الثلاثاء، يونيو 06، 2006

صلاح هاشم يكتب عن " بلديون " والسينما العربية في كان

صلاح هاشم
















فيلم 'بلديون' للجزائري رشيد بو شارب
سينما للتاريخ والذاكرة ضد النسيان

كان -فرنسا - كتب صلاح هاشم
اوف .. اخيرا فيلم عربي جيد وجميل وبديع، ويرفع من معنوياتنا في 'كان' بعد ان خسفت بنا جل الافلام العربية التي شاهدناها الارض، وكانت مشاهدة بعضها في المهرجان الكبير، مثل 'ظلال الصمت' لعبد الله المحيسن،اول فيلم سعودي حسب ما جاء على لسان مخرجه، وفيلم 'كيف الحال' لروبرت مسلم، اول فيلم سعودي ايضا حسب قول شركة 'روتانا منتجة الفيلم، حيرتمونا يا سادة، كانت عذاب والم ونار، ولم تحقق اي متعة، وسنعود الى الفيلمين بتفصيل اكبر في حينه..اوف، اخيرا فيلم عربي بديع، هكذا رحت اردد على نفسي بعد ان شاهدت فيلم 'بلديون' او السكان الاصليون للمخرج الجزائري المتميز رشيد بو شارب الذي يمثل السينما العربية رسميا، والمشارك باسمها في مسابقة المهرجان. وكانت قاعة العرض العملاقة في قصر المهرجان الكبير اهتزت بالتصفيق لعدة دقائق بعد عرضه، إشادة واستحسانا بفيلم 'بلديون' الذي نرشحه للحصول على جائزة من جوائز المهرجان، لتميزه على عدة مستويات..العرب وماضي فرنسا الاستعماريإذ يحكي 'بلديون' عن موضوع 'ماضي فرنسا الاستعماري' الذي تتحاشى السينما الفرنسية تحديدا الخوض فيه، وتفضل ان تهيل عليه التراب، او ان يظل دوما طي الكتمان، حتى لا تنكشف الجرائم التي ارتكبت، والتضحيات التي بذلت، والانتهاكات التي وقعت، والدم الذي اريق، فمن الافضل لعدم الإحراج، ولحفظ ماء الوجه لدى الحكومات الفرنسية اليمينية المتعاقبة، ان تظل الحقائق التي لم تتكشف بعد محفوظة في سرية تامة، وبخاصة ما هو متعلق منها بمشاركة الجنود العرب من شمال أفريقيا، اي من الجزائر والمغرب وتونس وداخل فرق خاصة اطلق عليها فرق 'الانديجين' اي الفرق المكونة من اهالي وسكان المستعمرات الفرنسية الاصليون، مشاركتهم في الجيش الفرنسي اثناء الحرب العالمية الثانية - تبدا احداث الفيلم عام 1943- وفي تحرير اجزاء من ايطاليا وفرنسا، وينتهي الفيلم المؤثر الإنساني العميق، بمشاهد لتحرير قرية في إقليم الالزاس من العسكر الالماني النازي، يسقط فيها اعضاء فرقة 'البلديون' ويستشهدون جميعا إلا جنديا وحيدا، يظل على قيد الحياة كي يحكي عن ذاكرة 'الاسلاف' اي عن 'اجداد' ابناء العرب المهاجرين من الجيل الثالث الآن، اجداد هؤلاء الشباب من الفرنسيين الذين ولدوا وكبروا هنا، ومع ذلك تمارس عليهم سياسات التفرقة العنصرية بسبب لون جلدتهم السمراء، وشعورهم المجعدة، ويحرمون من العمل ولا يتمتعون بابسط الحقوق التي تضمنها فرنسا الجمهورية والشعارات المجيدة التي ترفعها مثل العدالة والحرية والمساواة.ولذلك فان اول انجاز يحققه هذا الفيلم، يتحقق على مستوى كتابة التاريخ، اذ يحكي عن وقائع تاريخية ثابتة، ويطعمها بشهادات حية لبعض هؤلاء الجنود العرب 'البلديين' الذين شاركوا في معارك التحرير من قبضة النازي والفاشية، لكنه يحول الوقائع وتلك الشهادات الى قصص إنسانية حميمية تذوب رقة وعذوبة، ويسرد علينا رحلة اربعة جنود- سعيد وعبد القادر ومسعود وياسر- ضمن الفرقة، ويرصد بدقة وذكاء التحولات التي طرات علىهم من خلال الاشتراك فيها وفي الحرب، وينتهي الفيلم باستشهادهم جميعا إلا من عبد القادر، الوحيد في الفرقة الذي يحسن القراءة والكتابة بالفرنسية، ونراه في آخر مشهد في الفيلم يتردد على مقبرة جماعية للجنود الفرنسيين والعرب الذين استشهدوا في حرب تحرير فرنسا، بعد مرور 60 عاما على التحرير، ثم يتوجه الى غرفة صغيرة ضيقة في بناية متواضعة حيث يعيش الآن وحيدا في الالزاس بلا زوجة ولا اولاد، ووحده يجتر ذكريات تلك الحرب، ويدرك انه بعد كل هذه التضحيات والانتصارات لم يحصد الا الخيبة وهذا الوضع الإنساني المزري البائس يا للاسف، بل ان فرنسا كما يذكر الفيلم من خلال شريط كلام يهبط على الشاشة في النهاية، تعمدت من خلال حكوماتها المتعاقبة، وكان هذا هو 'جزاء' حربهم وانتصاراتهم، تعمدت ان توقف صرف مرتبات ومعاشات هؤلاء الجنود، بعد ان عادوا إلى بلادهم الاصلية او سكنوا فرنسا، ثم اعادتها ثم اوقفتها، ويفضح تلك المواقف ويدينها، بعدما كان رشيد بو شارب كشف خلال الفيلم عن سياسات التمييز التي كانت تمارس على تلك الفرق المكونة من العرب والافارقة السود في الجيش الفرنسي الكولونيالي، إذ كانوا يرتدون ملابس خاصة تميزهم، ومحرومين من اكل الطماطم التي كانت توزع فقط على الجنود الفرنسيين، ولم تكن تعقد لهم يا للمصيبة دورات تاهيل وإعداد عسكري قبل خوض المعارك، وكانوا دوما في طليعة ومقدمة الجيش، واول من يضحون بحياتهم، والجيش الفرنسي من بعيد يتفرج عليهم بالمنظار المكبر، قبل ان يدفع بجنوده الى خنادق القتال.بطولة جماعية تشمخ بموهبة الممثلين ويحقق الفيلم، من دون الدخول في تفاصيل احداثه، إضافة اخرى على مستويين، اذ يجعل البطولة في الفيلم 'بطولة جماعية'، ويكاد يكون منح هنا لمجموعة من الممثلين من ذوي الاصول العربية في فرنسا، افضل ادوراهم على الإطلاق.جمال دبوس في دور سعيد راعي الماعز الذي يهرب من حب الام الخانق الذي يكبس على نفسه في الجزائر، ويجد خلاصه في الانخراط في الفرقة ويجد في احترام وحب رئيسه الفرنسي تعويضا عن الاب الذي افتقده في حياته.وسامي نصري في دور ياسر الجندي الصامت دوما الواثق بنفسه، واكثر افراد المجموعة ادراكا الى ان فرنسا التي تعاملهم في الجيش بفوقية واحتقار لن تكافئهم ابدا على عملهم، وكان ياسر انخرط في الفرقة ليجد المال اللازم لزواج اخيه المشارك في الفرقة ايضا. ومن اروع مشاهد 'بلديون' المشهد الذي يموت فيه اخوه بين يديه في نهاية معركة فيروح يصرخ وهو يحدق في السماء اللانهائية ان عليش ياربي اي لم يا الهي؟ فقد كان يحارب فقط من اجل مساعدة الاخ فقط على تكاليف الفرح، فإذا به يحضر حفل افتراس الاخ، وزفافه الى الموت ـ اللعنة.ورشدي زيم في يدور مسعود اكثر افراد المجموعة او الفرقة رومانسية وعاطفية، الذي يقع في غرام فتاة فرنسية ويتواعدان على الزواج، غير ان القيادة العسكرية كانت وزعت منشورا سريا يقضي بتحريم الزواج بين فرنسية واي من جنود فرقة 'البلديون' المكونة من عرب وافارقة، وكان مسعود يكتب لحبيبته الفرنسية، فلا يتلقى على رسائله ردا، حيث ان الرقابة العسكرية كانت تصادر تلك الرسائل فلا تصل ابدا الى اصحابها.بل ان الفيلم منح جمال دبوس اول أدواره التمثيلية الحقيقية في السينما وجعله يتحول من نجم اسكتشات فكاهية مضحكة في فرنسا الى ممثل قدير، وجعله يحقق بذلك نقلة نوعية مهمة في مساره الفني. وكان من الواضح ان الفيلم كما تمثله مخرجه رشيد بوشارب يريد ان يحقق العدالة لاسلاف المهاجرين العرب الى فرنسا وجدودهم، بعد ان حرموا من ابسط الحقوق، وراحوا ضحية للإهمال والنسيان المتعمدين.وربما كان اجمل ما في فيلم 'بلديون' لرشيد بو شارب إنتاج جزائري فرنسي مغربي بلجيكي، الذي تكرس لكتابة شريحة من تاريخ فرنسا من جديد، وتقديمها للاجيال القادمة، انه لم ينشغل بتصوير المعارك الحربية في الفيلم، كما فعل ستيفن سبيلبيرغ في فيلم 'انقذوا الجندي ريان'، لكي يستعرض عضلاته التقنية والحرفية، ويحكي عن بطولات.بل ركز على الجانب الإنساني، اي افراد المجموعة الإنسانية في الفرقة ليحكي وبتواضع جم عن احلامهم وامالهم وطموحاتهم على سكة الخلاص / وجعلنا نتعاطف مع حكاياتهم ونشاطرهم همومهم واحزانهم..فيلم 'بلديون' هو ولكل الاسباب التي ذكرناها، يعتبر إضافة مهمة إلى السينما العربية الجديدة التي تحكي بالصورة من غير ثرثرة او جعجعة، وتجيد فن التكثيف والإصغاء، ولا تتعامل مع السينما كبضاعة، بل كرسالة واداة تفكير في مشكلات مجتمعاتنا الإنسانية وتاريخه وتناقضاتها تحت الشمس. سينما تضع عينها على الإنسان في مركز العالم، على همومه واحزانه وتعتبر ان وظيفة السينما هي ان تقف في وجه الظلم، وتحارب من خندق البؤساء المعذبين في الارض.ومن واقع متابعاتنا لاعمال المهرجان ل'القبس'، نرشح بقوة فيلم 'بلديون' للفوز بجائزة في المهرجان، ضمن مجموعة الافلام التي تضم الفيلم المكسيكي 'بابل'، والفيلم الاسباني 'عودة'، والفيلم التركي 'مناخات'، ولنا وقفة مع حصاد 'كان' 59 في اعداد مقبلة ..

انظر المقال وتغطيات صلاح هاشم لجريدة " القبس " الكويتية



اعلن معنا في سينما ايزيس



ليست هناك تعليقات: