البحث في مهرجان عربي عن صورة تشبهنا
السينما المصرية تسافر الي روتردام
بقلم
صلاح هاشم
نشر المقال كاملا في جريدة القدس بتاريخ الاربعاء 22 يوليو 2008
السينما المصرية تسافر الي روتردام
بقلم
صلاح هاشم
نشر المقال كاملا في جريدة القدس بتاريخ الاربعاء 22 يوليو 2008
البحث في مهرجان سينمائي عربي عن صورة تشبهنا: السينما المصرية تسافر إلي روتردام
صلاح هاشم
yesterday's story
السينما المصرية والعربية هل تتقدم أم تتأخر؟ والي أي حد استطاعت الافلام المصرية الجديدة التي عرضت في "مهرجان الفيلم العربي" في روتردام، هولندا حديثا، أن تمسك بتوهج الحياة في مصر، من خلال تسليطها الضوء علي المنعطفات والتغيرات الخطيرة التي يشهدها المجتمع المصري حاليا، وان تقدم من خلال أفلامها "صورة" تشبهنا؟ .. ثم ما هو الشيء الذي يجعلنا ننجذب إلي ذلك المهرجان المذكور، ويجعله متميزا عن بقية المهرجانات، أو بالاحري "الاحتفالات والموالد" السينمائية الرسمية العقيمة الكثيرة التي تعقد في بلادنا، ولا علاقة لها البتة بفن السينما، لا من قريب او بعيد؟ هذه تساؤلات طرحتها علي نفسي، وأنا أتابع أعمال وأفلام ووقائع الدورة الثامنة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام التي عقدت في الفترة من 18 إلي 22 حزيران (يونيو) مؤخرا في هولندا، وهنا محاولة للاجابة علي تلك تساؤلات.. ہ ہ ہ كان فيلم "عين شمس" للمصري ابراهيم البطوط هو أبرز فيلم في مسابقة المهرجان، وتميز عن بقية افلام المسابقة، بمشاركة افلام من سورية والمغرب والجزائر الخ، تميز عنها بموضوعه وأسلوبه الفني، واقترابه من روح الحداثة، والحساسية الجديدة في السينما، حيث لم تعد الافلام التي يصنعها شباب السينما الجديدة في العالم، في اطار المتغيرات الجديدة في زمن العولمة، تحكي قصة تقليدية بالمعني الارسطي أي لها بداية ووسط ونهاية كما في افلام السينما التجارية المصرية، التي ما زالت في وضع "محلك سر"، لانها تصرف اموالها علي "بضاعة" تجارية، لها مواصفات الفيلم التقليدي وتضع عينها في المحل الاول علي شباك التذاكر.. بل صارت "وسيلة تعبير" أساسا وأقرب إلي سينما المؤلف، فالمخرج هنا ابراهيم بطوط في فيلم "عين شمس" لا يحكي قصة، بالمعني المتعارف عليه، بل يعبر عن "رؤية" في العالم، وعن "رؤية" في فن السينما، اذ يستدرجنا في بداية الفيلم إلي داخل سيارة تاكسي، ونتعرف علي صاحبها ويقول الراوي ان سائق التاكسي لايعرف انه بعد 10 دقائق، سوف تنقلب حياته رأسا علي عقب، ثم يقدم لنا فتاة شابة لا تعرف هي الاخري إلي اين تذهب، فتطلب من السائق توصيلها إلي "وسط البلد" وهي لا تعرف مع السائق ان هناك "مظاهرات" شعبية تطالب بالتغيير ووضع نهاية للظلم علي الرصيف، ومواجهات بين قوات الشرطة وجماهير الناس، ومن خلال تقديم شخصيات الفيلم، يثير مخرج الفيلم فضولنا إلي معرفة ما سوف يقع لتلك الشخصيات، ويخلق عند المتفرج نوعا من القلق والتوتر "الايجابيين" ثم يعود بنا إلي الوراء ليحكي لنا عن تلك الشخصيات، وقبل ان تجتمع داخل التاكسي، فنتعرف علي سائق التاكسي الذي يعيش هو وزوجته في حي "عين شمس" الشعبي الذي تبدلت احواله كثيرا، فقد كانت "عين شمس" ذات يوم عاصمة لمصر في زمن الفراعنة وموقعا مقدسا زاره يسوع والعذراء مريم، ثم تغيرت أحواله وتدهورت بمرور الزمن، فصار أحد أفقر مناطق القاهرة وأكثرها اهمالا، ولم يعد حيا داخل مدينة، بل "مدينة" فقيرة عشوائية داخل العاصمة "الارستقراطية" باحيائها الغنية المرفهة.. أحياء مثل الكواكب السيارة وبسبب اتساع الهوة بين الفقراء والاغنياء صارت تلك الاحياء الشعبية في مصر التي تحتضن الفقراء والهامشيين والبؤساء والعاطلين عن العمل والراغبين من الشباب بلا عمل في الهجرة إلي امريكا او دول الخليج او أي مكان، مثل "كواكب" مستقلة، لها تاريخها وذاكرتها واستقلاليتها عن العاصمة البعيدة جدا "القاهرة"، بل وصار الانتقال من تلك "الكواكب" الشعبية السيارة إلي القاهرة (وسط البلد)، اقرب ما يكون إلي "رحلة" في مراكب الشمس إلي "نعيم" الحياة الحقيقة، وسعادتها ورغدها وبهجتها، وكأن الحياة في تلك "الكواكب" هي قدر مؤلم وحزين للبؤساء وحدهم، بل ليست حياة بالمرة، بل هي "الجحيم" بعينه، بسبب كل تلك المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسكنية والتعليمية والبيئية التي تعيشها وقد تكومت وتركزت وتراكمت، وصارت بمضي الوقت عصية علي اية حلول، حتي صار الانتقال إلي "وسط البلد" مثل الذهاب إلي "روما" في ايطاليا، وليس الهبوط في ساحة أو ميدان التحرير. فيلم "عين شمس" يحكي عن "حال" مصر من خلال نموذجين وأسرتين وواقعين وتضامن الناس حين يكتشف ان الطفلة ابنة سائق التاكسي وتدعي "شمس" (11) سنة مريضة بسرطان في الدم، وهو يفتح شبك السينما من خلال فيلمه علي مأساة العراق، ويترك للراوي في الفيلم "صوت" الفيلم، الانتقال بنا بحرية، إلي اماكن اخري في العالم خارج حدود مصر ليقول لنا ان هناك ما هو اكثر قسوة من رغبة شمس في الذهاب لرؤية "وسط البلد" البعيد في فسحة او نزهة، وان الموضوع في الفيلم ليس مصر وحكاية الطفلة " عين شمس " المريضة، او الرجل الغني الذي يعيش في قصر، ويشتغل عنده سائق التاكسي مع مجموعة من الخدم وهو يواجه مشكلة ديونه المتراكمة بالملايين،، بل الموضوع هو "النظرة" أي الطريقة او الزاوية التي ينظر بها الراوي ويمثل طبعا مخرج الفيلم او جزءا منه - إلي الحياة بشكل عام وكيف يفهمها ويفلسفها، كما انسان يشاهد الاخبار في التلفزيون، وينقل بواسطة الريموت كونترول من مشهد إطعام الحمام في "غية حمام" في حي عين شمس الشعبي، إلي مشهد للام التي تحمل طفلتها المريضة بداء سرطان الدم في مستشفي عراقي، إلي مشهد المظاهرات التي اجتاحت وسط البلد في فترة ما، بعدما اصبح العالم بالفعل "قرية صغيرة" وصار ما يجري وما يحدث من كوارث طبيعية وغير طبيعية، ومحاكم ومظالم وقمع ومظاهرات يمسنا جميعا ويحركنا ويؤثر فينا جميعا، وتتحقق معه "أخوة الانسانية" بشكل كامل بل ويتحقق معه "شرط السينما" الاول.. شرطها ان تمسك بتوهج الحاضر في بر مصر العامرة بالخلق، وذلك الحزن والسحر اللذين يغلفانه في الآن اللحظة، وأن تدخل في نار الزحام، وتمتزج بالحشد الانساني، وتدلف إلي " بحر " الناس الكبير من دون خوف أو تردد أو وجل. شرطها ان تعبر عن تلك "الحساسية" الجديدة الملتهبة اللافحة، وان توظف السينما كأداة للتفكير والتأمل في تناقضات مجتمعاتنا الانسانية، وان تقف ضد الظلم، ومع "كرامة" الانسان ضد ميكنته وادلجته وتحويله إلي "سلعة" او مجرد "مستهلك" أناني وحشري وضيع وغبي. وظيفتها ان تسافر في العالم مع الناس، لتحكي عنهم الآن في اللحظة، وهي تضع علامة نور في نهاية النفق المظلم .. ولا تهم هنا حبكة القصة او الرواية، بل صارت القصة والرواية هي الفيلم نفسه في "شموليته" الكاملة، في حساسيته الانسانية، واتساع افقه إلي ما وراء حدود السماء لمعانقة الطيور الراحلة، والسحب المحلقة والتواصل مع كل الكائنات والمخلوقات.. واعتبر ان فيلم "عين شمس" هو "جوهرة" سينمائية حقيقية، الا ان هذه الجوهرة للأسف بددها ابراهيم بطوط، او كسرها وجعلها هباء منثورا في فيلمه الانساني البسيط الجميل. بددها من خلال الإطالة والاستطراد بغباء والحشو التافه في العديد من المشاهد المملة، وكان يجب اختصارها، والاعتماد فقط علي سياسة " التلميح " او " اللطش " مثل عود الكبريت الذي يحرق الوجه بالتلويح به فقط، لأن داء السينما كما يقول المخرج الاسباني العظيم لوي بونويل هو في "التصريح" والثرثرات اللامجدية، ويمكن ان يغفر المرء للفيلم أي شيء، سوي ان يكون مملا..الا انك في فيلم "عين شمس" سوف تستشعر الممل بعد فترة، جعلنا نتذوق فيها بهجة السينما الحقيقية.. جوهرة حقيقية ولكن ويظهر ذلك التطويل الممل الذي يقتل "روح" الفيلم "عين شمس" في العديد من المشاهد، مثل مشهد العرس او "الفرح" في حي عين شمس الشعبي، وتدخين الحشيش اثناء رقص الغازية، وكما في مشهد الحوار بين المدرسة وام شمس، وكله رغي وحكي علي الفاضي ووقوف "محلك سر" في المكان، مما يؤثر علي ايقاع الفيلم، الذي بدا لنا في مشاهده الاولي متوهجا مثل مشهد الفتاة التي تغني الموال العراقي الجميل العذب، ثم سرعان ما يأخذ في الاستطراد والترهل، حتي حدا بالبعض منا إلي مغادرة قاعة العرض قبل نهاية الفيلم بوقت طويل للأسف.. والواقع ان ابراهيم بطوط تعرض لاغراءات كثيرة او عرض هو بنفسه تلك الاغراءات، فقد كانت بعض المشاهد تكفي مثلا لعمل فيلم مستقل وخصوصا العلاقة الحميمة بين ساكن القصر وساكن الحي الشعبي، الا أنه انساق وراء تلك الاغراءات المشهدية، واستسلم لتلك المشاهد الثقيلة، بدلا من تقطيعها او منتجتها او حذفها، اوالاستفادة منها بالقليل الموحي الضروري، القليل المحسوب، الذي لا يجعلنا نمل او نصرخ. كفي اقطع هنا الآن، حول من التحويل او الانتقال إلي مشهد آخر ولا تترك الملل يتسلل إلي فيلمك. وقد رأيت اثناء نقاش مع البعض في المهرجان ان فيلم " عين شمس " يستحق ان يحصل في مسابقة المهرجان علي جائزة، ليس بسبب الفيلم الذي اعتبرته "جوهرة" بددها مخرجنا هدرا، بل بسب "التوجه" في الفيلم، وجرأة وشجاعة الاسلوب الجديد الذي انتهجه بطوط في فيلمه.. أسلوب ابتداع او خلق "النظرة" الشخصية السينمائية، حتي وان لم يأت الفيلم كاملا او مكتملا، عكس تيار السينما التقليدية التجارية التي عفي عليها الزمن، وصارت افلامها مسخا ومسخرة، ولا طائل من ورائها، وضحكا وتهجيسا علي الفاضي، ولم تعد تناسب ابدا عصرنا.. توقف قطار فيلم "عين شمس" في السكة للأسف، وبدا الفيلم احيانا باهتا جدا وتقليديا جدا مثل افلام التلفزيون الثرثارة، وتختفي منها السينما نهائيا، ووقعت جوهرة "عين شمس" من ابراهيم علي الطريق وتدحرجت لتطحنها شاحنات الهراء السينمائي المبتذل العام، في افلام التخلف المصرية الهابطة العقيمة، وقضت عليها نهائيا، في حين استمر ابراهيم يسيرفي سكته للأسف، ولم يحاول ان يعود للبحث عن جوهرته، وانتهي الفيلم يا خسارة بالاستغراق في التقليدي الحكائي العمومي، الذي لا يودي ولا يجيب ولا طائل من ورائه،.. غير ان "تجربة " الفيلم ذاتها، ومنحي ابراهيم البطوط السينمائي الشجاع الفريد، يستحق بلا جدال الاشادة والتقدير عن جدارة، ونأمل ان يعود لصقل تجاربه وموهبته، وخوض "مغامرة" صنع سينما جديدة متميزة ضد السائد والمعفن والتقليدي، ونبذ حلول الوسط واغراءات المراوحة بين ما يريد وما يريدون، واعني بهم اصحاب رؤوس الاموال من المنتجين، والمضي قدما لصنع افلام من التراب بميزانيات متواضعة في اليد، ومن دون انتظار وصول الميزانيات الكبيرة الضخمة التي تكفي لتشييد وبناء مصانع سردين، واعني كذلك بتراب مصر : كنوزها واسرارها وماضيها وحاضرها وتاريخها بحواريها وازقتها في الريف والمدينة، وحكايات اهلها الطيبين المسالمين المقهورين المتمردين الصامتين والمتكلمين في آن، وحين افكر في ذلك "المنحي" اتذكر دوما أن المخرج الهولندي الكبير جوريس ايفانز سألني مرة وانا اجري حوارا معه عن عدد السكان في مصر، فقلت له 60 مليون نسمة، وكان ذلك تعداد مصر آنذاك، فصمت قليلا ثم قال لي : "ان معني ذلك يا عزيزي ان هناك الآن 60 مليون فيلم مصري لم تصنع بعد، وبحاجة إلي من يصورها فورا ويخرجها للشاشة".. واضاف السينمائي الحكيم العجوز، انه ليس مهما ان يكون "النهر" عميقا او طويلا، لكن المهم ان نعرف ان كانت "الأسماك" في النهر سعيدة، فوعيت الدرس. وعرض المهرجان الذي يبدو لنا في كل دورة ويحرص علي أن يكون بمثابة "تكريم" للسينما المصرية السينما الرائدة الأم العديد من الأفلام المصرية المتميزة، فقدم في حفل الافتتاح فيلم "هي فوضي" ليوسف شاهين الذي علي الرغم من جرأته وفضحه لانتهاكات الشرطة، لم يعجبنا، وبدا لنا مثل عدة " نمر" واسكتشات استعراضية تمثيلية مصورة، وطويلة ومملة، وتتحدث فيه الشخصيات من سيناريو تجاري اصيل مكتوب بحرفنة، ويصلح كمسلسل تلفزيوني فقط،اذ تغيب فيه السينما بالمرة، ويفتقد " السينما " التي تعودنا عليها من الأستاذ يوسف شاهين، الذي علي ما يبدو ترك الحبل علي غاربه لمساعده الاستاذ خالد، لكي يصنع بنفسه ذلك الفيلم، فيصبح مجموعة من هتافات وشعارات الاستنكار والتلصص الرخيصة ..ويكون بمثابة "امتحان" لجهاز الرقابة المصرية، لمعرفة هل يمكن ان تجيز عرضه في اطار الظروف الحالية التي تعيشها مصر، وقد نجحت الرقابة في الامتحان، لأن الفيلم ينتمي إلي نوع أفلام المغامرات المضحكة، ويحتشد بالشخصيات الكاريكاتورية "الجاهزة" مثل الملابس الجاهزة، من اول المدرسة التي تمنع المرشح الحكومي من وضع إعلاناته الانتخابية في المدرسة، وحتي رجل الشرطة الوحش المستبد، الذي يأكل بنهم وجشع حيواني، ويعيش علي استغلال الناس، ويخطف ابنة الجيران الجميلة الرقيقة، ويغتصبها في عشة في جزيرة علي النيل.. ولأن تلك الشخصيات تبدو لنا غير حقيقية بالمرة، وتتكلم من سيناريو مكتوب علي ورق، وتظهر دائما اما خيرة او شريرة / وتكون دوما "واضحة"، في تحركاتها وتصرفاتها وضوح الشمس في حين تهتم السينما الحقيقية بالابهام والغموض اللذين يتركان للمتفرج فرصة أو طاقة يعبر منها إلي قلب الفيلم وروحه، وتجعلنا بالتالي اذ تمنحنا فرصة - نتساءل، وتثير مخيلتنا، ونشارك هكذا في صنع الفيلم. ويبدو لنا أن ذلك "الوضوح" يقينا هو داء السينما المصرية، وهو رفيق المسلسلات المحشوة بالكلام والتفسيرات عن جدارة وقد شبعنا منه ونريد شيئا آخر.. ولذلك بدا لنا فيلم "هي فوضي" بسبب تلك الشخصيات و"الوضوح" الباهر المذهل في "الفيلم" ونعرفه جميعا بل وخبرناه، بدا لنا طويلا طويلا ومملا، وهو بشكله الحالي، اذا عصرته، فستهبط منه يقينا عدة افلام - 3 افلام علي أقل تقدير- "واضحة " ومرتبة وجاهزة فورا للعرض كما تعودنا في افلام "الهراء" السينمائي المصري، وانتاجاته الهابطة.. تلك الانتاجات السخية، وستجد في الفيلم عشرة افلام دفعة واحدة وكلها محكية بالرغي والحشو والكلام، التي لا تحترم "ذكاء" المتفرج ابدا، وترميه بالغباء والتواكلية والكسل، وتعتبر انه اكتع او غبي او تافه وسكران، وتكون واضحة وضوح الشمس، وجميعها او اغلبها كما نعرف، هي افلام للاستهلاك "المحلي الشعبي" مثل "أطباق الكشري" والرغي والثرثرة، ومجرد "مناظر" أي تصوير لكلام مكتوب علي ورق، واقرب إلي عروض المسرح الشعبي منها إلي فن السينما الذي يخاطب بالصورة، وينبذ التعليق المقحم الانشائي الذي يحدد لنا مسارنا خلال مشاهدة العمل، ولا يتركنا علي حريتنا، في حين ان أفلام الابهام او الغموض، كما يقول المخرج الياباني أو شيما هي التي تحفز مخيلتنا وتثيرها وتحركها كما في فيلم "رجل ميت" للامريكي جيم جامروش، وتكاد تكون اقرب إلي فن الشعر، الذي يعبر عن المشاعر والاحاسيس بالصورة، لكن يبدو ان المنتجين في مصر لم يتغيروا، في حين تغير الناس، وصاروا الآن بفضل الانفتاح التلفزيوني الهائل علي العالم اكثر علما ووعيا بانجازات الصورة الحديثة، ووجود افلام اخري مغايرة غير افلام السينما المصرية هذه، التي تنتج في بلادنا الآن، ولا علاقة لها بواقعنا او مشاكلنا، او بفن السينما لا من قريب ولا من بعيد، وقد نما وتطور "ذكاء" المتفرج المهروس في الزحام، ومشاكل وجحيم كل نهار، ولم يعد بحاجة إلي سينما الاستهلاك، وتطورت ذائقته، بحيث ان رهان السينما المصرية الآن هو الرهان علي "ذكاء" المتفرج المصري، ومخاطبته بصورة تتواءم وتتلاءم مع متغيرات العولمة، وواقعنا الملتهب الجديد، وحساسية عصرنا.. الجزيرة دور علي مقاس نجم وعرض المهرجان ايضا فيلم "الجزيرة" لشريف عرفة الذي اعجبني كفيلم يحكي قصة حقيقية، ويروي حكاية صعود سطوة مجرم في الصعيد من خلال تواطئه مع رجالات الشرطة، وقد استمتعت بالفيلم علي الرغم من طوله، وهو يبدو في البداية منفتحا علي عدة احتمالات ومعالجات وخيوط درامية، مثل قصة الحب بين هند صبري واحمد السقا في الفيلم، وقصة الصراع بين احمد السقا بطل الفيلم وعمه، الصراع علي الزعامة والسلطة، غير ان سيناريو الفيلم للأسف لا يشتغل علي تلك الخيوط ويطورها ويغذيها، بل يطرحها ويعرض لها فقط، ويمر عليها مرور الكرام، في حين ان كل خيط درامي منها يصلح لعمل فيلم مستقل، ويتوقف الفيلم عند عرض تلك الخيوط فقط، ولا يشبكها في خط الفيلم او مساره العام، بل يعود إلي الخط العام ليحكي عن قصة صعود مجرم مثل "الخط" في الصعيد، وتحدي السلطة الذي ينتهي بانتصارها، وفرض سطوتها. هناك "مناظر" فقط في "الجزيرة" تستوقفك، وتمثيل جيد لأحمد السقا، وحضور جمالي باهت فقط لهند صبري، التي لم تعد في رأينا تمثل في أي فيلم، كما مثلت في دورها الجبار في فيلم " مخبر وحرامي " لداود عبد السيد الذي صنع نجوميتها وجعل مفروضة " شكلا " فقط في العديد من أفلام السينما المصرية التي تهتم بالشكل فقط ومن دون اعماق، صارت هند تظهر فقط وتكتفي بهذا ومن دون أي سينما او تمثيل بالمرة، وصارت معه هند صبري شكلا وموضوعا مستهلكا، ومجرد "ظهور" فقط في افلام السينما المصرية، اما عن التمثيل فلا شيء. خرابة. وصار الفيلم كله استعراضا لعضلات مخرجنا شريف عرفة، وحركاته وزوايا تصويره، أي " الجزيرة " كله علي بعضه "تصوير" جميل فقط، مع تحريك لمجموعات في الفيلم تمثل شعب الصعيد، وهو شعب علي الرغم من كثرته في الفيلم، لا يتعامل معه المخرج علي انه صاحب دماغ ويفكر، بل تعامل معه علي اساس انه مجرد "عرائس" من قطن وورق مقوي، وكائنات لا تعي ولا تفكر، وليس لها أي حضور او كيان انساني من أي نوع في " الجزيرة " بل كائنات مطيعة وتنفذ الاوامر فقط، ولذلك قد تعجب بالتشكيلات وحركتها الجماعية في الفيلم، علي السطح فقط، الا انك سوف تتساءل الا يوجد صعيدي واحد في تلك التجمعات يوحد ربنا ليحكي عن شيء او يفتح فمه؟ كان كل هؤلاء الصعايدة في الفيلم مجرد "كومبارس" فقط لخدمة بطل الفيلم "هرقل" الجبار وتلميع اداء احمد السقا.. فيلم "الجزيرة" يهتم بالشكل والجماليات، وهذا حسن جدا ومطلوب،وهو مخدوم انتاجيا ومصروف عليه، لكي يصبح في النهاية "بضاعة" تجارية تقليدية بمواصفات "النجم" احمد السقا، وتوظيف نجوميته تجاريا لتحقيق ارباح ومكاسب، ولا شيء غير هذا، كما لا يوجد في الفيلم أي "هم" انساني حقيقي او "هم" سينمائي حقيقي. توجد فقط حسابات مكسب وخسارة وشطارة سوق، عند مجموعة العدل منتجة الفيلم، و"هم" صنع فيلم جماهيري ناجح ونظيف، لكن خال من أي هموم او أي تفكير، لأن اليافطة المرفوعة حاليا علي " دكان السينما " في مصر الآن هي: "سينما بلا فكر ولا تفكير ودوشة ووجع رأس، والأجر علي الله" من نوع "افلام الأسرة" الملفوفة في ورق سوليفان، وهي مجرد مسلسلات تلفزيونية مكثفة او مركزة، مثل علبة صلصة الطماطم، التي تغني عن الطماطم الحقيقية، ولا تسرق في الميزان.. كما عرض المهرجان فيلما مصريا قصيرا جميلا "ساعة عصاري" وهو فيلم التخرج لشريف البنداري ومأخوذ عن قصة قصيرة للروائي ابراهيم اصلان، يكشف بالفعل عن مخرج ذكي واعد، صاحب فيلم "6 بنات" وفيلم "صباح الفل" ويمثل شريف من خلال السينما التي يصنع، مع هبة يسري ومجموعة من شباب السينما المصرية الجديدة، الأمل في سينما مصرية جديدة تتأمل في واقعها وتاريخها وتقاليدها، لكي تكون امتدادا للسينما المصرية العظيمة التي صنعتنا في افلام صلاح ابو سيف، وتوفيق صالح ويوسف شاهين وكمال الشيخ وعاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة، وايقونتها المتوهجة شادي عبد السلام.. ويكفي ان تكون "حسنة" فيلم شريف البنداري الوحيدة، انه كشف في "ساعة عصاري" عن موهبة العديد من سينمائيين لا علاقة لهم بالتمثيل أصلا، كشف عن موهبتهم في التمثيل والاداء الهادئ المقنع الجيد، مثل الفنان ومهندس الديكور الكبير صلاح مرعي، "المومياء" لشادي عبد السلام و"الجوع" لعلي بدرخان، الذي تألق ومثل بحذق وذكاء ومهارة دور " الاب " في الفيلم، وعلاقته بابنه وزوجته، وحيرته امام طول قامة الابن، وقصر قامته ويبدو اننا عندما نشيخ، في اطار الظروف الجديدة التي تفرد لها قصة ابراهيم اصلان، نتضاءل جميعا بالفعل، وتقصر قامتنا، ونستشعر عجزنا وخيبتنا امام المتغيرات الجديدة، ونعيد النظر والتفكير في صورتنا المعكوسة في المرآة ونستسلم يقينا لوحدتنا وغربتنا، امام صراخ ذلك "الجديد" المتسارع المغيب المنقطع النظير.. السينما المصرية ويحرص مهرجان الفيلم العربي في روتردام وفي كل دورة علي ان تكون " السينما المصرية الرائدة"والأم حاضرة وبكثافة في كل دورة، وقد عرض المهرجان ايضا فيلما تسجيليا "غيفارا عاش" اخراج مها شهبة، اقرب ما يكون إلي الريبورتاج التلفزيوني، كما عرض فيلم "جنينة الاسماك" ليسري نصر الله، وحرص ايضا إلي جانب عرض الافلام المصرية، علي حضور "الكيان "الانساني المصري الجميل، الذي يشكل ماضي وحاضر هذه السينما شكلا ومضمونا وروحا وفكرا ووجدانا، فدعا إلي الحضور نجوم الفن السينمائي المصري الممثل بشخصيات فنية عملاقة من امثال الفنانة سميحة أيوب، التي تمثل شموخ المسرحي المصري كله، مجسدا في كيان امرأة، والفنانة العملاقة الإنسانة المتواضعة سميرة عبد العزيز، والفنان كاتب السيناريو المصري الأصيل الرائع محفوظ عبد الرحمن، الذي لولا دعمه منذ البداية والتأسيس لمشروع المهرجان، ووقوفه إلي جانب المجموعة التي تنظمه وتديره، الرئيس الحالي التونسي د.خالد شوكات، والعراقي المدير الفني انتشال التميمي، واقتناعه وايمانه بفكرته واهدافه في التواصل مع الشعب الهولندي، من خلال فن السينما، ما كان لهذا المهرجان ان يحقق هذا الحضور الفني العربي الانساني الحضاري المشرف في روتردام، خلال دورته الثامنة هذه والدورات السابقة.. كما دعت ادارة المهرجان ايضا الفنان الممثل العملاق عزت العلايلي: "الارض" ليوسف شاهين و"السقا مات" لصلاح ابو سيف، ابن " بركة الفيل" من حي السيدة، وصاحب الادوار الشامخة في روائع سينما مصر، كما دعا الفنانين احمد السقا والممثلة رولا محمود "كليفتي" لمحمد خان، وشاركت في تقديم بعض الندوات والترجمة، والمنتجين سامي ومدحت العدل وكرس لهما ولمجموعة العدل كأسرة سينمائية ناشطة وفاعلة ومؤثرة علي خريطة السينما المصرية، كرس لهم ندوة كاملة، من ضمن ندواته الثلاثة التي ناقش فيها ايضا "جدار" العار الاسرائيلي في فلسطين وحضوره في السينما . روتردام العربي حالة خاصة كما ناقش المهرجان في ندوة متميزة ثالثة، موضوع المرأة في السينما العربية، وكانت تلك الندوة في رأينا احد اهم الندوات الجميلة المشوقة وأكثرها احترافا ودسما التي عقدت في المهرجان خلال السنوات الثلاثة الماضية التي حضرناها، وشاركت في الندوة المخرجة المصرية المتألقة بفنها السينمائي الانساني الجميل هالة خليل "أحلي الاوقات"، والمخرجة التونسية الكبيرة سنا ومقاما ومركزا سلمي بكار، والمخرجة الفلسطينية والكاتبة والمنتجة ليالي بدر، وحكت كل مخرجة علي حدة تجربتها وتاريخها وعن انجازاتها في السينما، ما حققت وما تتمني تحقيقه، وكانت ندوة انسانية ومشوقة عكست آمال وطموحات وتوجهات المرأة المخرجة في السينما العربية، كما عكست ايضا " الحالة الخاصة " الانسانية المتميزة والمتفجرة دوما في مهرجان الفيلم العربي في روتردام وجعلته مختلفا ببساطته وانسانيته وحسن الاستقبال عن بقية المهرجانات الاستعراضية الاحتفالية السينمائية الكثيرة في المنطقة العربية ومنطقة الخليج بالذات، التي تهتم فقط بالكم أي عدد الافلام والتكريمات التي لا حصر لها والفشخرة والمنظرة والاستعراض والتي تصرف علي الضيوف الاجانب الخواجات بلا حساب، وذلك علي حساب السينما، أي حضارة السلوك الكبري كما نفهمها، التي تقربنا أكثر من إنسانيتنا، وتبحث وتفتش لتعرف ان كانت "الأسماك" في النهر سعيدة قبل أي شيء آخر. ولذلك لم يكن غريبا ان ينال المهرجان في حفل الافتتاح تكريم وتقدير العديد من المؤسسات الثقافية المهمة في روتردام وهولندا، بعدما اصبح " طاقة " فنية عربية أصيلة، تتفجر بالأمل والنور بفضل تلك الإدارة الجديدة للمهرجان التي تؤسس تحت ادارة شوكات والتميمي بفضل نزهة ومحمد وعادل، وماهر وزينب وساريتا، وحميد وروش وبول وثريا وغيرهم ومستفيدة من كل تلك الكفاءات والخبرات العربية والأجنبية علي مستوي العرض والتنظيم، تؤسس لمهرجان عربي سينمائي فني أصيل حقا، يستحق ان نفتخر ونشيد به جميعا في أوروبا، لخلق اجواء صداقة صحية للتعارف والتفاهم والتواصل والحوار مع أنفسنا والآخر والغرب، من خلال السينما.. جوائز مهرجان الفيلم العربي الدورة 8 في روتردام شهدت قاعة سينراما بروترادم حفل اعلان جوائز الدورة الثامنة لمهرجان الفيلم العربي. في مسابقة الفيلم التسجيلي القصير تنويه خاص بفيلم "انا فلسطيني" لأسامة قشو، وذهبت جائزة الصقر الفضي إلي فيلم "ذاكرة امرأة" للتونسي لسعد الوسلاتي، وحصل علي الصقر الذهبي الفيلم الفلسطيني "مغارة ماريا" لبثينة خوري. وفي مسابقة الافلام التسجيلية الطويلة نوهت لجنة التحكيم بالفيلم الاردني "اعادة خلق" لمحمود مساد، وذهب الصقر الفضي إلي "جيفارا عاش" للمصرية مها شهبة، اما الصقر الذهبي فكان من نصيب الفيلم العراقي "حياة ما بعد السقوط" لقاسم عبد. وفي مسابقة الافلام الروائية القصيرة فاز الفيلم البحريني "غياب" لمحمد رشيد بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، وذهب الصقر الفضي إلي الفيلم الاماراتي "بنت مريم" اخراج سعيد سالمين، اما الصقر الذهبي فكان من نصيب فيلم "ايدي وسخة صابون نظيف" للمصري كريم فانوس وفي مسابقة الافلام الروائية الطويلة فاز فيلم "عين شمس" للمصري ابراهيم البطوط بجائزة شبكة راديو وتلفزيون العرب ايه ار تي المخصص للعمل الاول او الثاني، بينما فازت هند صبري بجائزة احسن ممثلة عن دورها في "جنينة الاسماك"، واللبناني جورج خباز بلقب احسن ممثل عن فيلم "تحت القصف" اللبناني، الذي فاز ايضا بجائزة الصقر الفضي، بينما فازالفيلم الجزائري "البيت الاصفر" بجائزة الصقر الذهبي. ہ كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في فرنسا qpt3 |
حنا ورد - مقال كالذهب العتيق
صباح الخير أستاذ صلاح منذ زمن ونحن نقرا المقالات الصحفية اليومية وتدعي انها مقالات نقدية سينمائية بينما هي ليست أكثر من مقالات صحفيية اخبارية. هذه مقالة نموذجية للنقد السينمائي الجاد. شكرا لك حنا ورد مدير تصوير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق