الأربعاء، يونيو 14، 2006

نقد سينمائي: فيلم يونايتد93 بقلم د.عماد عبد الرازق



يونايتد 93 أو الطلقة الأولي في الحرب علي الإرهاب: فيلم ينكأ ذاكرة الحادي عشر من سبتمبر
بقلم : د. عماد عبد الرازق
أول ما يحسب لمخرج فيلم رحلة يونايتد 93 هو انه لم يقدم التوليفة الهوليوودية التي عتدناها في مثل هذه النوعية من الأفلام التي تعالج موضوع الارهاب، وتكون متخمة بالأكشن ومشاهد الاثارة المفتعلة من قبيل مطاردة السيارات وتبادل إطلاق النيران والصراع التقليدي بين الأخيار والأشرار. فمن المؤكد أن مخرج الفيلم، بول غرينجراس، تحسس طريقه الي موضوع الفيلم بحذر شديد، لإدراكه العميق لحساسية الموضوع ذي الطبيعة الشائكة، والذكريات المضنية التي لم تزل ماثلة في عقول الملايين من الأمريكيين. ولا نجد أفضل تجسيدا لهذه الحساسية المفرطة للموضوع التي توشك أن تضع تناوله في قائمة المحرمات الفنية، سينمائية وغيرها، من حقيقة أن السؤال الذي شغل الإعلام الفني الأمريكي أثناء فترة العد التنازلي لافتتاح فيلم الرحلة 93 تمحور حول ما إذا كانت أمريكا جاهزة بعد لاستقبال أول فيلم سينمائي يتعامل مع كارثة الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). وكان علي المرء أن ينتظر حتي يتسني له مشاهدة الفيلم قبل أن يدرك مغزي إلحاح الإعلام الأمريكي علي هذا السؤال والأهمية المتزايدة التي أسبغها عليه.وربما يقتضي الأمر هنا التذكير بالكيفية التي تحولت بها أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، وتحديدا الصور المروعة التي تابعها العالم في تلك الساعات الرهيبة، كيف تحولت الي حرام مطلق يحظر علي وسائل الاعلام إعادة عرضه في غضون ايام قليلة من الهجمات ذاتها. ففي الثامن عشر من ايلول (سبتمبر) عام 2001 اتخذ دافيد ويستن، رئيس شبكة إيه بي سي الأمريكية، قرارا بمنع إعادة عرض صور الهجمات الارهابية كلية علي أي من برامج او نشرات الشبكة، علي اساس أن مشهد صدم برجي التجارة في نيويورك بالطائرات يمثل ضربا من العنف البشع لا مبرر لعرضه . وفي غضون أيام قليلة حذت سائر الشبكات الأمريكية حذو إيه بي سي، وصار عرض هذه الصور امرا نادر الحدوث منذ ذلك التاريخ. وفقا للمنطق ذاته، فإن وسائل الإعلام ذاتها لم تدخر وسعا في الفترة الأخيرة في استطلاع آراء الأمريكيين حول قضية تناول الأحداث، كلها أو بعضها، في فيلم سينمائي، وما إذا كان الوقت قد حان لخرق هذا المحرم الاعلامي الفني وما إذا كان العقل الجمعي الأمريكي جاهزا لاستقبال فيلم كهذا ام ان الوقت لم يحن بعد. تابعنا ذلك من خلال لقاءات مع عدد من أقارب الضحايا، وخاصة أولئك الذين كانوا بين ركاب الرحلة المشؤومة يونايتد 93 التي سقطت في بنسلفانيا. واحدة من بين هؤلاء تحدثت عن انزعاجها الشديد حين ذهبت إلي دار العرض لمشاهدة فيلم كوميدي، وفوجئت بإشارة فيلم الرحلة 93 تعرض في إطار التنويه بالأفلام القادمة، وكانت التجربة علي قصرها (فالشارة عادة لا تتجاوز بضع دقائق) صادمة علي نحو مؤلم جدا لها، لأن هذه الدقائق الخاطفة استدعت من ذاكرتها علي الفور لحظات المعاناة التي عاشتها منذ وقوع المأساة واقتضاها الأمر بضع سنوات حتي تصل إلي درجة من التصالح مع أحزانها المأسوية. وقد يقول البعض إن مشاعر هذه المرأة بالذات متوقعة ومفهومة، كون الفيلم ينكأ جرحا عميقا داخلها، مثلها في ذلك مثل كل أولئك الذين يمس الفيلم وترا حساسا داخلهم.فماذا عن المشاهدين العاديين؟ في كل من لوس انجليس ونيويورك اضطرت دور العرض إلي سحب عرض إشارة الفيلم بعد أن قوبلت بصيحات الاستهجان من المتفرجين. بل إن استطلاعا للرأي بين أن ستين في المائة من الأمريكيين لا ينوون مشاهدة الفيلم. وإلي جانب الذكريات المؤلمة التي قد تثيرها مشاهدة الفيلم، فإن من بين الأسباب التي تقف وراء هذا العزوف المسبق عن مشاهدة الفيلم يمكن أن تكون سمعة هوليوود ذاتها المتهمة دائما ليس فقط بالإسراع الي استغلال القضايا والأحداث الكبري وتحويلها إلي أبقار حلوب تدر عليها ذهبا في شكل أفلام جماهيرية كاسحة ذات ميزانيات خرافية أو Blockbusters بل إن هذا الاتجاه التجاري البحت هو ذاته المسؤول عن فشل هوليوود في التعامل مع العديد من تلك القضايا الهامة، طالما أن شباك التذاكر يظل الهدف الأول وراء هذه الانتاجات، ولا يستثني من ذلك موضوعة الإرهاب علي اختلاف تنويعاتها، فهي دائما ما تأتي متخمة بالألغام السياسية والأحكام والشخصيات النمطية التي لا تعدم بدورها الأنفاس العنصرية المبطنة أو الملتبسة تارة والصارخة، الفجة في معظم الأحيان الأخري. نستطيع القول إن فيلم بول غرينجراس نجا من كل هذه المزالق، أولا لأن المخرج ليس هوليووديا في المقام الأول، ومن ثم فقد دخل إلي عرين هوليوود دون أن تعلق به أدران الحمي التجارية وأعراضها. وسجله الفني يجمع بين الأفلام الوثائقية وبين أفلام درامية ذات طابع تاريخي تسجيلي أيضا، أي تتناول موضوعات وأحداثا تاريخية بأسلوب الاستقصاء الصحفي السينمائي إذا جاز التعبير، ومن أبرزها فيلم يوم الأحد الدامي Bloody Sunday والذي تناول فيه أحداث مسيرة الحقوق المدنية التي جرت في أيرلندا في 30 كانون الثاني (يناير) عام اثنين وسبعين والمذبحة التي تبعتها علي أيدي القوات البريطانية في ذلك اليوم الدامي. تحري الدقة الوثائقية واستكناه الحقائق والوقائع بأكبر قدر ممكن كانا المنهج الذي اختطه المخرج في تعامله مع موضوعه، ونقول بأكبر قدر ممكن لأن ما حدث بالفعل علي متن تلك الطائرة الرحلة 93 التابعة لشركة يونايتد إيرلاينز لا أحد يعرفه علي وجه اليقين. وإنما سعي المخرج لرسم أقرب صورة ممكنة عبر لقاءات مطولة عقدها مع ما يقرب من مائة من أقارب واصدقاء الضحايا من ركاب وطاقم الرحلة. وعدد غير قليل من أولئك الضحايا كان قد اتصل بذويه في اللحظات الأخيرة الرهيبة التي عاشوها قبل مصيرهم المحتوم، ونحن نري بالفعل عددا من هؤلاء اثناء تلك اللحظات وهم يحملون الأصدقاء والأقارب ومن تسني لهم الاتصال بهم رسائل الحب وكلمات الوداع الأخيرة في مشاهد مؤسية ينفطر لها القلب. ومضي المخرج لأبعد من ذلك في تحريه درجة من التوثيقية وكي يمنح فيلمه أكبر درجة ممكنة من المصداقية الفنية، فاستعان ببعض الشخصيات التي عاصرت الأحداث الدامية دقيقة بدقيقة، وفي مقدمتهم بن سلايني ، الذي لعب دوره الحقيقي في الفيلم كمسؤول هيئة الطيران المدني يوم الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) والذي اتخذ بنفسه قرار إغلاق المجال الجوي الأمريكي بعد أن فشل في الاتصال بأي من المسؤولين الكبار وبعد أن اكتشف أن الطائرات التي اختفت عن شاشات الرادار انتهت مصطدمة ببرجي مركز التجارة في نيويورك. أدي دوره في الفيلم أيضا الرائد جيمس نوتس، مسؤول قطاع الشمال الشرقي للدفاع الجوي في قاعدة كيب كود الجوية. وعوضا عن الاستعانة بممثلين محترفين استعان المخرج بمضيفين ومضيفات جويين حقيقيين ليلعبوا أدوار تلك الشخصيات من أفراد طاقم الطائرة وملاحيها الذين لقوا حتفهم في النهاية. واستأجر المخرج طائرة بوينغ 757 قديمة لتصوير المشاهد الداخلية في ستديوهات باين وود بانكلترا. كما اعتمد المخرج علي الحقائق التي توصل إليها تقرير لجنة الكونغرس الأمريكي للتحقيق في أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). يوم غابت أمريكا عن الوعيينهج الفيلم خطا تقليديا في الدقائق الأولي من أحداثه السابقة علي وقوع الكارثة، علي نفس المنوال التقليدي الذي نراه في أفلام الكوارث من حيث تصوير الواقع في سيره المعتاد الرتيب تعميقا للأثر الدرامي الذي سيحل بعيد وقوع الكارثة. نحن نتابع إجراءت صعود الركاب إلي الطائرة في رتابة ونظام، والحوارات الجانبية بين أفراد طاقم الملاحين والمضيفين والمحمل بعضها بمفارقات لن ندركها إلا لاحقا. فالطيار يقول لزميله الجو صحو وجميل، وهذا يوم مثالي للطيران ، وإحدي المضيفات تسر لزميلتها كيف أنها تواقة لإكمال هذه الرحلة (كانت متجهة من مدينة نيورك Newark إلي سان فرانسيسكو) لتعود إلي أطفالها وأنها ستطلب تخفيض عدد ساعات طيرانها لتقضي وقتا أطول مع أسرتها. والركاب أيضا نجد بعضهم يحادث زملاءه هاتفيا قبل إقلاع الطائرة، وزوجان مسنان يطمئنان بعضهما البعض وما شابه من تفاصيل الحياة اليومية الحميمة لأشخاص عاديين لا ندرك نحن كم هي عميقة وبسيطة في تجسيدها للحياة ذاتها، إلا حينما تنتزع منا فجأة دونما خطأ ارتكبناه ودون وجه حق ودون سابق إنذار وعلي نحو مأساوي. هكذا نلتقي بركاب الرحلة 93 لأول مرة في الفيلم، ويظل الحدث يتنقل بعد ذلك بين عدة مواقع رئيسية: مركز قيادة هيئة الطيران المدني (FAA) في هرندون في ولاية فيرجينيا، وأبراج المراقبة في كل من بوسطن ـ ماستشوستس، نيويورك، كليفلاند، ومركز قيادة قاعدة كيب كود الجوية، وداخل الطائرة حيث نتابع حصار الركاب وجلاديهم داخل النعش الطائر طوال نحو تسعين دقيقة من الرعب والهلع في جحيم مقيم. يضعنا المخرج في قلب الأحداث من زاوية فريدة لم تتسنّ لأغلب المشاهدين والمواطنين الذين عاصروها يوم الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). فهو يتابع من خلال برج المراقبة أنباء اختفاء الطائرات الواحدة بعد الأخري من علي شاشات الرادار، وتواتر الأنباء عن عمليات اختطاف، وتكهنات عن هويات المختطفين ومن وراءهم وما إذا كانت لهم مطالب. كل هذا في خضم حالة من الفوضي ترتسم أبعادها تدريجيا إلي أن تصطدم الطائرة الأولي بأحد برجي التجارة. حتي هنا لا تغيب عن المخرج الحساسية اللازمة لتفادي استدعاء اللقطات الصادمة من أذهان المشاهدين، فهو يرينا إياها أولا مصغرة من علي شاشات العرض داخل برج المراقبة. علما بأن العاملين في برج المراقبة في المطار شاهدوا الطائرة تصدم بالبرج من نوافذ البرج، لأن موقع البرجين في حي مانهاتن من أبرز معالم سماء نيويورك التي تري من علي مسافة بعيدة لكل من يدخل الي المجال الجوي لها. لكن المفارقة هنا انه فيما كان الموظفون يلهثون في سباق محموم امام شاشات الكومبيوتر بحثا عن مصير الطائرات التي اختفت، إذ بهم يجدون الإجابة علي اسئلتهم الحائرة تتجسد أمام أعينهم المجردة في سماء المدينة. وحتي بعد تلك الصدمة المروعة لم يكن بوسع اي شخص في برج المراقبة أن يتبين كيف حدث ذلك. وللحظات قصيرة تبدو نظرية اختطاف الطائرات غير مقنعة، ولا يعقل ان يكون الطيار قد فقد صوابه لدرجة ان يصطدم بالبرجين ولا حتي احتمال اصابة الطائرة بخلل. وما من أحد ربما علي وجه الأرض، كان قد تخيل أبدا أن تزن هناك خطة لاصطدام الطائرات بالبنايات كعملية إرهابية مع سبق الإصرار والترصد. هذا من الناحية النظرية البحتة، فما بالنا إن كانت كل ظروف وملابسات الأحداث في الواقع قد تضافرت لتزيد من حالة البلبلة والفوضي التي نقلها الفيلم لنا دون مباشرة، ولكن فقط عبر الانتقال من مراكز صنع القرار في الدائرة الضيقة لأحداث الفيلم، وفي الوقت ذاته عبر تغييب كامل لمراكز صنع القرار السياسي والعسكري علي أعلي المستويات. فالرائد المسؤول في القاعدة الجوية يحاول جاهدا دون جدوي الاتصال برؤسائه في وزارة الدفاع البنتاغون، ولم يكن يعلم أن البنتاغون نفسه قد ضرب. وحين يدرك خطورة الموقف بعد ان يتبين ان الطائرات المخطوفة استخدمت كسلاح لصدم البنايات يدرك ان تلك التي لا تزال مجهولة الموقع ربما تكون في طريقها لهدف آخر، ويسعي لاستصدار أوامر بتحليق طائرات مقاتلة ربما لإجبار الطائرة المخطوفة علي الهبوط أو إسقاطها، لكنه يعجز عن الوصول الي مسؤول أعلي ليصادق علي قرار خطير كهذا. ونسمعه في محادثة هاتفية يقول ان نائب الرئيس ديك تشيني هو الذي يملك صلاحية اعطاء مثل هذا التفويض، لأن الرئيس الأمريكي يفترض أنه الآن في مكان آمن لا يعلمه أحد كما يقتضي الأمن القومي للبلاد (أو متغيب دون إذن مسبق، كما يقول التعبير العسكري AWOL). هذا الغياب والتغييب المتعمد في الفيلم للرئيس الأمريكي، ليس فقط لشخصه، بل ولغيابه عن الحدث، سواء بالمفهوم الدرامي أو الوثائقي، هو ذاته الذي كان موضع تعليق وهجوم وانتقادات في الواقع وفي السينما في افلام آخري، من اشهرها فهرنهيت 9/11 لمايكل مور، ومن آخرها مشهد في فيلم فيلم مرعب 4 Scary Movie 4 يتناول علي نحو تهكمي ساخر واقعة إبلاغ الرئيس بخبر الكارثة اثناء زيارته لمدرسة أطفال وسماعه لحكاية تروي لهم. في هذه اللحظات الحاسمة بدت أمريكا في حالة غياب عن الوعي، فخطوط الاتصالات شبه مقطوعة بين أركان الإدارة، والمصدر الوحيد للأنباء الذي تتابعه أمريكا ومن ورائها العالم بأسره كان شبكة سي إن إن الإخبارية. ينسحب هذا علي المواطنين العاديين الذين تسمروا أمام شاشات التليفزيون، وموظفي المراقبة الجوية والقواعد العسكرية وحتي ركاب الرحلة 93 الذين يدركون مصيرهم شبه المحتوم بين السماء والأرض عبر مكالمات يتلقونها من ذويهم ينقلون فيها ما يبث علي سي إن إن. لم يكن هناك إنسان واحد ـ ربما علي وجه الأرض ـ يدرك علي نحو شامل الصورة الكاملة لما يدور في تلك اللحظات. كان كل من هو منخرط في الأحداث أو متابع لها يراها من الزاوية المحددة التي يتيحها له موقعه منها، ولهذا كان التخبط والفوضي هما سيدي الموقف وقد نقل لنا الفيلم ذلك بأمانة ودقة دون زيادة او مباشرة فجة، وإنما فقط عبر مراكمة التفاصيل وملاحقة الأحداث بين المواقع الرئيسية لتداعياتها. قليل من الخيال لا يضر من الانتقادات التي اثيرت في وجه الفيلم أن روايته لما حدث في داخل الطائرة نبعت من بنات أفكار خيال المخرج ـ وهو كاتب السيناريو في الوقت ذاته، لأن احدا لا يدري علي وجه اليقين ما حدث هناك. وهذا نقد مجحف وبمعايير الفن ذاته ولا شيء سواه. فالفيلم في أبسط توصيف له كان تناولا دراميا لأحداث واقعية لا خلاف علي كونها وقعت في ذلك اليوم وتلك الساعات تحديدا. بل إنه بهذ المعني يعد مطابقا لتعريف الدراما بمعناها الأصلي كما صاغه المعلم الأول الفيلسوف الإغريقي أرسطو، من أن الدراما هي محاكاة لفعل بالفعل بمقتضيات الضرورة والاحتمال، أي ما حدث أو ما كان يمكن ان يحدث لشخصية ما في موقف بعينه، ولهذا أيضا اعتبر أرسطو الدراما أرقي مرتبة من التاريخ فيما يتعلق باستكناه الحقيقة كل بوسائله الخاصة. وهذا المفهوم ينسحب تحديدا علي إعادة قص الأحداث التي جرت في الطائرة. الأهم من ذلك أن هذا التناول الدرامي لم يجر علي التزام الدقة الوثائقية بالقدر الأكبر في الفيلم، بل إن الزمن الحقيقي للفيلم يكاد يتطابق تماما مع الزمن الحقيقي للأحداث وهو أمر صعب حتي في الأفلام الوثائقية أو التسجيلية الصرف التي لا مجال فيها للدراما بالمرة. فرحلة يونايتد إيرلاينز 93 أقلعت من مطار نيورك في نيوجيرسي في تمام الساعة 8.42 صباحا الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001 متجهة إلي سان فرانسيسكو، اي قبل أن تضرب رحلة الطائرة 11 البرج الشمالي من برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك بأربع دقائق فقط. وانتهت الرحلة 93 علي الأرض في شانكسفيل في ولاية بنسلفانيا في تمام الساعة 10.03 نفس النهار، أي أنها كانت في الجو نحو تسعة وسبعين دقيقة، يضاف إليها نحو عشرين دقيقة التي تستغرقها تحضيرات الرحلة من صعود الركاب وجلوسهم في مقاعدهم وربطهم الأحزمة، نجد أننا أمام نفس المدة التي نقضيها داخل صالة العرض في مشاهدة الفيلم حتي لحظة النهاية. إلي جانب ما أشرنا إليه أعلاه من تجنب المخرج الاعتماد علي نجوم او ممثلين مشهورين (البعض منهم بالطبع وجوه مألوفة في أعمال تلفزونية لكنهم لا يتمتعون بالشهرة)، حرص المخرج/المؤلف في رسمه للشخصيات علي تجنب صناعة الأبطال الخارقين من الأشخاص العاديين، وهي الصناعة التي تجيد سبكها هوليوود. بل إن أحدا من اي من الركاب جميعهم لا يبرز بشخصه علي نحو بطولي متفرد، كما أن ايا منهم لا يبرز بملامح شخصية بعينها تجعله موضع اهمامنا وتعاطفنا أكثر من غيره، لا عبر الدور وحجمه ولا عبر تعامل كاميرا المخرج معه، بل كلهم كانوا سواسية في السيناريو وأمام الكاميرا، وبالمثل فنحن نتعاطف معهم لا كأفراد فقط ولكن كمجموعة من الضحايا جمعتهم الظروف في محنة مشتركة. وعلي العكس من البطولات الفردية، نجد أن البطولة كانت جماعية ليس فقط بالمعني السينمائي وإنما أيضا بمعطيات ما حدث. فالهلع الذي سيطر علي الركاب وطاقم الطائرة بعد أن رأوا بأعينهم الخاطفين يذبحون أحد أفراد الطاقم وبعد أن أدركوا مصيرهم المحتوم من خلال تواتر الأنباء إليهم عبر الهاتف حول ما حدث للطائرات الأخري، كل هذه المشاعر المستعرة داخلهم دفعتهم الي التفكير في عمل شيء، وجاءت تصرفاتهم مشوبة بنفس الاضطراب والخوف، لكنهم علي ما يبدو وقد ادركوا أن مصيرهم محتوم قرروا ألا يجعلو الخاطفين يصلون لغايتهم باستخدام الطائرة في ضرب الهدف المقابل، والذي ربما كان البيت الأبيض أو الكونغرس الأمريكي.وربما لهذا وصف البعض ما فعله ركاب الرحلة 93 بأنه كان بمثابة الطلقة الأولي في الحرب علي الإرهاب، علما بأن قناة ديسكفري أنتجت فيلما وثائقيا عن الرحلة ذاتها عنوانه يفيد هذا المعني رحلة الطائرة التي ردت الصاع The Flight That Fought Back . نفس المنهج في تصوير شخصيات الركاب وطاقم الطائرة اتبعه المخرج في تصويره لشخصيات الخاطفين الأربعة. فقد تجنب تمام السقوط في فخ النمطية وتقديمهم علي أنهم محض أشرار أو مجرمين متعطشين للدماء بوجوه متنمرة وملامح فظة أو غليظة. وإنما قدمهم لنا كبشر عاديين ولكن تحركهم دوافع قوية لارتكاب أفعال بشعة ورهيبة، وإن لم يخض الفيلم بالمرة في تلك الدوافع، لكنه بين لنا أن معتقداتهم الدينية تلعب الدور الأكبر في هذه الدوافع، حيث نلتقي بالخاطفين لأول مرة في الفيلم وهم يؤدون الصلاة في غرفتهم بالفندق، فلم تكن هناك محاولة لتصويرهم كمجرمين محترفين أو إرهابيين متمرسين، ولا هم ينصاعون بسهولة للتصنيفات الرائجة حول الارهابيين، فهم مترددون وأياديهم مرتعشة ومضطربون ومشوشون، ولا يعرفون كيف يسيطرون علي الركاب حين يثورون ضدهم، إنهم في أقل تقدير وكما رأيناهم في الفيلم شباب مغرر بهم خضعوا لمزيج من غسيل المخ والمعتقدات المشوهة، تتملكهم رغبات محمومة في الانتقام والقصاص وإيمان أعمي ومطلق بعدالة ما يعتقدون وصوابيته المطلقة. إن فيلما معروفة نهايته مسبقا من شأنه أن يضع مخرجه علي المحك لأنه غالبا ما يكون معرضا لفقدان أحد أهم عوامل التشويق فيه، وهذا ما نجح فيلم غرينجراس في تجنبه تماما. فالفيلم لا يفقد قدرته علي الاستحواذ علي اهتمام المشاهد ولو للحظة واحدة، وتلك هي شهادة الجدارة لمخرجه، فنحن جميعا نعلم كيف انتهت الطائرة وركابها وطاقمها، لكننا لا نعلم كثيرا عن الرحلة التي قطعوها وصولا إلي هذه اللحظة المأسوية. كل هذا في الوقت الذي تجنب فيه المخرج اتباع أساليب الإثارة الرخيصة الأثيرة لدي هوليوود. وفي النهاية فإن جدارة فيلم يونايتد 93 وخلوه من توابل الاثارة الهوليوودية والمبالغات الدرامية المألوفة والتنميطات المشوهة كل هذا كفيل بحسم الجدل الذي دار حول توقيته وما إذا كان جاء مبكرا أو جرعة زائدة لا يحتملها الجمهور الأمريكي بالذات. وهو في الواقع لم يكن الأول الذي يتناول أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) أو جانبا منها. فإلي جانب الفيلم الوثائقي الذي أشرنا إليه من قبل من إنتاج قناة ديسكفري ، أنتجت قناة الكابل A&E فيلما عن الرحلة 93 ذاتها، كما أنتج فيلم تليفزيوني آخر بعنوان خلية هامبورغ عن أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). ولن يكون فيلم غرينجراس الأخير، فالمخرج الأمريكي المثير للجدل أوليفر ستون يقوم حاليا بتصوير فيلم عن أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) بعنوان مركز التجارة العالمي وقد عرض خمس عشرة دقيقة منه في مهرجان كان الأخير في المؤتمر الصحافي الذي عقده لهذا الغرض. وتبقي تجربة مشاهدة الفيلم كمتفرج عربي ذات طابع خاص أقل ما يمكن ان توصف به أنها خبرة ملتبسة تتنازعها حزمة من الدوافع المتضاربة، خاصة إن كنت عربيا يقيم في الولايات المتحدة. لقد حكي لي صديق عربي كيف أنه مر بتجربة مماثلة لتلك السيدة الأمريكية التي فوجئت بإشارة الفيلم، فقال إنه فوجئ هو الآخر بالإشارة في الوقت الذي كان قد ذهب للسينما لمشاهدة فيلم كوميدي، وكان رد فعله الفوري ـ حسب تعبيره الحرفي ـ أنه غاص في مقعده حتي غطس تماما فيه، كما لو أنه كان يخشي أن يكتشف أحد أنه عربي. وقد أكد لي أنه لا يفكر بالمرة في الذهاب لمشاهدة الفيلم ولا حتي حين يطرح في سوق الفيديو. ربما كان ذلك أمرا مفهوما علي المستوي الشخصي، لكن مشاهدة الفيلم تثير أيضا اسئلة وتجدد إشكالية مضنية أقل ما توصف به أنها تلقي بنا من جديد في نفس الدائرة الجهنمية التي أطلقتها أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). فمن ناحية تثير مشاهد الذبح البشعة لثلاثة من أفراد طاقم الطائرة تقشعر لها الأبدان وتثير خليطا من مشاعر الغثيان والغضب والحزن والأسي المضني، بمثل ما أنها تعمق مشاعر الفرد بالعجز والرعب إزاء مثل هذه الأفعال مهما قيل في شأن الدوافع والمبررات التي تقف وراءها. ومن ناحية أخري، فإن الحرب علي الإرهاب التي أطلقتها أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) لم تقض علي هذا الإرهاب ولم تستأصل شأوته، بل علي العكس تماما زادت جذوته اشتعالا وامتدادا. ثم إن العرب والمسلمين في اصقاع عديدة من الأرض ما انفكوا يتلقون الضربات وشتي صنوف العدوان بذريعة هذه الحرب علي الارهاب حتي الآن، ويبدو العالم أجمع وقد دخل في نفق مظلم لا يلوح فيه أي بصيص ضوء ولا أمل في المستقبل المنظور
انظر المقال في جريدة القدس
واعلن معنا في سينما ايزيس

ليست هناك تعليقات: