الثلاثاء، أكتوبر 02، 2007

نظرة خاصة : سكر بنات في باريس.صلاح هاشم





نظرة خاصة
يكتبها من باريس صلاح هاشم




يقدم صورة مغايرة عن لبنان، لكي يمسك بدلا من صور الحرب، بتوهج الحياة ذاتها

سكر بنات في باريس

وسينما المستقبل في لبنان
بقلم صلاح هاشم


فيلم "سكرنبات" لنادين لبكي الذي خرج للعرض حديثا في باريس ،هو قطعة حلاوة ملبن تذوب سريعا في الفم من فرط جمالها وحلاوتها، ويرسم ملامح سينما لبنانية جديدة، فالفيلم لا يقدم فقط قصة خمس نساء، ليحكي عن حياتهن ومشاكلهن وقلقهن وحيرتهن، في ما يخص مسائل الحياة والحب والعمل والزواج ، وعلاقتهن بالرجال في مجتمع شرقي، مليء بالهموم والمآسي واحباطات كل نهار، وفي كل خطوة علي رصيف الشارع عسكري مرور او جندي كلب حراسة يعكنن عليك عيشتك ، وينتهي كما في قصص معظم الافلام عندنا في الوطن العربي بنهاية سعيدة. بل هو كما بدا لي، تجسيد ، وفي ما هو ابعد واعمق من الحكايات التي يحكيهاعلي السطح ، تجسيد حي لجمال لبنان وحلاوة أهله، وخفة دمهم ، وسحر جمال بناته المعجونين بالورد الجوري ، وكل بنت جميلة في الفيلم سمراء او شقراء سوف تجعلك تدوخ في الفيلم وانت تشاهدها فتقع في حبها ،وتريد أوتتمني لو خرجت من قلب الشاشة، لكي تتأبط ذراعك، وتصحبك في تجوالك وتشردك في باريس. اذ يقدم لنا الفيلم الصورة الاخري المغايرة لصورة لبنان الحرب والدمار والقتل ، يقدم صورة تمسك من خلال حكايات البنات والسيدات في الفيلم، بتوهج الحياة ذاتها، وروح لبنان الحلوة، متجاوزا بذلك كل الازمات الوجودية والازمات الحربية والعسكرية المرورية التي تعيشها مدنه، لكي يقول لنا ان الحياة جميلة في لبنان وحلوة، وتستحق رغم كل الاحباطات والمرارات ان تعاش..
اذ أن غلب الأفلام اللبنانية التي خرجت في فترة السنوات الخمس الاخيرة ،تحت مظلة " الواقعية " كانت تكشف لنا في لبنان عن جروحه ومأساته، كما في فيلم " يوم آخر " الاثيرلجوانا وخليل جورجي، واظن انه اهم فيلم لبناني خرج لنا خلال تلك المدة التي احكي عنها، و كنت اعجبت به وكتبت عنه ، وكانت اهتمامات اغلب افلامها، لاتخرج عن تصوير علاقة الانسان اللبناني الفرد بالمجتمع اللبناني وتصوير انعكاسات وتأثيرات الحرب الاهلية ، والدمار الذي لحق أهله بسببها علي كافة المستويات، ويأتي من بعده فيلم لبناني، يصور كيف تحول طبيب بسبب الوضع اللبناني ذاك الي مصاص دماء دراكيولا، ولا اذكر اسمه الآن وقد أعجبت جدا بفكرة الفيلم ، وطريقة معالجتها، وهي أمور تحسب بالطبع لصانعه، إلا اني وجدته طويلا ومملا ويدور حول نفسه، ولا يقدم جديدا بعد اتقضاء نصف ساعة من الفيلم، ولا اظن ان الحوارات الفكرية الطويلة المعمقة مع صاحب الفيلم ، وفلسفته في الاخراج والمشاكل التي واجهته الخ، وسوف تجد فيها الكثير من الفذلكة الذهنية العقيمة يمكن ان تخدم الفيلم ، اي فيلم ، او تجعلنا نحبه بالعافية، ذلك لان كل شييء يكون موجودا في الفيلم وداخل الفيلم ذاته فاما ان تحبه في التو ويصبح كما يقول جودار أكبر منا ، ويستحوذ علي روحك ،وتأخذه معك عند خروجك من القاعة واما انك لاتحبه وتتأسف له ولمخرجه، وتتركه لحاله في ظلام وبردالقاعة، فنحن لانريد افلاما لا تعرف ماذا تريد ان تقول، ولا تعرف كيف تعبر، لكي نأتي من بعد ، ونرفع من معنوياتها، ونصافح مخرجيها مهنئين. ليست هذه وظيفتنا : تحريك الساكن والتافه والمصنوع، والنفخ فيه علي الفاضي، بحشو الكلام..
الجديد في فيلم سكر بنات او بالفرنسية كاراملCARAMEL ، لنادين لبكي، انه لاول مرة في فيلم لبناني، يترك الفيلم وينبذ صور الموت والقتل والدمار علي الرصيف، ليمسك بحلاوة وطراوة وصحة وعافية لبنان، الآن وفي كل وقت ، ولطفه وظرفه وخفة دم اهله، ويبلورها او يعكسها او يجسدها في فيلم، حيث تلتفت هنا مخرجته نادين لبكي وهي ايضا بطلة من بطلاته، واظن ان اجمل مشهد أحببته في الفيلم هو المشهد الذي تذهب فيه نادين وتلعب دور حلاقة في صالون تجميل ، تذهب للقاء حبيبها في فندق مومسات حقير، فتروح تنظف الغرفة وتتهيأ لاستقبال حبيبها - و معذرة ياريتني انا كنت حبيبها ، والبنت دي بالذات - فتروح ياعيني تكنس وتمسح، وتتمني ان يحل فارسهاوحبيبها علي الموعد بسرعة، وهو رجل متزوج وعنده عيال، لكنها و بعد ان تكون المسكينة شقيت وتعبت وانهد حيلها في تنظيف وترتيب وتغيير ملاءات الغرفة القذرة.. اذا بها ..عذرا لن أكمل ..لا اريد ان اكشف لكم عن تفاصيل الفيلم، حتي تشاهدونه بانفسكم. لكني آخذ فقط علي نادين، اختيارها لجنسية مدير الفندق، فلم يكن لبنانيا ، وكأنها قصدت ان تقول ان كل ابناء جلدته العاملين في لبنان ، يشتغلون بذات المهنة، وتأجير غرف الدعارة للنسوان وهذا هو مأخذي الوحيد علي فيلمها....

سينما المستقبل في سكر بنات






الجديد في فيلم سكر بنات، انه قفز بالفيلم اللبناني خطوات علي سكة جديدة ومبتكرة ومطلوبة، سكة البحث فيما هو ابعد من علاقة الإنسان بالمدينة، وعلاقة الفرد اللبناني بالمجتمع اللبناني علي السطح. قفز به الي سكة البحث في العلاقات الإنسانية، وعلاقة اللبناني باللبناني، علاقة الناس بالناس، سكة التضامن والطبطبة فوق الظهر ، وعلاقة المرأة بالمرأة، سكة المشاركة الإنسانية ، وعلاقة المرأة بالرجل سواء كان أجنبيا او لبنانيا، والتقليب والتفتيش في عواطفهم. سكة الواقعية اللبنانية الجديدة إن صح التعبير التي ذكرتني بالسكة التي كان يحكي عنها المخرج الايطالي العبقري المعلم الراحل انطونيوني، فقد كان يعتبر ان أفلام الواقعية الجديدة في أعمال روسوليني ودوسيكا التي خرجت بعد الحرب، وكانت تبحث في علاقة الإنسان بالمجتمع، والدمار الذي لحق بالمجتمع الايطالي من جراء الحرب قد انتهت ، بعد ان قامت بواجبها خير قيام في استكشاف حال المجتمع الايطالي، كما يظهر في رائعة روسوليني " روما مدينة مفتوحة " ..
وكان انطونيوني يري ان سكة الواقعية الجديدة هذه انتهت الي طريق مسدود ، وان علي السينما الايطالية الجديدة ان تتجه الي واقعية اخري جديدة او أكثر جدة ، وتذهب الي منحي آخر، لتصوير علاقة الفرد لا بالمجتمع بل بالفرد، وعلاقته مع الانا اي علاقته بذاته ومع نفسه ، لتصور وتنقل لنا ألمها وعذاباتها، قلقها وحيرتها وضياعها في عالم افتقد قيمة التواصل، بسبب الظروف الثورة الصناعية الجديدة، والانكباب علي قيم الكسب والمال والانتهازية، فتترك تصويرالخارج وماهو كائن علي السطح الي " واقعية جوانية " تنفذ الي الداخل تحت الجلد، وتفتش في أعماق الإنسان،وتعكس ذلك" القلق الوجودي" الذي صار مهيمنا علي عالم المشاعر والعواطف الإنسانية ، وتشتغل عليها..
وهذا بالضبط مافعله انطونيوني، لكي يؤسس لسينما جديدة " حديثة " ، تتجاوز بعوالمها واجوائها افلام الواقعية الجديدة في ايطاليا ، من خلال مجموعة من الروائع السينمائية التي حققها وانجزها انطونيوني مثل " المغامرة " و " الخسوف " و الليل " و " الصحراء الحمراء " ، فلم تكن تهتم هذه الأفلام التي صنعها بتصوير الخارج، بقدر ماكانت تعكس تأثيراته: تأثيرات اجوائه وديكوراته ، واسطح بناياته وعماراته واشيائه علي عواطف واحاسيس ومشاعر الانسان الفرد، وهي تبحث وتفتتش وتنقب مثل عالم الآثاراساسا في " حفريات " العلاقات والعواطف الانسانية ان صح التعبير، حفريات الفراق والانفصال وهجر الحبيب ،وهي تحاول جاهدة الامساك بدقائقها وتفاصياها الملتوية الملتبسة الهاربة ، واستطاع انطونيوني من خلال ممثلته المفضلة مونيكا فيتي، وكانت ايضا خليلته، ورهافة مشاعرها وبخاصة في افلام " المغامرة " و الخسوف " مع الآن ديلون، و " الصحراء الحمراء " - ومن كان يتصور اننا شاهدنا هذه الافلام في فترة الستينيات في نادي السينما في مصر، فامتزجت من وقتها بدمنا ، وحملناها معنا في ترحالنا خيرا وبركة ولحد الآن- كما استطاع من خلال اداء الممثلة الفرنسية القديرة جان مورو وبخاصة في فيلم " الليل "، استطاع ان يجسد هذا المنحي السينمائي الجديد ، بل و أن يؤسس لحداثة السينما الجديدة في العالم الملهمة ، ليصبح انطونيوني ليس رائدا للسينما الحديثة وحدها فحسب، بل رائدا لاغلب " فنون ما بعد الحداثة " ايضا، وذلك من خلال الافلام التي اخرجها بعد رباعيته المذكورة، مثل "المهنة محقق " و " نقطة زابرسكي، فنون الديكور والرسم والمعمار وغيرها، وجميعها الآن حين تتجول في اي معرض لتلك الفنون ، فانها يقينا سوف تذكرك بأحد افلام انطونيوني وتعامله كمخرج في افلامه مع جماليات الكادر والمنظر الطبيعي والألوان كما في أفلام " تكبير " و " الصحراء الحمراء " و " الخسوف " ..
وأظن ان مافعلته نادين لبكي في فيلمها- الذي عرض في مهرجان " كان " الستين وبيع لأكثر من اربعين دولة- يتلمس ويلامس ذلك المنحي، علي سكة الإمساك بتوهج عواطف ومشاعر المجموعة النسائية التي تحكي عنها في فيلمها، وأسرار النساء والرجال ، والأسرة اللبنانية الكبيرة ، بعواطفها ومشاغلها ذاتها ، من دون اللجوء الي، او الحاجة الماسة لخلفية من صور الدمار والحرب، التي تقصفنا بها القنوات التلفزيونية الإخبارية في كل ساعة، وزهقنا منها، ومن الأفلام التي تحكي عنها ، وشبعنا..
أخذت نادين لبكي لبنان الي صالونها، وغسلته من تلك صور، ونظفته وجملته كما فعلت في مشهد الفندق المذكور وانتظارها لحبيبها ، وراحت تداعبه، وتتغزل في جماله، وتهمس له "احبك يالبنان " ياوطني. احبك بترابك وأرضك وريفك ومدنك وزرعك واهلك .تعيش لي يالبنان . فيلم " سكر بنات " يؤسس لسينما لبنانية جديدة ومغايرة ، و يفتح لها شباكا علي مسارات الضوء، خارج غرف الدمار والقتل والحرب، لكي تخرج وتتنفس وتعانق الحياة، ومتعة الحياة علي الرصيف. ويستحق المشاهدة عن جدارة


..


تحية الي نادين لبكي ، وفيلمها العذب

صلاح هاشم

ليست هناك تعليقات: