الاثنين، أبريل 02، 2007

مختارات ايزيس : قاسم حداد يكتب عن حلم السينما




مختارات ايزيس




الشاعر البحريني قاسم حداد


يكتب عن السينما



الحلم هو جوهر فكرة السينما بوصفها فنا



أذهبُ إلى السينما لكي أقرأ نعمة الظلام،
ففي ظلام الصالة قدر من الضوء النادر.
ضوء هو الشرفة الحميمة على الداخل البشري القصيّ.
أذهبُ لكي أنال متعة الأمل في صمت الصالة،
ولذة الحلم في الظلام الكريم،
بعيدا عن الضجيج والصخب والثرثرة والحركة الجنونية في الخارج وفرص التفكير المهدورة، سيتاح لي التأمل في ذلك الصمت الغامض الذي تهجع فيه الجموع كأنها غير موجودة، فيما هي تحقق ذاتها الكوني.
(2)
في صالة السينما، ليس الفيلم سوى المحرّض الفعال لتنشط المخيلة، ولعلي سأكون اكثر استعداداً لارتياد مجاهيل الخيال كلما انهمكت في عالم الفيلم الافتراضي.
الفيلم في الصالة كأنه جاء لك وحدك فحسب،
فبالرغم من الجموع المحتشدة الكامنة مثل كنوز في مقاعدها، إلا أنك ستشعر بأن الفيلم، وهو يستحوذ عليك كلية، يجلس معك وحدك في الصالة، ويفتح لك شرفة رحبة على ما يتجاوز الفيلم.
إيقاعك اليومي خارج السينما يكفّ وينتهي عند عتبة الصالة، ليبدأ لقاء غامض وخصوصيّ، مغمور بتلك الكثافة الفاتنة من الظلام، ظلام يسطع في روحك، فيما تبدأ (تترات) المقدمة تتالى برتابة ماهرة التسلسل،
لتنالك. وتنال منك.
التفكير لا يستوي بالشكل الفعال في صخب الخارج وضجيجه، لذلك ستكتشف حريتك الخاصة في الاستجابة للانصراف عن الفيلم ومحاورة الذهب الفعال، وحدكما في ظلام لا يراك فيه أحد، ولا ترى فيه أحداً.
حريتك في أن تشتري بطاقة الدخول برغبة مضمرة في الانفراد بالنفس، وبمزاج مسكوت عنه، يشتهي أن ينفصل عن الجموع في مكان يقوم أساساً على فعل جماعي. وهنا تكمن المفارقة المذهلة، وهنا أيضا يظهر الفرق الكبير بين أن تشاهد فيلماً في عتمة صالة السينما، وتشاهده في البيت، في غرفة مضاءة، بين أفراد العائلة المحدودة العدد، وهو مكان وملابسات لا خصوصية فيها ولا تنطوي على حريات التأمل الفردي، ولا حلم خاص.
في صالة السينما، ما إن تطفأ الأنوار حتى ينتفي العالم الخارجي من حولك، ليس فقط لأنك لا ترى أحداً، وليس لأنك لا تسمع أحداً، وليس لأن الفيلم يستحوذ عليك، ولكن، خصوصاً، لأنك تستسلم لسلطة جمال السفر الحر متنقلاً، بسلاسة السديم، بين الحلم والتأمل.
(3)
الذين يذهبون إلى السينما، لا تقتصر متعتهم على رواية الفيلم فحسب، ولكنهم، مع الوقت واكتساب خبرة الصالة المظلمة، سيكون حضور السينما أحد أكثر المتع النادرة التي لا توفرها فعالية أخرى في الحياة.
(4)
سنشعر بالذين تأخذهم سنة من النوم حال بدء العرض، فهم ليس فقط قد لا يجدون الوقت والمكان الهادئين لنوم رحيم، ولكنهم صاروا من الذين يجدون في نوم الصالة نوعاً من النوم الفعال الذي يشابه النوم العادي من حيث الدرجة، لكنه يختلف عنه ويغايره من حيث النوع.
نوع نوم صالة السينما لا يقلل من أهمية متابعة العرض، لكنه لا يخضع له، بل ربما يمكننا القول إنه يتحرر منه حال انطلاقة الدقائق الأولى من عتمةٍ تأخذ التكاثف حول الكائن، عتمة تتضاعف لتصير هالة من ظلام تستفرد بكل شخص على حدة، ناسجة من حوله شرنقة لطيفة تأخذه إلى مشاعر حسية، تفصله عن الوقت والمكان وتتوغل به كيفما يحلم، أينما يريد، فبعد تلك الانطلاقة لا يعود للفيلم سوى ذلك الدور المهيج الأول.
(5)
سأبدأ في اكتشاف النجوم الصغيرة في فضاء الصالة المظلم، نجوم ليست من الفيلم ولا علاقة لها بمئات الأحداق المأخوذة بالشاشة. نجوم هي من سديم داخلي يمنحني الشعور بأنني في مجرة الحلم.
وتدريجيا يتضاءل إحساسك بوجود الأجساد من حولك، حتى إذا ما أبحرت عنهم سيكون قاربك سادراً بحرية في بحيرة ساكنة السطح، لكنها عميقة الغور وجياشة العواطف. فإذا مسّك طرف الشخص المجاور لمقعدك ستفزع لفرط ذلك الاقتحام، وربما أنبته قليلاً بحجة أنه افسد عليك متابعتك للعرض، فيما أنت تعني أنه انتهك حريتك في الحلم خارج السرب.
(6)
ليس من غير دلالة أن يكون الصمت والخصوصية شرطي ظلام صالة السينما. فسوف يتعرض للاحتجاج الهامس، ذلك الشخص الذي سيحدث صوتا او ضجة صغيرة او يتحرك في الصالة محتكا بهالات الوحدة والصمت للكائنات الأخرى. ذلك هو قانون الصالة المظلمة، وعليك أن تمتثل لذلك القانون بصبر وأناة واكتراث صارم، فكلما احترمتَ صمت الناس تيسر لك الاستمتاع بأحلامك، أحلامك التي تنشأ في فردوس الظلام مثلما تنشأ حديقة الورد في غابات العالم.
(7)
مبكراً، اكتشف صديقي أمين صالح، أنني كثيراً ما أنام في السينما، حتى أنه كلما فكر أن يدعوني لأحد الأفلام، يقول لي: ما رأيك في مقعد ونوم وأحلام في صالة وثيرة؟
فأقبل دعوته وأذهب.
ولا أزال أفعل ذلك،
بغض النظر عن نوع الفيلم وطبيعته، ودون أن اخسر الفيلم، كحكاية، فبعد خروجنا من السينما سوف يحكي لي أمين صالح قصة الفيلم كما لو أنني لم أكن معه في الصالة، مكررا لي: أن الفيلم ليس الحكاية فقط.
موقظا شعوراً مكبوتاً بندم طفيف وخسارة مألوفة.
بالرغم من ذلك، فإنه لا يتوقف عن دعوتي للسينما بين وقت وآخر.
(8)
لا تذهب إلى السينما لكي تسهر، لكن لكي تحلم،
أليس هذا هو جوهر فكرة السينما بوصفها فناً؟



عن " الوقت " البحرينية في 31 مارس 2007

ليست هناك تعليقات: