الثلاثاء، يونيو 06، 2006

عبادة الانثي : دراسة في السينما والجنس والسحر بقلم اسامة الغزولي


حواء بوتشيللي

عبادة الانثي: دراسة في السينما والجنس والسحر
بقلم اسامة الغزولي*


هل هناك علاقة بين الحركة النسوية العالمية Feminism بين ظاهرة آكلى لحوم البشر وغيرها من الظواهر المرضية التى تنتشر فى أوروبا وتهدد بالانتقال إلى بقية أنحاء العالم؟ لقد عرفنا حركة تحرير المرأة فى مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر عندما قدمها لنا رجلان من أعظم رجال ثقافتنا هما الشيخ محمد عبده وقاسم أمين اللذان وضعا - معا - دستور النهضة النسوية التى انتصرت بانتصار الحركة الوطنية فى 1919 وتعالت معدلات صعودها بتأسيس جمهورية يوليو. لماذا لم نرتجف رعبا عندما قرأنا ما كتبه دعاة تحرير المرأة من الرجال والنساء؟ هناك من اعترض على تحرير المرأة وعلى مجرد خروج المرأة من بيتها ناهيك عن توليها مناصب وزارية لكن لم يقل أحد أن هذه الأمور ترتبط بظواهر مرضية مخيفة مثل أكل لحوم البشر وتقديم الأضحيات البشرية والشذوذ الجنسى وزيادة العنف الأسرى وتشرد الأطفال وسعار الاستهلاك وفقدان الحياة الإنسانية لقيمها العليا؟ فما هو الجديد؟ ما الذى يدفعنا الآن لدق أجراس الخطر وللربط بين ظواهر لا يبدو أن بينها أى نوع من الارتباط؟ * عقيدة عبادة الأنثى لقد عرض قبل أيام، فى مهرجان كان، فيلم مأخوذ عن رواية «دان براون» الشهيرة «شيفرة دافنشى» ليشاهده - عندما ينتقل إلى دور العرض السينمائى التجارى وإلى الفضائيات المخصصة لعرض الأفلام - مئات الملايين من البشر. وإن كنت أعتبر أن الفيلم والرواية التى أخذ عنها أحدث حلقة سلسلة دعائية فى الحرب المطولة ضد المجتمع الذكورى فإن هذا الفيلم لم يكن الأكثر تمثيلا للثقافة النسائية فى مهرجان كان. فبناء على الرسالة التى وصلت إلى جريدة القبس الكويتية من مراسلها فى كان الصحفى والأديب والصديق صلاح هاشم فإن فيلم «العودة» للمخرج الإسبانى بدرو المودفار (اسم إسبانى أصله العربى هو المظفر) كان أروع أفلام الدعاية الأنثوية فى هذه الاحتفالية السينمائية العالمية. وكلى شوق لمشاهدة الفيلم لكنى أريد أن أقول أن الرواية الحقيقية للمرأة قد تخرج من إسبانيا التى حكمها العرب ثمانية قرون لأن الحضارة العربية - الإسلامية تركت تحت تراب إسبانيا وفى عروق أبنائها وبناتها الموروث الأقدر على تحرير المرأة وهو موروث يختلف عن التصورات الوثنية التى تقوم عليها عقيدة الأنثى المقدسة فى رواية «شيفرة دافنشى» والتى هى تهديد لا للمسيحية ولكن للحضارة الإنسانية، باعتبار أن المجتمع الذكورى هو الحضارة الإنسانية. وقد وزعت الرواية، حتى الآن، عشرات الملايين من النسخ فاعتبرت مجلة تايم أن مؤلفها واحد من مائة مؤلف ومفكر وداعية هم الأكثر تأثيرا فى الحضارة البشرية، لأن روايته التى انتشرت هذا الانتشار الواسع هى، فى حقيقتها، إنجيل عقيدة دينية هى عبادة الأنثى. تروج الرواية لعقيدة عبادة الأنثى ونجمتها الخماسية ورمزها السرى المركزى الذى هو الزهرة. ويأتى ظهور هذه الرواية وانتشارها بعد أن بلغت الحركة النسوية Feminism مبلغا كبيرا على أرض التطبيق العملى وبعد أن بدأ انحسارها مع ظهور سلبيات التطبيق والدعوة إلى مراجعة مبادئها وكبح جماحها فجاءت هذه الرواية - وروايات أخرى وأفلام سينمائية -تحاول أن تعطى دفعة قوية للنسوية بأن تضفى عليها الصبغة الدينية. تدور الرواية حول لغز الكأس المقدسة الذى يعالجه الفنانون والشعراء فى العالم المسيحى منذ قرون: هل الكأس المقدسة هى تلك الكأس التى شرب منها المسيح فى العشاء الأخير؟ أم هى امرأة مقدسة حملت سر المسيح ونقلته إلى الأجيال التالية؟ الإجابة عن هذا السؤال موجودة - فى العالم الخيالى الذى نسجته الرواية - فى وثائق تخفيها جماعة سرية اسمها «رواد صهيون» نشأت فى القرن الحادى عشر بهدف المحافظة على الوثائق التى تحدد ماهية الكأس المقدسة. تولى قيادة هذه الجمعية رجال عظماء كان منهم ليوناردو دافنيشى واسحق نيوتن وفيكتور هوجو وهؤلاء جميعا من الرجال الذين ارتبطت أسماؤهم بعقيدة عبادة الأنثى. وأحب هنا أن أشير إلى أمرين يتعلقان بالتفاحة والزهرة وكلاهما من رموز عقيدة الأنثى المقدسة أولهما أن قصة غريبة ترددها البشرية، جيلا بعد جيل، تقول لنا أن اسحق نيوتن اكتشف قانون الجاذبية عندما سقطت فوق رأسه تفاحة. التفاحة التى فتحت لنا طريق المعرفة باكتشاف أهم قوانين الحياة، قانون الجاذبية، هى أقدم رمز ارتبط بأمنا الأولى حواء وعندما قدمت حواء التفاحة لآدم فتحت له الطريق إلى المعرفة. وتقول التوراة: وعرف آدم حواء والمعرفة هنا تتحقق بالجنس وهذا طقس من الطقوس التى تحافظ عليها عقيدة عبادة الأنثى، فالمعرفة السامية لا تتحقق إلا بممارسة الجنس وفى بعض الجماعات الوثنية القديمة والمعاصرة فإن المعرفة بالحق والوصول إلى النور لا يتحققان إلا بالخطيئة وليس فقط بالجنس، بل بأسفل أنواع الجنس. والمسألة الثانية التى أحب أن أشير إليها هى أن فيكتور هوجو عندما قابل جمال الدين الأفغانى سأله: ما أكمل ما فى الوجود؟ فرد الأفغانى قائلا: الزهرة. وقد كان الأفغانى عضوا فى المحفل الماسونى الاسـكتـلندى، معقل عبادة الأنثى، وعندما قال الأفغانى أنه كان ماسونيا وجب تصديقه. وعندما قال إنه ترك الماسونية فأنا أستقبل هذا القول بالشك. لكنى أضيف أن صمويل هنتنجتون يرفض نموذج جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده لأنهما يأخذان من الحضارة الغربية ما يناسب الشرق ويرفضان ما لا يناسبنا. نعود إلى الرواية لنجد أنها تروى مأساة آخر رئيس (افتراضى) لجمعية رواد صهيون السرية الذى كان أحد مديرى متحف اللوفر وكيف أن عضو جمعية كاثوليكية متشددة اسمها أوبوس دى (عمل الرب) قتله وقتل ثلاثة آخرين كانوا يحرسون سر الكأس المقدسة بعد أن أبلغه الأربعة بمكان الكأس. لماذا قتلهم؟ * الكأس المقدسة لأنه بذلك يصبح المالك الوحيد للسر فإذا وضع يده على الكأس المقدسة أمكنه أن يبيع الوثائق كما تزعم الرواية للفاتيكان الذى لا يريد لأحد أن يطلع على سر الكأس المقدسة. والسر هو أن الكأس هى امرأة تزوجها المسيح وحملت منه والفاتيكان لا يريد لأحد أن يعلم ذلك، كما تزعم الرواية، لأن الكاثوليكية عقيدة قامت على احتقار المرأة وعلى اضطهادها ولو عرف المسيحيون أن المسيح تزوج وأنجب فإن احتقارهم للمرأة سيضعف الكنيسة التى هى، فى هذه الرواية، مؤسسة ذكورية تنطوى على رموز وممارسات وثنية، وتحرير البشرية من هذا كله يتحقق بالتخلص من هذه المؤسسة الذكورية المتجبرة. وتتعامل الرواية مع سلالة المسيح المزعومة باعتبارها سلالة ملكية فالمسيح، كما جاء فى الإنجيل، هو ملك اليهود وهو من سلالة داود الملكية. والأسرة الملكية التى تقول الرواية أنها من سلالته وأنها تعيش لليوم هى سلالة مسيحية يهودية وهذا ينسجم مع تصور مسيحيى أمريكا لأنفسهم. وهنا حقيقتان مهمتان: أولاهما أن الرواية تنطوى على نزع ملكية تلمح إلى الحركة الرجعية العالمية التى أصبح مركزها فى واشنطن والتى تسعى لهدم الميراث الديمقراطى للثورة الفرنسية بما فى ذلك سيادة القانون بدليل الاعتقال بدون قرينة وبدون حقوق قانونية للمعتقل كما يحدث لسجناء جوانتانامو وأبوغريب. كما تسعى للتمييز العنصرى بين البشر بدعوى صراع الحضارات وأفضلية الجنس الأبيض. لكن أهم ملامح الانقلاب على تراث الثورة الفرنسية تتجلى فى التراجع عن فكرة دولة المواطنين واستبدالها بفكرة دولة دافعى الضرائب التى حولت الوطن إلى سوق كبيرة ونسفت فكرة المواطن وحرمته من أى حق لا يملك أن يدفع ثمنه بالأسعار العالمية. والحقيقة الثانية أن أجواء الرواية والكلام عن سلالة ملكية للمسيح تنسجم مع الخلط الواضح بين الدين والسياسة فى الغرب والشرق وهو ما قد يمهد لعودة فكرة الحكم بالحق الإلهى وأفكار المسيحية - اليهودية السائدة فى أمريكا وتصوراتهم لمستقبل الأرض المقدسة (فلسطين) ليست بعيدة عن ذلك. إن حركة الانقلاب على الثورة الفرنسية حركة قوية وقد اعترف الأفاق العبقرى سلفادور دالى فى مذكراته بأنه ينتمى إليها ويجب أن ننظر إلى أى هجوم على فكرة الدولة الوطنية Nation State وفلسفتها العلمانية باعتباره جزءا من الارتداد عن موروث الثورة الفرنسية. ولهذا فإن أول مشهد يظهر فيه بطل الرواية دان براون فى أحد فنادق باريس (مدينة النور ومعقل الحرية) هو فى غرفة نوم أثاثها من طراز لويس السادس عشر الذى أعدمته الثورة، والذى يسميه دعاة الملكية «الملك القديس». لكن الاهتمام الرئيسى للرواية يبقى تمجيد المرأة ورمزها التاريخى مريم المجدلية التى تزعم الرواية أنها لم تكن مجرد عاهرة دعا المسيح للعفو عنها، بل كانت زوجته المطهرة التى حملت فى أحشائها «سر المسيحية» مجسدا فى سلالة المسيح، وبالتالى كانت الكأس أو القنينة التى استقر فيها السر المقدس. فهل سر عقيدة كبرى يتجسد فى سلالة؟ أم فى أرواح وعقول شجاعة تتوارث الدفاع عن الحكمة والرحمة نقلا عن معلمنا الكبير عيسى المسيح أو عن أخيه ومكمل رسالته محمد صلى الله عليه وسلم. لا تهتم الرواية بالمسيحية بقدر ما تهتم بالأنثى المقدسة ويكون ذلك بالأسلوب القصصى المشوق الأخاذ الذى لن تجده عند أعظم وأرقى المدافعات عن Feminism من طبقة بيتى فريدان أو سيلفيا آن هيوليت أو حتى جيرمين جرير فى مرحلة النضج. والعقيدة الأنثوية كما ازدهرت فى أوروبا وأمريكا ليست كما زعمت هؤلاء الكاتبات المناضلات من أجل فكرة عقيمة. ليست هذه العقيدة مجرد رفض لظلم يقال أنه لحق بالمرأة عندما انتزع منها سلطانها مع ظهور المجتمع الأبوى فأصبح من الضرورى إنشاء نظام اجتماعى جديد بمؤسسات جديدة وتقسيم جديد للعمل وللامتيازات على أساس المساواة الكاملة بين النوعين. العقيدة الأنثوية فى الغرب الصناعى هى فى الأصل، نفور من القسوة الذكورية، كما تجسدت فى الحربين العالميتين الأولى والثانية، هاتان الملحمتان المرعبتان نقلتا عبادة الأنثى من الكهوف السرية للجماعات الوثنية إلى حركة علنية على الساحات الاجتماعية. وفى فترة الحرب الثانية خرجت النساء إلى العمل واخترن المواقع التى أخلاها الرجال الذين ذهبوا إلى ميادين القتال. فى الوقت نفسه فإن الحركتين الشيوعية والنازية جيشتا المجتمعات واعتبرتا أن الإنسانية منخرطة، برجالها ونسائها فى معركة إنتاج السلع والخدمات. ولم تشأ الرأسمالية أن تتخلف عنهما بحجب حق العمل عن النساء، نصف قوة العمل فى أى بلد. لكن الشيوعية والفاشية بتوجهاتهما المادية والنفعية مهدا لشىء آخر بالغ الخطورة حيث تجرآ على العقائد الدينية والروحية ومهدا بذلك لإيقاظ النزعات الوثنية عند الأوروبيين وهى قوية فى كل أنحاء أوروبا، وإن كانت أقل قوة فى المناطق الأرثوذكسية فى الشرق، خاصة فى روسيا وفى جنوب أوروبا الكاثوليكى والأرثوذكسى، على السواء. وقد لاحظت بعد حياة طويلة فى الغرب أن أوروبا الغربية والشمالية والوسطى ليست مسيحية الروح، إنها مسيحية فى الظاهر وثنية فى الباطن. انتبهت إلى ذلك عندما عشت أكثر من عشر سنوات فى لندن وكنت ألاحظ أن الاحتفال بالكريسماس ليس احتفالا بمولد المسيح (له المجد) بل إن أسلوب البريطانيين فى الاحتفال به يجعله أقرب إلى الاحتفال بقيامة أوزوريس أو أدونيس. إنه احتفال يمتزج فيه العنف البدنى باللذات الحسية الطبيعية والشاذة. وفى ميدان بيكاديللى حيث ينتصب تمثال إيروس، إله الرغبة الجنسية عند الإغريق، وفى ميدان الطرف الأغر حيث يعلو رمز آخر للجنس يجتمع فى الكريسماس وفى ليلة رأس السنة رجال ونساء من كل الجنسيات ليقضوا الليالى التى يفترض أنها مقدسة فى ممارسات غير مقدسة. هذا العنف الوثنى الاحتفالى المبتهج باللذات الحيوانية وثيق الصلة بالعنف الوثنى الحربى الذى تجلى فى الحربين العالميتين وفى معسكرات الاعتقال وحملات الإبادة العرقية الألمانية التى راح ضحيتها البولنديون والسوفييت واليهود والغجر والشواذ والشيوعيون. * الأمير الضفدع والذكر فى الوعى الغربى هو مركز كل هذا الدمار ويعالج كتاب تحويل الرجال Transforming Men الذى ألفه جيف دينش الأصل الأسطورى لرؤية الغرب للذكر المتوحش وكيفية ترويضه وتحويله إلى كائن اجتماعى راق، من خلال الزواج. الكتاب كله مخصص لتحليل حكاية صغيرة عن الأمير الضفدع الذى يعيش فى الغابة وتلتقطه أميرة جميلة رقيقة طيبة وتمنحه حبها وتأخذه إلى قصرها رغم اعتراض الأب، وعندما يقبل الضفدع حبها وأخلاقها يتحول إلى إنسان، إلى أمير جميل. الضفدع هو الذكر الخشن قبل أن يهذبه الزواج والغابة هى حياة العزوبية واللا مسئولية والقصر هو بيت الزوجية، حيث تنشأ الحياة الاجتماعية وتزدهر الأخلاق. وقد أشار دينش إلى أن ربط البشاعة بالذكر والرقة الحكيمة بالأنثى أمر تكرر فى أعمال كثيرة مثل «أحدب نوتردام»، تأليف فيكتور هوجو و«الجميلة والوحش» وكذلك «شبح الأوبرا». لكن انفجار القسوة الكونية فى الحربين العالميتين مثل مناسبة ملائمة لعابدى الأنثى وكهنتها الأقوياء ليربطوا هذا بالذكورة وليس بوحشية الصراع الرأسمالى الإمبريالى على المستعمرات. وكان الهجوم على الذكورة مركز حركة أوسع اسمها «ما بعد الحداثة». ماذا تفهم من هذا الاسم؟ يقول لنا الفنان الناقد عادل السيوى فى مجلده «عين - فنون تشكيلية»: فى الفترة التالية للحرب العالمية الثانية، ومع حساب الخسائر والضحايا وتذكر حجم المجازر التى ارتكبها الإنسان التكنولوجى الحديث تلقت روح التطور وفكرة التقدم ضربات موجعة، ولم يعد الحديث عن صياغة تصور جديد وطليعى للعالم والإنسان أمرا يثير الحماس. هذا هو تعريف عادل السيوى لما بعد الحداثة أو تصويره للسياق التاريخى الذى أحاط بها، باعتبارها ردة عن قيم وأساليب العالم المعاصر وعودة إلى روح عصر النهضة الوثنى الذى يمجد الجسد ويكرس عبادة جديدة هى عبادة الفن. لكن عبدالوهاب المسيرى ينظر إلى ما بعد الحداثة لا باعتبارها ارتدادا عن العالم المعاصر إلى قيم النهضة الوثنية فى أوروبا، فقط، بل باعتبارها هدما للنظام الحضارى بأكمله لتنكمش الحدود ويغيب المركز بعد أن يضعف، كما جاء فى كتابه: «اليد الخفية، دراسة فى الحركات اليهودية الهدامة والسرية». ويبدو من قراءة هذا الكتاب أن يهود المارانو الذين أجبروا على اعتناق المسيحية بعد سقوط الحضارة العربية المتسامحة فى الأندلس لهم دور كبير فى نشر هذه الأفكار الهدامة. فهذه الطائفة كانت لها قيادات روحية نسائية بسبب ظروف التخفى التى فرضها عليهم المجتمع المسيحى، وباعتبار يهود المارانو بتعبير عبدالوهاب المسيرى، جماعة وظيفية، أى جماعة لا تتحدد هويتها بانتماء إلى أرض أو مجتمع، بل انتماء إلى وظيفة التجارة وجمع المال، فقد كانت حركتهم حرة وغير مقيدة، الأمر الذى جعلهم أقدر على تبنى الأفكار والمعتقدات السرية التى فعلت فعلها فى تغيير الحياة فى العالمين المسيحى والإسلامى. لكن النظر إلى التوجه العام للحضارة الرأسمالية الاستهلاكية يكشف عن أن عبادة اللذة أصبحت هى المبدأ الحاكم وهو ما ندركه بالنظر إلى المجتمع الاستهلاكى فى عمومياته ودون حاجة للبحث فى التفاصيل المحركة لهذه القوى السرية والخفية. وقد أصبح الإنسان سلعة ضمن السلع وبشكل لم نعرفه فى زمن الرقيق. عندما كانت لحياة العبد حرمة الحياة البشرية. تيار ما بعد الحداثة الذى يهدم القيم لا يضرب سلطة المجتمع الذكورى وحده، بل يضرب السلطة المركزية للأخلاق أيضا. وهكذا فالجسد البشرى الذى يبيعه تجار الأزياء وأباطرة الإعلان وعمالقة تجارة الجنس ولصوص الأعضاء البشرية من قرنية العين إلى الكلى التى تباع كقطع غيار، هذا الجسد البشرى لم تعد له حرمة. فهو يعرض فى الفاترينات فى بعض بلدان أوروبا ويباع سرا أو علنا فى كل عواصم العالم لممارسة الجنس الحرام أو يقطع وتباع أجزاؤه كقطع غيار. وتعد ممارسة الجنس مع جثث الموتى شكلا من أبشع أشكال العبث بالجسم البشرى. وتعرف باسم Necropheleia ولها نواد فى أوروبا الشرقية والغربية ولها مطبوعاتها التى تدل الراغبين على أماكن تواجد جثث لاتزال بها بقية من سخونة الحياة لممارسة الرذيلة مع الأموات نظير أجر معلوم. ومادامت الروح فكرة يرفضها من يرفضها فكيف لنا أن ندافع عن حرمة وقداسة الجسد البشرى أمام هؤلاء؟ ونحن نفزع من أكلة لحوم البشر ونرتجف عندما نتابع محاكمة أرمن مايفز الذى ذبح رجلا وأكله بعد أن اتفق الاثنان على ذلك. لكن هذا الفزع لا يمنعنا من إدراك انحطاط المجتمع الذى أفرز القاتل والقتيل. القاتل والقتيل عاشا فى مجتمع يشجع على الشذوذ ويقول بمبدأ اللذة على إطلاقه، ويعتبر الجسم الإنسانى موضوعا Object يخلو من أية قداسة كأنه كوب أو إناء أو ورقة شجر. وهو مجتمع فردى - تعاقدى فما اتفق عليه فردان بالغان هو أمر مقبول أخلاقيا وربما قانونيا مادام يخصهما وحدهما. أضاف إلى ذلك أن هذا المجتمع تعلم على يد سيجموند فرويد الفصل بين الجنس والتناسل، وهذا المبدأ هو أساس كل شذوذ جنسى، كما أنه مقدمة عزل وظيفة حفظ النوع عن مؤسسة الزواج، فإذا كانت حبوب منع الحمل هى بوابة تحرير النساء، بحيث لا ينفردن بحمل مسئولية ما يترتب على المشاركة الجنسية الممتعة بين الأنثى والذكر فمنع الحمل أو فصل الجنس عن التناسل هو الذى مهد لإنشاء آليات مستقلة عن الأسرة لإنتاج الأطفال. عندئذ لا يبقى هناك داع للأسرة، ولا يبقى ضروريا أن يتحقق الإشباع الجنسى بطريقة تربط اللذة بالمحافظة على النوع. وقد قال لنا أساتذة اللغويات «الألسنية» فى الجامعة: إن كل عضو من الأعضاء التى يستخدمها الإنسان فى الكلام له وظيفة أصلية غير الكلام». فاللسان للتذوق والفم للطعام والأسنان للمضغ، بل إن أحد الأساتذة قال لنا إن الوظيفة الأساسية للأحبال الصوتية هى لسد مجرى الهواء عندما «نحزق» أو نستجمع قوتنا لرفع حمل ثقيل أو لدفع جسم ثقيل. وأنا أنقل كلام أستاذ اللغة كما هو مذكرا قرائى بأن هذا ليس كلام طبيب أو أستاذ فى علم وظائف الأعضاء. لكن المؤكد أن الإرادة وليس الحتمية البيولوجية هى التى تحدد للإنسان ما يفعله بأعضائه. والنظرة الاستعمالية للجسد الإنسانى مظهر من مظاهر الوثنية التى لا تعترف بالروح. وهكذا أمكن استخدام مقولة فرويد التى تفصل بين الجنس والتناسل لتبرير سلوكيات غير حميدة. هذه هى البوابة التاريخية للشذوذ. ألم يقل فلاسفة اليونان القدماء أن حب الذكر للذكر حب خالص لأنه لا يهدف إلى الإنجاب؟! كل هذه الأفكار تتفاعل الآن فى المدينة الأوروبية المعاصرة التى هى أبعد ما تكون عن المدينة الفاضلة التى حلم بها أفلاطون! إنها مدينة الاستهلاك المسعور والوحشة. وعندما أقرأ أو أشاهد ما يقال عن الظروف التى أحاطت بآكل لحوم البشر الألمانى أتذكر ما قاله جيف دينش عن أثر الحركة النسوية على المجتمع وكيف تفككت الأسرة وعاد كثير من الشباب والرجال فى الغرب الصناعى إلى الوحشة والوحدة وإلى المخدرات والجريمة والعنف والسجون. نظرية دينش بسيطة فالمرأة هى التى تحمل وتلد وترضع وتربى وتعد الطعام والشراب. وسط هذا كله هى مركز الحب والحنان والدفء، والرجل غير مؤهل لمنافستها على هذا الدور، فيبقى له دور كئيب وغير جذاب يتمثل فى خوض الصراعات وحماية الأسرة واختطاف لقمة العيش من نسور المجتمع وذئابه. وإذا كانت المرأة تستأثر بالوظيفة الدافئة والمشبعة فهى تكافئ الرجل أو يكافئه النظام الذكورى بإعطائه المكانة المتميزة التى للرجال كحافز وحيد على الاستمرار فى مهمة الأبوة وهى مهمة ثقيلة الوطأة. وعندما فقد الرجل الغربى هذا الحافز شرد وأغرق نفسه فى حياة باردة يائسة وعديمة المعنى وسعدت نساء كثيرات بحرية وهمية فاكتفين بعد الإنجاب بما يسمى Single Parent Family حيث تكون الأم رأس الأسرة وحدها، دون أب. وقد تكون معها صديقة طبيعية أو شاذة، وقد يكون للأم صديق يأتى وصديق يروح مع بقاء السلطة الأنثوية مركز حياة الأسرة. وقد دفعت دولة الضمان الاجتماعى فى الغرب ثمنا باهظا لغياب الأب عن طريق المشاركة فى الإنفاق على الأطفال للتخفيف عن الأم المستقلة بنظام Child Benefit، ولكن دولة الخصخصة التى تحاول سحب كل نوع من أنواع الدعم تئن خزينتها الآن من هذه التكاليف وتضغط على الحركة النسوية للحد من غلواء الكراهية للرجل، ودفعه للهروب من البيت. لكن داعيات حقوق المرأة فى مصر فيما يبدو مازلن عند النصوص والدعاوى التى راجت حتى منتصف التسعينيات وقبل أن تضغط ثورة اليمين التى فجرتها تاتشر وريجان على الحركة النسوية لتغيير أفكارها. وبعيدا عن ببغاوات الحركة فإن الحركة النسوية فى مصر تطالب بحقوقها من خلال الشرع والقانون وبما لا يخل أو يضر المجتمع. الزاد الفكرى الذى يقدم لببغاوات الحركة النسوية المصرية انتهت صلاحيته منذ عشر سنوات على الأقل. * الجائزة الكبرى كما أن بعض داعيات حقوق المرأة فى مصر فى الغالب غير مدركات لعلاقة الحركة الأنثوية بهذه التيارات العدمية، لكن مأساة الثقافات التى تعيش على الترجمة هى أنها تنزلق دون وعى نحو الهاوية خاصة إذا كان الببغاوات يرددون ما يسمعون لقاء مساعدات أو حوافز مادية فلنحذر ولنحذر ببغاوات الترجمة من تدمير ثقافة مصر. ومرة أخرى نعود إلى رواية شيفرة دافنشى التى تتحدث عن رسالة سرية تركها فنان عصر النهضة العبقرى فى لوحة العشاء الأخير ليؤكد على مركزية المرأة وعلى ما يزعمه من ظلم المسيحية «وليس المسيح، حاشا لله أن يكون ظالما» لجنس النساء. لقد كان هذا الرجل يعبث بجثث الموتى بهدف دراسة التشريح الذى برع فيه، وكان شاذا جنسيا. لكنه قال عبارة عن مصر أحترمها رغم أنها تأتى من رجل أعرف شذوذه ووثنيته. قال دافنشى إن النيل صب فى البحر كميات من الماء، عبر العصور، تفوق كل مخزون الأرض والمحيطات من الماء، ولهذا فإن كل الأنهار والبحار والمحيطات عبرت مصب النيل. وهذا يجعل مصر أم الحياة المادية على الأرض كما جعلتها الحضارة الفرعونية، ثم دورها المهم فى تاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام أم الحياة الروحية على الكوكب. وربما لهذا السبب جاء ليوناردو دافنشى إلى مصر، كما قال ويل ديورانت الذى أورد عبارته عن النيل فى المجلد العاشر من قصة الحضارة وفى مصر خدم السلطان واعتنق الإسلام ولو لفترة من حياته. فلماذا مصر؟! مصر هى الجائزة الكبرى من أيام فيثاغورث إلى ريتشار بيرل، وليس غريبا أن يقصدها دافنشى رئيس حركة رواد صهيون، وليس غريبا أن يقصدها رجل آخر يناقض بصوفيته مادية دافنشى، ذلك الرجل الآخر هو الشيخ عبدالواحد يحيى. من هو عبدالواحد يحيى؟ إنه رجل بالغ الأهمية له أتباع فى المنطقة الممتدة من البرازيل غربا حتى الهند شرقا، مرورا بمصر، التى جاءها فرنسيا كاثوليكيا اسمه رينيه جينو، ومات فيها بعد ثلاثين سنة من الحياة كمسلم صوفى فى أحيائها الشعبية، وكان اسمه بعد إسلامه عبدالواحد يحيى. وهذا حديث آخر. وما نشهده الآن فى مصر لا يليق بها ولا تاريخها الثقافى الطويل والثرى. مصر لا تأخذ عن الآخرين كما يأخذ التلاميذ، بل هى تغير وتطور وتضيف وتنقى الفكر والفن من كل ما هو رخيص وخسيس وضار، ثم تعيد تصديره إلى العالم بعد أن تجعله أنقى وأرقى وأجمل. ودليلى على ذلك ما فعلته مصر بعملاق من عمالقة الإنسانية هو الإمام الشافعى الذى أصبح بعد أن أقام بمصر، غير ما كان فى عهده السابق على وصوله إليها. بل يمكن أن نقول الأمر ذاته عن عملاق آخر من عمالقة الإنسانية هو أبوالطيب المتنبى الذى هذبت مصر عبقريته الشعرية ورققتها فأصبح فى مصر أعظم مما كان قبل وصوله إليها. وفى فترة أقرب إلينا فإن محمد عبده وقاسم أمين عندما نقلا أفكار تحرير المرأة عن الغرب وضعاها فى الإطار المصرى الذى هو عربى - إسلامى فكانت العظمة النسائية التى لم تتجسد فى كاتبات وفنانات ووزيرات فقط، بل فى أمهات عشن بعيدا عن الأضواء، لكن حياة الواحدة منهن، فى بيتها، تساوى حياة أمة بكاملها. أما الآن فما نشهده ليس سوى تكرار ببغائى بمقولات Gender Equality التى خربت المجتمعات الغربية، وتوشك الآن أن تنتقل بالتخريب والتخريف إلى المجتمعات العربية
اقرأ المقال علي صفحات روز اليوسف
.
واعلن معنا في سينما ايزيس

ليست هناك تعليقات: