصيدة حب مأسوية, تتسامي بمشاعرنا وبكياناتنا الانسانية , وكم هي , كما يقول المغني البريطاني ستينغ في اغنية له, جد هشة حقا. قصيدة صوفية روحانية تطهرنا كما في التراجيديات اليونانية من ادراننا, وتجعلنا نحب الحياة, ونحب هذا الحب " الحقيقي " , وتقربنا أكثر من أنسانيتنا. وفيلم " الجارة " مثل كل افلام فرانسوا تروفو, من الافلام المعمرة, ان صح هذا التعبير, فهي كلما قدمت,  مثل فيلم " غزل البنات"  لانور وجدي مثلا , كلما ازدادت جمالا ورونقا وحلاوة, وصارت قطعة منا.  وعلي الرغم من ان فاني اردان( ممثلة فرنسية.من مواليد مدينة سومور الفرنسية عام 1949. درست في الجامعة, ثم بدأت تمثل في المسرح عام 1974, وتفرغت للتمثيل في السينما منذ عام 1979, وتعرض لها حاليا مسرحية في باريس , ويشاركها البطولة جيرار دوباديو, في اول عمل مشترك لهما بعد مرور اكثر من عشرين عاما علي اجتماعهما معا في فيلم " الجارة "  ) مثلت بعد فيلم " الجارة "  العديد من الافلام, ومن ضمنها افلام لتروفو, وجسدت في فيلم متواضع للايطالي فرانكو زيفاريلي شخصية مغنية الاوبرا العظيمة اليونانية ماريا كالاس الديفا( ربة الغناء الاوبرالي من دون منازع ) الا انها كما ذكرنا, لم تنجح ابدا في ان تتجاوز دور " ماتيلدا " في فيلم " الجارة " , ربما لانها كانت آنذاك,  تعيش قصة حب متوهج ومشتعل مع فرانسوا تروفو ..
 وكانت حين تروح تتحدث في الفيلم الي برنار, وتحكي له عن حبها, فكأنها تخاطب فرانسوا تروفو, حبيبها , الذي يقف وقتذاك خلف الكاميرا, اثناء تصوير الفيلم , وتتواصل معه في عناق. وكانت فاني اردان صرحت لاحدي المجلات ان القيمة الاساسية في افلام فرانسوا تروفو تكمن في تغلغل جذورها في الحياة الحقيقية, وهي تجعلنا نشعر ان تروفو كان يفكر في المتفرج, وهو يصنع افلامه, وهو علي يقين من ان المتفرج, لابد وان يكون حساسا وذكيا ويقظا ومليئا بالامل, مثله تماما..


عن مجلة " الهلال " الشهرية  العدد 1463 .عدد يناير 2015

ليست هناك تعليقات: