البحث في مهرجان سينمائي عربي عن " صورة " تشبهنا
صلاح هاشم
السينما المصرية والعربية هل تتقدم أم تتأخر ؟ والي أي استطاعت الافلام المصرية الجديدة التي عرضت في "مهرجان الفيلم العربي" في روتردام. هولندا حديثا أن تمسك بتوهج الحياة في مصر ، من خلال تسليطها الضوء علي المنعطفات والتغيرات الخطيرة التي يشهدها المجتمع المصري حاليا ، وان تقدم من خلال أفلامها " صورة " تشبهنا؟ .. ثم ما هو الشيء الذي يجعلنا ننجذب الي ذلك المهرجان المذكور، ويجعله متميزا عن بقية المهرجانات، أو بالا حري " الاحتفالات والموالد "السينمائية الرسمية العقيمة الكثيرة التي تعقد في بلادنا ، ولا علاقة لها البتة بفن السينما، لا من قريب او بعيد ؟ هذه تساؤلات طرحتها علي نفسي ، وأنا أتابع أعمال وأفلام ووقائع الدورة الثامنة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام التي عقدت في الفترة من 18 الي 22 يونيو مؤخرا في هولندا ، وهنا محاولة للاجابة علي تلك تساؤلات.
كان فيلم "عين شمس" للمصري ابراهيم البطوط هو أبرز فيلم في مسابقة المهرجان، وتميز عن بقية افلام المسابقة، بمشاركة افلام من سوريا والمغرب والجزائر الخ ، تميز عنها بموضوعه وأسلوبه الفني، واقترابه من روح الحداثة ، والحساسية الجديدة في السينما ، حيث لم تعد الافلام التي يصنعها شباب السينما الجديدة في العالم ، في اطار المتغيرات الجديدة في زمن العولمة، لم تعد تحكي قصة تقليدية بالمعني الارسطي أي لها بداية ووسط ونهاية كما في افلام السينما التجارية المصرية، التي مازالت في وضع محلك سر، لانها تصرف اموالها علي " بضاعة " تجارية ، لها مواصفات الفيلم التقليدي وتضع عينها في المحل الاول علي شباك التذاكر.. بل صارت " وسيلة تعبير " أساسا وأقرب الي سينما المؤلف، فالمخرج هنا ابراهيم بطوط في فيلم " عين شمس " لايحكي قصة ، بالمعني المتعارف عليه ، بل يعبر عن " رؤية " في العالم ، وعن " رؤية " في فن السينما. اذ يستدرجنا في بداية الفيلم الي داخل سيارة تاكسي ، ونتعرف علي صاحبها ويقول الراوي ان سائق التاكسي لايعرف انه بعد 10 دقائق ، سوف تنقلب حياته رأسا علي عقب ، ثم يقدم لنا فتاة شابة لا تعرف هي الاخري الي اين تذهب، فتطلب من السائق توصيلها الي " وسط البلد" وهي لاتعرف مع السائق ان هناك " مظاهرات " شعبية تطالب بالتغيير ووضع نهاية للظلم علي الرصيف، ومواجهات بين قوات الشرطة وجماهير الناس ، ومن من خلال تقديم شخصيات الفيلم، يثير مخرج الفيلم فضولنا الي معرفة ما سوف يقع لتلك الشخصيات،ويخلق عند المتفرج نوعا من القلق والتوتر " الايجابيين " ثم يعود بنا الي الوراء ليحكي لنا عن تلك الشخصيات، وقبل ان تجتمع داخل التاكسي، فنتعرف علي سائق التاكسي الذي يعيش هو وزوجته في حي " عين شمس " الشعبي الذي تبدلت احواله كثيرا ، فقد كانت " عين شمس " ذات يوم عاصمة لمصر في زمن الفراعنة وموقعا مقدسا زاره يسوع والعذراء مريم ، ثم تغيرا أحواله وتدهورت بمرور الزمن ، فصار أحد أفقر مناطق القاهرة وأكثرها اهمالا، ولم يعد حيا داخل مدينة ، بل " مدينة " فقيرة عشوائية داخل العاصمة " الارستقراطية " باحيائها الغنية المرفهة..
أحياء مثل " الكواكب " السيارة
وبسبب اتساع الهوة بين الفقراء والاغنياء صارت تلك الاحياء الشعبية في مصرالتي تحتضن الفقراء والهامشيين والبؤساء والعاطلين عن العمل والراغبين من الشباب بلا عمل في الهجرة الي امريكا او دول الخليج او أي مكان، صارت مثل " كواكب " مستقلة، لها تاريخها وذاكرتها واستقلاليتها عن العاصمة البعيدة جدا " القاهرة " ، بل وصار الانتقال من تلك " الكواكب " الشعبية السيارة الي القاهرة ( وسط البلد ) ، اقرب مايكون الي " رحلة " في مراكب الشمس الي " نعيم " الحياة الحقيقة، وسعادتها ورغدها وبهجتها، وكأن الحياة في تلك " الكواكب " هي قدر مؤلم وحزين للبؤساء وحدهم، بل ليست حياة بالمرة، بل هي " الجحيم " بعينه، بسبب كل تلك المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسكنية والتعليمية والبيئية التي تعيشها وقد تكومت وتركزت وتراكمت ، وصارت بمضي الوقت عصية علي اية حلول، حتي صار الانتقال الي " وسط البلد " مثل الذهاب الي " روما " في ايطاليا، وليس الهبوط في ساحة أو ميدان التحرير. فيلم " عين شمس " يحكي عن " حال " مصر من خلال نموذجين وأسرتين وواقعين وتضامن الناس حين يكتشف ان الطفلة ابنة سائق التاكسي وتدعي " شمس " 11 سنة مريضة بسرطان في الدم، وهو يفتح شبك السينما من خلال فيلمه علي مأساة العراق، ويترك للراوي في الفيلم " صوت " الفيلم ، يترك له الانتقال بنا بحرية، الي اماكن اخري في العالم خارج حدود مصر البلاد ليقول لنا ان هناك ما هو اكثر قسوة من رغبة شمس في الذهاب لرؤية " وسط البلد" البعيد في فسحة او نزهة، وان الموضوع في الفيلم ليس مصر وحكاية الطفلة " عين شمس " المريضة ، او الرجل الغني الذي يعيش في قصر، ويشتغل عنده سائق التاكسي مع مجموعة من الخدم وهو يواجه مشكلة ديونه المتراكمة بالملايين ، ، بل الموضوع هو " النظرة " أي الطريقة او الزاوية التي ينظر بها الراوي – ويمثل طبعا مخرج الفيلم او جزءا منه - الي الحياة بشكل عام وكيف يفهمها ويفلسفها، كما انسان يشاهد الاخبار في التلفزيون ، وينقل بواسطة الريموت كونترول من مشهد اطعام الحمام في " غية حمام " في حي عين شمس الشعبي، الي مشهد للام التي تحمل طفلتها المريضة بداء سرطان الدم في مستشفي عراقي، الي مشهد المظاهرات التي اجتاحت وسط البلد في فترة ما ، بعدما اصبح العالم بالفعل " قرية صغيرة " وصار مايجري ومايحدث من كوارث طبيعية وغير طبيعية، ومحاكم ومظالم وقمع ومظاهرات يمسنا جميعا ويحركنا ويؤثر فينا جميعا ، وتتحقق معه " أخوة الانسانية " بشكل كامل بل ويتحقق معه " شرط السينما " الاول..
شرطها ان تمسك بتوهج الحاضر في بر مصر العامرة بالخلق، وذلك الحزن والسحر اللذان يغلفانه في الآن اللحظة ، وأن تدخل في نار الزحام، وتمتزج بالحشد الانساني، وتدلف الي " بحر " الناس الكبير من دون خوف أو تردد أو وجل. شرطها ان تعبر عن تلك " الحساسية " الجديدة الملتهبة الافحة، وان توظف السينما كأداة للتفكير والتأمل في تناقضات مجتمعاتنا الانسانية، وان تقف ضد الظلم، ومع " كرامة " الانسان ضد ميكنته وادلجته وتحويلة الي " سلعة " او مجرد " مستهلك " أناني وحشري وضيع وغبي . وظيفتها ان تسافر في العالم مع الناس، لتحكي عنهم الآن في اللحظة، وهي تضع علامة نور في نهاية النفق المظلم ..
ولا يهم هنا حبكة القصة او الرواية، بل صارت القصة والرواية هي الفيلم نفسه في " شموليته " الكاملة، في حساسيته الانسانية ، واتساع افقه الي ماوراء حدود السماء لمعانقة الطيور الراحلة ، والسحب المحلقة والتواصل مع كل الكائنات والمخلوقات..
واعتبر ان فيلم " عين شمس " هو " جوهرة " سينمائية حقيقية ، الا ان هذه الجوهرة للأسف بددها ابراهيم بطوط، او كسرها وجعلها هباء منثورا في فيلمه الانساني البسيط الجميل. بددها من خلال الإطالة والاستطراد بغباء والحشو التافه في العديد من المشاهد المملة، وكان يجب اختصارها، والاعتماد فقط علي سياسة " التلميح " او " اللطش " مثل عود الكبريت الذي يحرق الوجه بالتلويح به فقط، لأن داء السينما كما يقول المخرج الاسباني العظيم لوي بونويل هو في " التصريح " والثرثرات اللامجدية، ويمكن ان يغفر المرء للفيلم أي شييء ، سوي ان يكون مملا..الا انك في فيلم " عين شمس " سوف تستشعر الممل بعد فترة، جعلنا نتذوق فيها بهجة السينما الحقيقية..
" جوهرة " حقيقية ولكن
ويظهر ذلك التطويل الممل الذي يقتل " روح " الفيلم " عين شمس " في العديد من المشاهد ، مثل مشهد العرس او " الفرح " في حي عين شمس الشعبي ، وتدخين الحشيش اثناء رقص الغازية ، وكما في مشهد الحوار بين المدرسة وام شمس ، وكله رغي وحكي علي الفاضي ووقوف محلك سر في المكان ، مما يؤثر علي ايقاع الفيلم، الذي بدا لنا في مشاهده الاولي متوهجا مثل مشهد الفتاة التي تغني الموال العراقي الجميل العذب، ثم سرعان ما يأخذ في الاستطراد والترهل، حتي حدا بالبعض منا الي مغادرة قاعة العرض قبل نهاية الفيلم بوقت طويل للأسف..
والواقع ان ابراهيم بطوط تعرض لاغراءات كثيرة او عرض هو بنفسه تلك الاغراءات، فقد كانت بعض المشاهد تكفي مثلا لعمل فيلم مستقل وخصوصا العلاقة الحميمة بين ساكن القصر وساكن الحي الشعبي، الا انه البطوط انساق وراء تلك الاغراءات المشهدية ، واستسلم لتلك المشاهد الثقيلة، بدلا من تقطيعها او منتجتها او حذفها ، اوالاستفادة منها بالقليل الموحي الضروري، القليل المحسوب ، الذي لايجعلنا نمل ف " عين شمس " يستحق ان يحصل في مسابقة المهرجان علي جائزة ، ليس بسبب الفيلم الذي اعتبرته " جوهرة " بددها مخرجنا هدرا ، بل بسب " التوجه " في الفيلم، وجرأة وشجاعة الاسلوب الجديد الذي انتهجه بطوط في فيلمه..
أسلوب ابتداع او خلق " النظرة " الشخصية السينمائية، حتي وان لم يأت الفيلم كاملا او مكتملا، عكس تيار السينما التقليدية التجارية
غير ان "تجربة " الفيلم ذاتها ، ومنحي ابراهيم البطوط السينمائي الشجاع الفريد ، يستحق بلا جدال الاشادة والتقدير عن جدارة، ونأمل ان يعود لصقل تجاربه وموهبته، وخوض " مغامرة " صنع سينما جديدة متميزة ا لصنع افلام من التراب بميزانيات متواضعة في اليد ، ومن دون انتظار وصول الميزانيات الكبيرة الضخمة التي تكفي لتشييد وبناء مصانع سردين ، واعني كذلك بتراب مصر : كنوزها واسرارها ماضها وحاضرها وتاريخها بحواريها وازقتها في الريف والمدينة، وحكايات اهلها الطيبيبين المسالمين المقهورين المتمردين الصامتين والمتكلمين في آن،
وعرض المهرجان الذي يبدو لنا في كل دورة ويحرص علي أن يكون بمثابة " تكريم " للسينما المصرية – السينما الرائدة الأم – عرض العديد من الأفلام المصرية المتميزة، فقدم في حفل الافتتاح فيلم " هي فوضي " ليوسف شاهين الذي علي الرغم من جرأته وفضحه لانتهاكات الشرطة، لم يعجبنا، وبدا لنا مثل عدة " نمر" واسكتشات استعراضية تمثيلية مصورة، وطويلة ومملة، وتتحدث فيه الشخصيات من سيناريو تجاري اصيل مكتوب بحرفنة ، ويصلح كمسلسل تلفزيوني فقط،اذ تغيب فيه السينما بالمرة، ويفتقد " السينما " التي تعودنا عليها من الأستاذ يوسف شاهين، الذي علي مايبدو ترك الحبل علي غاربه لمساعده الاستاذ خالد، لكي يصنع بنفسه ذلك الفيلم، فيصبح مجموعة من هتافات وشعارات الاستنكار والتلصص الرخيصة ..
ويكون بمثابة " امتحان " لجهاز الرقابة المصرية، لمعرفة هل يمكن ان تجيز عرضه في اطار الظروف الحالية التي تعيشها مصر ، وقد نجحت الرقابة في الامتحان، لأن الفيلم ينتمي الي نوع أفلام المغامرات المضحكة، ويحتشد بالشخصيات الكاريكاتورية " الجاهزة " مثل الملابس الجاهزة، من اول المدرسة التي تمنع المرشح الحكومي من وضع إعلاناته الانتخابية في المدرسة، وحتي رجل الشرطة الوحش المستبد ، الذي يأكل بنهم وجشع حيواني ، ويعيش علي استغلال الناس ، ويخطف ابنة الجيران الجميلة الرقيقة، ويغتصبها في عشة في جزيرة علي النيل..
ولان تلك الشخصيات تبدو لنا غير حقيقية بالمرة ، وتتكلم من سيناريو مكتوب علي ورق ، وتظهر دائما اما خيرة او شريرة / وتكون دوما " واضحة "، في تحركاتها وتصرفاتها وضوح الشمس في حين تهتم السينما الحقيقية بالابهام والغموض اللذين يسمحان للمتفرج بفرصة ، فرصة أو طاقة يعبر منها الي قلب الفيلم وروحه، وتجعنا بالتالي – اذ تمنحنا فرصة - تجعلنا نتساءل، وتثير مخيلتنا ، ونشارك هكذا في صنع الفيلم . ويبدو لنا أن ذلك " الوضوح " يقينا هو داء السينما المصرية ، وهو رفيق المسلسلات المحشوة بالكلام والتفسيرات عن جدارة وقد شبعنا منه ونريد شيئا آخر..
عن جريدة " القبس " الكويتية بتاريخ الاربعاء
16يوليو2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق