الأربعاء، يوليو 30، 2008

وصية شاهين.حب الوطن وعشق الانسان بقلم صلاح هاشم

شاهين في لقطة من الفيلم.وصية شاهين : حب الوطن، وعشق الانسان

الفنانة يسرا في لقطة من فيلم الاسكندرية كمان وكمان.سينما المكاشفة


في فيلم " الاسكندرية كمان وكمان "


وصية شاهين


حب الوطن ، وعشق الإنسان



بقلم صلاح هاشم




اعتبر ان يوسف شاهين، الذي توفي اليوم الاحد 27 يوليو 2008 عن 82 عاما هو مؤسس تيار " المكاشفة " وحساب الذات في السينما العربية الجديدة، اذ يجسد المخرج المصري يحيي الاسكندراني في فيلم " الاسكندرية كمان وكمان " من انتاج 1990 حالة خاصة، في اطار عملية الخلق الفني ، داخل بلد محدد هو مصر. وهذه الحالة الخاصة، في اطار الظروف الموضوعية العامة ، اجتماعية وفكرية وسياسية واقتصادية التي تعيشها ، هي موضوع فيلم شاهين، الذي يضع نفسه أمام المرآة،لكي يكتشف ملامح وقسمات تلك " الحالة " الخاصة جدا في شخصية يحيي الاسكندراني..

الاسكندرية كمان وكمان هو فيلم أقرب مايكون إلي افلام " السيرة الذاتية " التي تسلط الضوء علي وضع انساني محدد، خلال فترة بعينها، وهو من هذا المنطلق فيلم للتاريخ وعن التاريخ، ينضم الي فيلمين سابقين من افلام شاهين هما " الاسكندرية ليه ؟ " انتاج 1979 وفيلم " حدوتة مصرية " 83 ليشكل " ثلاثية " هي الأولي من نوعها في السينما العربية، فها هو شاهين، وبعد مرور اكثر من عشر سنوات علي انتهاء الجزء الاول في المرحلة الفرنسية الذي شهد فيلمي " الوداع بونابرت " 85 و " اليوم السادس " 86..

هاهو " جو " يعود في هذا الفيلم، الي وقائع شخصية وتاريخية محددة، ويطرح هذه الوقائع من خلال مرآة الشخصية، في علاقتها بالتاريخ، حين تكون " الأنا " هي المحور الأساسي في الفيلم، ولذلك يعد " الاسكندرية كمان وكمان احد اهم الأفلام العربية في تاريخها، اذ يؤسس لما نحب ان نطلق عليه " سينما المكاشفة " الذي يؤكد علي قيم " الفردية " من حيث هي " بلورة " لفكر فردي فريد ونبيل وأصيل ومتفرد، في مواجهة تلك الافكار والجماعات التي تحارب كل ما هو نبيل وانساني، وتريد ان تكتسح بتياراتها السلفية الظلامية المتعصبة الفكر الآخر، وتعمل علي اخراس الالسنة..

يركز فيلم " الاسكندرية كمان وكمان" علي هواجس وهموم يحيي الاسكندراني، الذي يعيش حالة " انفصام " عن النجم – أو الذات الاخري – الذي كان يقوم ببطولة أفلامه، وقد انشغل هذه المرة عن مخرجنا بمسلسلات وأفلام تليفزيونية مشبوهة بأموال مشبوهة..

ندلف الي الاسكندرية من أول لقطة ونلتقي بيحيي المخرج الاسكندراني ونسافر معه الي مهرجان برلين، حيث حصل فيلمه علي جائزة الدب الذهبي جائزة احسن فيلم ،ثم نتجه معه الي مهرجان " كان " الذي لم يحصد فيه الا مرارو الفشل، ونعيش معه قصة انفصال نجمه الذي يقوم ببطولة افلامه عنه، كما نعيش معه علاقته بفنه حيث يخرج فيلما بعنوان " هاملت الاسكندراني، ولا ينجح عمر " نجم افلامه " لا ينجح للأسف في تقمص شخصية هاملت كما يريدها المخرج ويطلبها..

يمنحنا الفيلم مخرجا شابا جديد هو يوسف شاهين، حيث يمثل ويرقص ويغني في الفيلم، ويطلب منا في اغنيته ان نري العالم بعيونه.. وان نتفحص جيدا في عينيه لنري شهادة الحب.حب الوطن مصر وعشق الانسان.

ويشارك يحيي المخرج الاسكندراني الذي يلعب دوره شاهين ذاته في اضراب الفنانين في مصر ضد سلطة النقابة، واذا به يلتقي بهذه الممثلة الشابة " نادية " وتقوم بدورها الفنانة يسرا ، فيقع في حبها، ولا يستطيع أن يصارحها بحبه، ومن خلال علاقته بها تتفتح ذاته علي أشياء ووقائع وأحداث، مشاعر وأحاسيس ورؤى لم يكن يفهمها، او يستشعرها من قبل – من خلال المشاهد التي تظهر فيها يسرا في دور الملكة " كليوباترا " ويوسف شاهين في دور أنطوني مرة ، ثم في دور الاسكندر الاكبر مرة اخري ، وهكذا يقدم لنا شاهين " رؤية " ذاتية تهكمية ساخرة في آن، لبعض الشخصيات التاريخية التي تركت بصماتها علي حياة وتاريخ المدينة..

كما ان " الاسكندرية كمان وكمان " في رأينا ، يطرح أيضا " رؤية " ذاتيه لهذه المدينة المتوسطية العريقة – كانت أول " عاصمة " لمصر – التي تشكل في جوهرها مساحة للتواصل والتسامح والتعارف والتفاهم وتبادل الثقافات بين جميع الأمم والأجناس، كما يتمثلها فنان كبير مثل يوسف شاهين..

نتابع في الفيلم أيضا مشاكل وهموم عملية الخلق الفني السينمائي، حيث يصنع يحيي مخرجنا الاسكندراني فيلما عن " هاملت " لشكسبير ويضع له عنوان " هاملت الاسكندراني "، وهي بالطبع تحية إلي مسرحية هاملت الشهيرة وتحية الي مؤلفها الكاتب المسرحي الانجليزي وليام شكسبير، فقد كان شاهين يحلم بتمثيل دور هاملت عندما كان يدرس في كلية فيكتوريا وقبل ان يشد الرحال للسفر والذهاب لدراسة السينما في أمريكا..

يكشف الفيلم الذي يجسد " فن المكاشفة " من ابتداع شاهين وعند شاهين عن جدارة، يكشف أيضا عن التناقض بين شخصية الممثل وشخصية المخرج في ذات المخرج شاهين.لكنه هاهو شاهين يحل لنفسه هذه المشكلة، فيقوم ببطولة الفيلم بعد أن قام محسن محيي لدين بدور شاهين في " الإسكندرية ليه ؟ " الذي حكي لنا فيه عن رحلته لدراسة السينما بأمريكا، وقام الممثل نور الشريف بدور شاهين في ذلك الجزء الثالث من " الثلاثية " ونعني به فيلم " حدوتة مصرية " ويحكي لنا فيه عن عملية تغيير شرايين القلب التي أجريت له..

فيلم " الإسكندرية كمان وكمان يضع رؤية الذات علي حقيقتها ، من خلال أزماتها وهمومها، مع رؤية الواقع علي حقيقته، من خلال الإضراب في النقابة، يضعهما مع حال السينما العربية في المهرجانات الدولية مثل فينيسيا وكان داخل بوتقة الفن الشاهيني، ليصنع لنا " تركيبة " مدهشة وساحرة من الأحاسيس والمشاعر والأفكار والأغاني والمواقف، تنفخ من جديد الروح في السينما العربية وتمسح عنها التراب. وفيلم " الإسكندرية كمان وكمان "، عندما يطلق للذات في السينما العربية حريتها،ويوفر لها إمكانيات القول والبوح- بلا كسوف او خجل ، يحرر السينما العربية من الاطر الكلاسيكية القديمة التي تحبس فيها نفسها، بموضوعاتها المكررة المعادة المملة الثرثارة ، ويفتح لها نافذة علي بحر الإسكندرية، لكي تسافر في أفق ثقافتنا العربية المعاصرة، وتبحر في سلام مع الذات، داخل بحر الناس الكبير، وتكتشف ولأول مرة ربما نفسها والعالم .

عن جريدة " ايلاف " لندن. بتاريخ 30 يوليو 2008

ليست هناك تعليقات: