شريف البنداري بين.. ساعة عصاري.. وآخر النهار
بقلم أمل الجمل
هل حقاً يُعد الروائي "إبراهيم أصلان" كاتب فخ ؟ هل كتاباته الأدبية شائكة يصعب تحويلها إلى آخرى سينمائية تحقق نفس نجاحها الأدبي ؟ فيلم "الكيت كيت " ـ المأخوذ عن روايته "مالك الحزين " الذي أخرجه "دواود عبد السيد " ينفي ذلك بوضوح , ويُؤكد أنه ربما يكون الأمر صعباً لكنه ليس مستحيلاً . ومؤخراً اقتبس المخرج الشاب "شريف البنداري" موضوع فيلمه "ساعة عصاري " ـ روائي قصير 15 ق ـ عن قصة " آخر النهار" "لإبراهيم أصلان" و"شريف البنداري" شاب مجتهد دءوب ، عقله يعمل بشكل هندسي دقيق يقترب من الهوس. هو من مواليد القاهرة عام 1978، شبرا – القاهرة . أحب السينما منذ دراسته الثانوية. مع ذلك لم يكن واثقاً أن مصيره يُمكن أن يرتبط بها فتُصبح المهنة التي يعتمد عليها . لم يثق بها أو ربما بنفسه , خشى أن يعيش وهم كبير ثم يكتشف أنه لا يمتلك الموهبة . أقنع نفسه بإمكانية دراسة السينما بعد التخرج في كلية الفنون الجميلة , قسم عمارة . لكن الحلم الذي أصبح مسيطراً عليه حال دون تحققه مكتب التنسيق بسبب درجات بسيطة , فالتحق بكلية الفنون التطبيقية , قسم النسيج . لم يبتعد كثيراً عن طموحه , فالعمارة هندسة , والنسيج هندسة , والأثنين تجمعهما روح الفنون . طوال أيام الكلية كان "شريف" يقوم بالإخراج والتمثيل في مسرح الجامعة. انتهى من دراسة الفنون التطبيقية في أغسطس 2001 , وفي ذات الشهر تقدم إلى اختبارات القبول بالمعهد العالي للسينما . أثناء ذلك اشتغل مهندس نسيج لمدة ثلاث سنوات , وخاض تجربة العمل كمساعد مخرج في العديد من الأعمال السينمائية بعضها تجارية : "حالة حب, لعبة الحب , كيمو وأنتيمو.. وغيرها. أول أفلامه تسجيلي قصير "ست بنات", وثانيها روائي قصير "صباح الفل" الذي شارك به في مهرجانات عربية ودولية ونال عنه عدد من الجوائز . وثالثها "ساعة عصاري " الذي أخرجه وكتب له السيناريو والحوار . هو روائي قصير 15 دقيقة . قام ببطولته د. صلاح مرعي أستاذ الديكور بالمعهد العالي للسينما , والممثل باسم السمرة والطبيبة والناقدة السينمائية د. سهام عبد السلام , وعُرض الفيلم ضمن مشاريع التخرج لطلاب المعهد العالي للسينما 2007
خيانة مشروعة
لا نرغب في محاكمة فيلم "ساعة عصاري" تحت دعوى خيانة العمل الأدبي, فكل من القصة والشريط السينمائي كائن مستقل بذاته , ولا مانع على الإطلاق من وقوع تلك الخيانة المرغوبة والمشروعة طالما جاءت لصالح الإبداع السينمائي. لكن التساؤل المطروح هو . هل نجح الفيلم في الإمساك بروح تلك القصة أم أنه طرح رؤية جديدة لها ؟ وأيهما كان أكثر عمقاً وثراءً ؟
في القصة المكثفة عميقة الدلالة " آخر النهار" لاحظ "أبو سليمان" أن ابنه الذي يقف أمامه إزداد طولاً بعدما يماثله في الطول حتى الأيام القريبة . تأمله من طرف خفي . رآه يرتدي حذاءً عادياً ليس له كعب عال . راوده التساؤل "هو الواد سليمان طول وإلا أنا اللي قصرت ؟" في لحظة ما كان يستخرج شيئاً من الدولاب ففوجيء بالعجوز ضيئل الحجم يتطلع إليه من عمق المرآة . ملأه التوتر . خرج إلي الشرفة واستند على سورها الحجري , كانت الشمس قد غابت مع ارتجافة أخيرة من ضوء النهار في الأفق البعيد
لم يقبل " شريف " النص الأدبي كما هو . أعاد قراءته وتأويله, صبغه بفكره وإحساسه. فعل ذلك استناداً لمنطق مفاده : أنه على قدر حب النص والوقوع في غرامه لابد أن يمتلك هو كسينمائي نفس القدر من الجرأة للتمرد على النص , لتقطيعه وتفتيته دون رحمة , أنه من أجل صناعة فيلم جيد لابد من التضحية بأجزاء من النص الأدبي . لذلك قام بتعديل كثير من التفاصيل , أضاف عدداً من المشاهد والحوارات , حذف شخصية زوجة الإبن وأضاف شخصية الحفيد , بدّل زمن الأحداث من عيد الفطر إلى "شم النسيم". إنه عيد الربيع والحب والأشياء كلها تُصبح خضراء , تتفتح وتُضيء , وذلك لسبب درامي هو توضيح التناقض بين عالمين , عالم إناس يحتفلون بالربيع وعالم ذلك الرجل بإحساسه الطاريء المسيطر عليه
إختلاف التأويل
هناك لاشك مسافة كبيرة واضحة بين العملين , فالتأويل الأدبي للقصة مختلف جذرياً عن التأويل السينمائي . يبدأ الإختلاف من العنوان , فـ"آخر النهار " هو اختيار ذكي لا يخلو من رمزية , اختيار يحمل بين حروفه روح القصة ويُعبر عن ارتجافة الرجل الذي أصبح يحيا آخر نهار عمره. لكن "ساعة عصاري" عنوان فضفاض عام غير مُحدد. كذلك ففي الوقت الذي نفهم فيه من الفيلم أن البطل تجاوز أزمته العمرية. تُوضح القصة الأدبية أن "أبو سليمان " وضع يده على مشكلته , وأدرك أنه يعيش خريف حياته .. حدث ذلك من خلال لقطة المواجهة بينه وبين نفسه في المرآة , وهو ماجعله يتوتر .. لكننا لا نعرف هل تجاوز أزمته أم لا . ترك الروائي نهايته مفتوحة أمام التساؤلات . فالقدرة على تحديد المشكلة والإمساك بها لا تعني القدرة على تحقيق السكينة , والتصالح مع النفس.
لم يقع "شريف البنداري " في فخ " إبراهيم أصلان " ككاتب شائك لكنه وقع في شرك الطموح الملغم بالمطامع .. فقد قرر مسبقاً أن يجمع في هذا الفيلم أكبر قدر ممكن من الأشياء التي لم يُحققها في أفلامه السابقة سواء على مستوى الذوق الذي لن يُتاح له ممارسته بعد التخرج خصوصاً في ظل السوق السينمائي الراهن . أما على مستوى الموضوع فقد أراد الحديث عن أشياء كثيرة , عن مشكلة هذا الرجل التي تمثل التيمة الرئيسية للقصة القصيرة , عن فكرة الأجيال الثلاثة الممثلة في الأب والإبن والحفيد, عن العلاقة الحميمية بين الأم والإبن, على التواصل بينها وبين الحفيد, عن الحاجز النفسي المنتصب بين أبو سليمان وولده , عن جمود العاطفة وعدم انسيابها بينه وبين حفيده
هندسة الفن
يمتلك "شريف" القدرة على صياغة حوار سلس بسيط , وعلى صُنع مواقف درامية , لكنه أحياناً كان يستطرد في تفاصيل وحوارات فرعية تُبعدنا عن مضمون العمل . كذلك فإن فكرة التكرار التي استهوته رغم أهميتها شابها التطويل ورتابة الإيقاع . فقد تعمد تكرار عدد من المشاهد منها مشهد البحث عن رقبة آلام الظهر والذي اتخذه ذريعة درامية ينطلق منها البطل لمواجهة نفسه , ولقطة الإستماع إلى أغنية "سعاد حسني " "الدنيا ربيع" , ومشهد صنع فنجان القهوة, ومشهد تسابق الزوجين على فتح باب الشقة .. كل مشهد من تلك المشاهد تم تصويره بإحساس مختلف في المرتين.. تعمد المخرج أن يكون الإحساس في المرة الأولى دائماً متوتراً مصحوباً بأسلوب غير سلس في الإخراج تعبيراً عن حالة البطل.. وفي المرة الثانية كان "أبو سليمان" قد عرف مشكلته وفهم نفسه فاختلف إحساسه بالأشياء من حوله وأصبح هادئاً. رغم الأهمية الدرامية لهذا التكرار لما تُؤكده من أن الدنيا ربما لم تختلف كثيراً من حولنا لكن حالتنا النفسية هى التي تجعل إحساسنا بها مختلفاً , لكن المخرج أفرط في ذلك الأسلوب الهندسي . كان يُمكنه التضحية ببعضها فالسينما في الأساس هى فن الإختزال والمونتاج
عندما يتحدث "شريف البنداري " عن أفلامه كيف بدأت وتطورت نلحظ أمرين أولهما أنه ليس مهتماً بالتعبير عن نفسه ومشاعره كإنسان, ففيلميه الأول والثاني يقتربان بدرجات متفاوتة من عالم المرأة , والثالث عن مشاعر رجل مسن , وهو يُفسر ذلك بأنه ليس ذاتياً ولا ينتصر لنفسه بقدر ما ينتصر لذوق معين من الأفلام . الأمر الثاني أن شخصيته تميل إلى التجريب . لكنه التجريب المحسوب بالقلم والمسطرة . ساعده على ذلك دراسته للهندسة . وهذا الهوس الهندسي مفيد جداً للفنان خصوصاً إذا كان مخرجاً .. لكن المغالاة في هذا الأسلوب قد تُصبح خطيرة على مستوى الإحساس, كذلك البحث المستمر عن الرمزية يُفقد الأشياء طبيعيتها , ويجعلها في لحظة خاطفة تنقلب ضد العمل الفني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق