الاثنين، أغسطس 13، 2007

عبور الغبار وجوهر الروح الانسانية ..باز البازي

المخرج شوكت أمين


لقطة من فيلم " عبور الغبار " لشوكت امين



فيلم " عبور الغبار " : جوهر الروح
الانسانية في التسامح




بقلم المخرج العراقي باز البازي


كان للسينما الكردية حضورها اللافت في مهرجان الفيلم العربي السابع في مدينة روتردام من خلال فيلم" عبور الغبار للمخرج الشاب شوكت امين كركي، وهومن انتاج وزارة الثقافة في اقليم كردستان العراق.وكان حصل مؤخرا على جائزة أفضل مخرج في مهرجان سنغافورة السينمائي الدولي. يروي الفيلم قصة واقعية لطفل عربي – عراقي يعيش احداث الانهيار الكبير لمدن وقرى ومؤسسات النظام البائد في المناطق الكردية من كردستان العراق، اذ يحكي عن
شاب كردي اسمه " زاد " من البيشمركة يقود سيارته "البيكب" وهو بصحبة زميله ومسؤوله رشيد ذوالساق الصناعية ، وينطلق الاثنان في مهمة القيام بايصال الخبز والطعام الى رفاقهم المقاتلين الذين يشنون حربا ظارية ضد اعدائهم الممثلة بمجموعات وفرق تابعة للنظام البائد ومنتشرة في مدن وقرى كردستان العراق

الوقوع في فخ " ازدواجية المصير

بطريق" الصدفة" يلتقي زاد ورشيد طفلا عراقيا ينتمي لعائلة عربية ،اثناء تأديتهما لواجبهما المقدس " الدفاع عن حرية شعبهما" ،ويجدانه وحيدا من دون عائلته ومتشنجا مسمرا بصورة محكمة في الارض، وسط عراء القتل والتدمير واصوات الانفجارات والملاحقات الفردية العلنية في ازقة المدن والقرى المتصارع عليها لأخذ الثأر، ومظاهر الانتقام في اللحظات الاخيرة، الانتقام من كل شيء اسمه البشر من قبل الطرف المكسور . يعاني الطفل من صدمة قوية و تنتابه مشاعر ذعر وخوف تصل الي حد الهستيريا. بعد محاولات البيشمركة تهدئة الطفل وارجاعه بعض الشيء الى حالته الطبيعية من اجل التعرف علي هويته والوصول الى حل يرضيه واللحاق بمهامهم . أخير يكشف الطفل عن اسمه وينطق بتردد معلن " آني اسمي صدام" ... ترتسم علي ملامح الطفل حالة تصلب تحيله في التو الى شيخ كبير، اذ تنتابه مشاعرالخوف ،المرارة ، والشعور القوي بالذنب والالم فيروح يبكي، حتي تحسب ان مجمل خريطة العراق الجيو- سياسية القلقة قد تجسدت في عضلات وجهه اليافعة ، وكأنه يريدان يقول عبر ذلك الوجه ويعترف انه المسئول وحده عن جميع كوارث ومصائب بلده ووطنه العراق .حتى لو لم اكن انا المسؤول المباشر عن هذه الويلات بل صدام الكبير- هكذا راح يفصح وجهه- فعلي تحمل المسؤولية نيابةعنه وعن الاخرين . وتجتمع أهوال الدنيا وتناقضاتها في عينيه الحزينتين، حتي انك تسقط في وجهه وتغوص عميقا في داخله لتستشعر ذلك البركان في الداخل علي وشك الانفجار ويروح صدام الصغيريلعن نفسه 25 مليون مرة ، اي بعدد سكان العراق من شماله الى جنوبه، ثم يتوقف عن البقاء ويبدأ يستعيد روعه.
بعد هذاالاعتراف القصير المجاني ، يقف الصبي بوضوح ويقرر امام زاد ورشيد تحمل مسؤولية اسمه وشخصه وهو في هذا العمرالصغير. فلم يعد يخشي الموت على يد البيشمركة ..علي الرغم من ان هؤلاء كانوا يعتبرون من الد اعدائه كما كان يطلقون عليهم في زمن الدكتاتور ، وكانوا يصورون علي انه ينبت لهم قرون في رؤسهم، ويزحفون في الظلام من بين احجار الجبال، ويحاربون الاطفال ، فقد كانت سمعتهم التي شوهها النظام البائد تزرع الرعب في قلوب جميع الذين كانوا يحملون راية القائد الاوحد، ويصدقون ديماغوغيته وشوفنيته تجاه الاخريين، وان لم تكن نهايته " صدام الصغير" علي يد مواطن عادي، فلتكن اذا على يد البيشمركة ، بعدما فقد الامل بالحياة،فالموت واحد ، ولونه واحد. هكذا فكر بعد ان تخلي عنه هؤلاء الذين قدموا له "شرف" هذا الاسم، ورحلوا هربا من العقاب على ايدي مناصري الحرية والسلام ، فعليه اذن الآن ان يطلق اسمه في الهواء، ويتحرر من هذا الدايناصور الذي يطارده في باطن اعماقه واعماق هويته تلك التي ستجتاحه بكوابيس الرعب في الايام القادمة. ان كان لامفر من الموت فليمت اذن الآن، وليكن عقابه هنا الآن في الحال. وهنا يبرزالسؤال ..تري هل سيكون الطفل فريسة للبيشمركة ؟ هنا بالتحديد وفي هذا المشهد " مشهد المثلث " الذي تتألف اضلاعه الثلاثة من كل من الطفل صدام ورشيد وزاد يتاسس بنيان الفيلم، لكي يصبح في ما بعد الدعامة الاساسية على طول وامتدادات زمن الفلم . ويثير المخرج سؤالا عميقا بل ويطرح مشروعا لمجتمعه المستقبلي، بتقديمه ملامح اولية لشكل التناحرات الحالية والقادمة عند الشخصية العراقية، ويفتح بهذا المشهد الابواب بقوة "السلم" لنتعرف على الطريقة التي سوف تعمل بها وتتفاعل الازدواجية "الفردية" في داخل مجتمعه العراقي، بكل اختلافاتها السياسية والعرقية، حيث انها تمثل بشكل خاص بل تعد المعضلة الحقيقية في الصراع العراقي الدائر،كما نها تعتبر العقدة المريرة التي يعاني منها كل عراقي اليوم. غير ان هذا لايعني انها لم تكن موجودة من قبل ايام الحكم الدكتاتوري، كانت موجودة، لكنها لحظة سقوط برزت بوضوح في الفكر الجماهيري، لتصبح وتكون من اولويات صراعه . واليوم صارالتعامل مع هذه الثيمة قاسيا ومربكا للنفس البشرية حتى النخاع، ولكن هناك حل على مايبدو عند مخرجنا الشاب (من مواليد 1973 اي اول جيل لنظام صدام حسين) فهو عمليا سيكون اكثر فهما لواقعه من جيلي والاجيال الاخرى، غير انه في نفس الوقت يعتبرالضحية المباشرة لهذا النظام
اذا كيف وماذا سيكون عليه ردود فعل البيشمركة حيال هذه الازمة . ازمتهم مع صدام الصغير ؟ يظهر خلاف حاد بين موقف سائق الشاحنة ورفيقه المسؤل العسكري ، اذ يتساءلان هل نترك الطفل صدام في عراء الموت؟ ام نساعده في البحث عن عائلته وارجاعه الى اهله حيا يرزق ... يقول رشيد " أ تركه فريسة للموت ، ليذهب الى الجحيم ،لا ... علينا مساعدته ياكاكا ... الا تسمع ان اسمه صدام ،اتركه ، اللعنة عليه اتركه ، علينا ايصال الطعام لرفاقنا البيشمركة .. ". جاء هذا الحوار المقتضب والبسيط ليضع المخرج متفرجه في الحلقة الاولى " الضيقة" وهي حلقة البداية التي اختارها المخرج في سرد قصته، وتحديد الازمة ، ومن بعدها يقدم لمتفرجه المساحة التي يستحقها في متابعة مشاهدة عالم حقيقي " انه واقع عالمه" عالم الاغتراب والتناقضات.
يطرح الممثل الرئيسي زاد وبجراءة موقفه مع رفيقه المقاتل بخصوص هذه الازمة ، ولا يقبل ان يسيطر على وجهه وتصرفاته اي تردد في موقفه المنحاز لاانقاذ صدام الصغير، ويبدو حادا في موقفه ومتفهما قلق صديقه ورفيقه ، ويردد.. " سوف ابحث عن اهله ، واعيده الى دياره ، ياكاكا " بهذه الجملة تم تثبيت ثيمة الفلم ، وتوسعت الحلقة الصغيرة الى موضوعة للفعل ، وهكذا نتعرف علي خط الفلم العام ومسار شخصياته والمكان الفعلي لتطورها وتطورات زمن الحدث. وكان كل ذلك كافيا في رأينا لأن يضغط المخرج حكايته ، ويشرع بدفع الازمة " المشكة الصراع والشخصيات الى ذروتها في الزمن القادم . كان الفلم يتقدم نحو الصعود ، والذي باتت حلقته تضيق من جديد في نهايات الفلم ، بمقتل بطله ، وهنا باعتقادي يكمن سر نجاح فيلم "عبور الغبار" عندما نريد ان نصل الى هدف الحقيقة الصادقة "نسبيا" فسيكون اول من سنقدمه قربانا للآخريين هو البطل، هذا في حال احتاجت قضيتنا لتقديم هذا القربان .
الطفل لايتحدث اللغة الكردية، والبيشمركة لايتقنون العربية ولايحسنون الا بعض المفردات البسيطة في قاموس رفيقه رشيد، الذي يصبح بالتالي المترجم بين زاد والطفل ، غير ان رشيد يحاول اهمال الطفل وعدم الاهتمام بمصيبته ، حتى انه لايريد تأسيس اية علاقة مع هذا الطفل .. ونراه يتألم في اعماقه ، وقد ساعد هذا علي خلق مناخ عام للفلم ، يتميز بالدفء ومستوي رفيع عال من الانسانية في التفاهم، ورفع الحوار الى نكهة النكتة، علي مستوي اظهار حالة المرارة الانسانية، كاشفا عن عقدة " ازدواجية المصير " الجماعي الذي آل اليه الفكر الانساني العراقي ومعه المناضل وجميع الحركات اليسارية والديمقراطية والدينية والقومية ابان الحكم الصدامي، هذه الازدواجية لها اسبابها بالطبع ، ولكنا اليوم نلمس ونتعامل مع نتائجها بمنتهي المرارة والألم
كيف نواجه القدر العراقي؟
هذه "الصدفة" وضعت المناضليين في حرج وحيرة من امرهم وقلق عميق اجتاح وعيهم ،واسئلة بدأت تنشط في مخيلتهم ، هذه "الصدفة" لم تكن تخطر علي بالهم ولم يتوقعوا يوما حدوثها ولم يفكروا ولا حتى طوال فترة نضالهم بأنهم سيواجهون هذا القدر. اذن كيف يتصرفون الآن .. ان حل اشكاليات صدفة كهذه تحتاج الى ارضية وحالة نفسية اخرى، ليكون بمقدورهم التفاهم والتجادل والتفاعل معها ، لأن في مثل هذه ظروف سيكون من الصعب على ابطالها وشخصياتها ان تتعامل بروح نقية وصالحة، تحتاج النفس العراقية الى زمن اكثر سلاما وأمنا للروح الانسانية، ليتسنى لها ان تدخل عوالم الازدواجية، والانفصامات المجتمعية، لحل معضلاتها واكتشاف علاج لها. عليك ان تكون تخلصت من الكره والانانية والجريمة والخداع والانتقام وان يكون السلم الاخلاقي والقيمي غير مقلوب على قفاه ، اذا ماهو الحل مع هذا الطفل، كيف سنساعد "صدام" الطفل على الحياة ؟هل نغتنم فرصة الانتقام؟ هل هذا ما علينا فعله؟ كيف اذا علينا ان نتصرف! بعد كل هذه السنيين من النضال ! وماذا عن ملايين الضحايا الذين يتنفسون ويطلقون صرخاتهم من تحت اكوام من التراب والحجر والرصاص في باطن الارض العراقية
انه سؤال محير حقا، ويدخل في تعقيدات سيكولوجية تكوين البنية الفكرية العراقية ، وبقوة يخترق الهوية والعقل ، والملفت للنظر في واقع المجتمع العراقي الآن، ولشدة تعقيدات الحالة والمرحلة التي يمر بها الانسان العراقي تقف هذه الاسئلة منه كوقفة المصدوم الصغير صدام. سؤال مشروع صريح يساله المناضل الذي قتل اخيه وابيدت عائلته في الانفال، ويسأله المناضل الاخر الذي اقتلعت رجله في سجون صدام ، ياله من أمر محير، ولكن جدارة المخرج ووعيه الانساني وشفافية قلبه وفكره المتنور ، وعبوره شوطا كبيرا ماوراء هذا " الغبار" استطاع ان يطرح " مفتاحا للعقدة " ، " بعدها يصل الى علاج" ونحصل نحن " المتفرجون" هكذاعلى دواء الازدواجية "ازدواجية المصير الجماعي". يأتي المخرج بحل سلمي انساني رائع الذكاء والتصوف. ويضع اساسا قويا لامكانية البدء بعملية التسامح ، في اصغر واكبر واعقد قضايا المجتمع" ، اختار المخرج موقفه الذي لارجعة منه على طول خط الفلم منذ دقائقه الاولى، وعمل وتفاعل معها حتى النهاية ، وبهذا انتصر ككيان، حتى لو قتل بطله...
بالتأكيد سينتصر الخير في مساعدة الطفل، وتنتصر الفكرة القائلة ب " التسامح " حتى لو كان هذا على حساب الحياة بأكملها ،الم نتعلم كمناضليين في تلك الجبال على هذه الممارسات ، بالتاكيد اقول هنا نعم ، بعد ان قاتل الكردي والبصراوي والسني والشيعي والشيوعي والقومي والوطني جنبا الي جنب كل هذه السنيين في تلك الجبال ونشأت بينهم قيم مشتركة واهداف مصيرية، من السهل ان نتجاوزها اليوم، في عملية نضال مكملة لنضالنا السابق ،خطوة الى الامام في التعامل ،ورفع الحالة الانسانية لشعبهم الى مستويات ارقى وانبل ، انهم ناضلوا من اجل انسانهم المسحوق ، انهم البيشمركة الاكراد والبيشمركة اليسار الجنوبي . ففكرة التسامح كانت تتبلور وتنمو بايجابية عالية بينهم ، والا كيف استطاعوا القتال والعيش معا وتحمل الصعاب مجتمعين ...عليهم الان العمل بايجابية وتطبيق ماتعلموه في مسيرة نضالهم الطويل، ومنحه بكل جدية وايجابية لاجيالهم الحالية والقادمة. اليس هذا مافعله السيد الكبير الزعيم نيلسون مانديلا مع مستعمريه وقاتلي شعبه طيلة حياته النضالية .اذن التسامح، هل هذا مايريده ويطالب به زميلنا المخرج كركي من شعبه العراقي والكردي !!!. المخرج كركي استطاع تحويل ابداعه الفكري والنضالي بذكاء على الشاشة الكبيرة
سينما التسامح ونظرة حب الى المستقبل
المخرج يعكس هنا انسانية الانسان العراقي ،وبالتحديد هنا الانسان الكردي وقيمه ك"مناضل" يتعامل مع مواطني بلده في نضاله الطويل من اجل حقوقه وحقوق شعبه، بشكل يختلف عن قتال المرتزقة والبلطجية اللذين يقتلون كل شيء ينبض او يتحرك امامهم من دون اي حساب انساني او عقائدي، حتى لو ان الطفل اسمه صدام ، هذا لايعني انه ليس ضحية عائلة اومجتمع، بالتأكيد كطفل بريء، وليس كقاتل او مجرم
بالرغم من جميع المصائب التي لحقت بشعبه، فان المخرج كركي بهذا المشهد الاولي في فلمه يفتح بابا كبيرا للتفاهم والحوار الاخلاقي والحضاري مع عدوه " من خلال الطفل صدام" ،هذا الموقف الانساني الذي يعكسه البيشمركة في تعاملهم مع اعدائهم، ليس بشيء جديد في اخلاقية نضالهم ،والتركيز على حالة التسامح الكبيرة التي يمتلكها المقاتل الكردي، بالرغم من مصائبه هو الاخر ككيان في العراق. قدم لنا الفيلم رسالة واضحة صريحة وجريئة بخصوص مبدأ اصلاح الذات، والتسامح مع " الذات " و " الآخر " ، وطرح رؤية سينمائية جريئة يلونها الشاب المخرج بحساسية عالية ممزوجة بالحزن والفرح، لترتفع الى حرية الذات في شخصه، مأطرة بحس فكاهي و بحركة كوميدية " النكتة الخفيفة" في الشخصية الكردية، عبر " الممثليين الاساسيين " كهدف واضح وموقف صريح، يعبر عنه من خلال فلمه العاصفة "الغبار".والعاصفة في حقيقتها لاتفرق بين الطيب والسيء ، بين القاتل والمقتول ، بين الانساني واللاانساني ، بل تسحب كل شيء الى الانهيار والزوال ، والنفي التام والمطلق ،تغطي على كل شيء حي ،اذا فلماذا لا نتقدم في مساعدة " الطفل صدام" الضحية، لنرتقي الى مستقبل اكثر انسانية. لقد عالج الفلم تراجيديا شعبه الطويلة بالكوميديا السوداء ، لإيصال الرسالة بطريقة مختلفة متوازنة ومغايرة تماما عن كل مانشاهده من فن التطرف والانحياز والعناد القومي والوطني العاطفي والنرجسية التي يتباهى به الشعب العراقي بجميع مكوناته في حاضره، عبر برامجه على شاشة التلفزيون ومحطات الفضائيات
ان رسالة فلم عبور الغبار تظهرمن خلال حرص مخرجه علي اعطاء الاهمية القصوي في الفيلم لمضمونه الابداعي وشكله المتوازن، وحتى لو كان الطفل الكبير صدام حسين قد تأسس علي تقاليد القتل والدمار لشعبه العراقي من السني والشيعي والكردي والمسيحي واليزيدي والشبكي فهذا لايعني ان علينا ان نترك الاجيال التي ولدت بين او تحت قبضته تقاد الي حتفها اي الي الهلاك الابدي وذات الغيبوبة التي كانت تعيش فيه الاجيال السابقة في زمن صدام ، وفي حال تركنا هذه الاجيال الى مصير التهميش والمتاهة اللاابدية، فسيكون هذا بمثابة عمل اجرامي آخر، وجريمة بشعة نتحمل نحن تبعاتها بحق اجيالنا واطفالنا، وستكون النتائج اكبر فتكا وجرما مما فعله بأطفالنا واهلنا هذا الدكتاتور المريض ، و ستكون المصيبة كارثية ، وستكون النتيجة انه لن يبقى اساسا قوام اسمه وطن او هوية او انسان عراقي صحيح البنية والفكر، فيما لو اخترنا طريقا آخر غير التسامح
هذا الطفل" صدام" الذي لايتوقف عن البكاء ، سيغير مجرى مهمة البيشمركة وحياتهم وحياة " المقاتليين الاكراد" ويذهب الي ابعد من هذا، بعد ان بدأ يشتد الخلاف في أمر ترك الطفل او التعاطف معه او مساعدته في البحث عن عائلته، والرجوع الى احضان امه وابيه ، انهم يبحثون عنه في ارجاء تلك المناطق الكوردية المتوترة والعنيفة التصادم بين انصار النظام القديم وانصار الحرية ، يلبسهم السواد والحزن على ولدهم ، والده خائف ان ينطق باسم طفله الضائع " صدام" مع زوجته وامام المقاتليين، ان طفله الصغير اصبح "ورطة" في الحياة والموت وحتى الآخرة.
فيلم " عبور الغبار " فلم عراقي كردي بامتياز، يتجلى في بعده الجمالي ، وفي صيغته الفكرية الإنسانية ،يعمل بمعالجة تصاعدية في الحدث، ويطرح بنية سينمائية واقعية، ليذوب في الحالة الروائية التي "تذكرنا بعض الشيء بافلام الواقعية الايرانية" بالتحديد، من حيث طريقة معالجة القصة " السيناريو" ، والفكرة المليئة بالانعطافات والمفاجآت الجانبية في الخط العام للفلم ومزاجه، وفي تركيبة بنية الحدث وتفرعاته . سينما " عبور الغبار " تطرح تونة " نغمة " وايقاع ومزاج كردي خالص ، وتترك بصمات شعرية لنقد الاحداث وطرح مسألة التسامح الوطني والعرقي بين جميع مكونات الشعب العراقي . وهذا النوع من الافلام يساهم في الدفع بالسينما العراقية الكردية مستقبلا ، إلى مقارنة انتاجاتها بإنتاج بقية الدول الاقليمية والأخرى الحاضرة من خلال أفلامها ، بغية التطوير شكلاً وتقنية ومضموناً وأداءا و تمثيلا، وبخاصة اذا استمرت علي هذا الاداء والنهج ، سينمائيا ومؤسساتيا وحكوميا، وبشكله الواعي والمستقل في الرؤية ، بل سيؤسس حتما لسينما جديدة جدية من نوع "سينما المؤلف " لتكون عالمية وتعالج وتطرح مشكلة قوام العراق والعراقي، وتعيد بنائه الصحيح، وتصنع من جديد كرامة شعبه المفقودة
يبدأ الفيلم بمشهد يرقص فيه البيشمركة بفرح ورومانسية امام جهاز التلفاز، حال سقوط التمثال البرونزي للدكتاتور، و تظهر نساء كرديات كبار في السن يرتدين الاسود ويعملن بجد في طهي الخبز لاولادهن من المقاتلين في الجبهة اثم ينتقل الى المشهد الذي يفتح فيه البيشمركة باب احد بيوت القرية التابعة لانصار صدام ، هنا تتوقف العين " الكاميرا" في مركز مساحة تملؤها كتلةمن السواد الذي يلف نساء وامهات ينتحبن بصمت على قتلاهن ،انهم من انصار العهد الماضي القريب ، ويسأل احدهم فيما لو كان الطفل صدام الضائع ابنهن، فلا تجيبه سوي تلك الآهات والحسرات وتلك الوجوه الفاقدة للوعي حتى الغيبوبة
اسئلة كثيرة اثارها هذا المخرج الفنان في الدقائق العشرة الاولى من فلمه، ليترك بعدها المجال للاحداث الحقيقية تتفاعل وتتضارب بالواقع، وبالمتخيل الروائي .انه السينمائي المؤلف بحق الذي يأخذ بيد المتفرج، ويتوسع معه في شريط الاحداث حتى اللحظة الاخيرة .لا اريد هنا ان اضيف اي شييء آخر الي هذا الفلم، لان حكاية الفيلم ليست من اختصاصي،ولكن اريد ان اقول بأن على المتفرج العراقي والكردي ان يركض في التو لمشاهدة هذا الفيلم الذي اري انه يستحق خمسة نجوم، لأنه الفلم الاجدر بالمشاهدة لهذا العام وخلال فترة السنوات الاربع الماضية التي حرصت فيها علي متابعة افلام السينما العراقية ومسيرتها ، فلم اجد فيلما بقوة " عبور الغبار " ببساطته وانسانيته، وقدرته علي تجسيد حاضرنا العراقي ، بمآسيه وتعقيداته النفسية ، من خلال حكاية واقعية بسيطة راقية، في سينما الفكر والمغزى والمنحي الموضوعي




باز البازي

ليست هناك تعليقات: