الثلاثاء، يونيو 06، 2006

امير العمري يكتب عن كين لوش و الريح التي تهز الشعير

امير العمري
لقطة من فيلم " الريح التي تهز الشعير " للبريطاني كن لوش

فيلم بريطاني يفتح الجرح الأيرلندي في "كان" 59
كان. فرنسا. كتب امير العمري
على حين كان المستوى الفني المتواضع لفيلم "شفرة دافنشي" مفاجأة افتتاح مهرجان كان، لم يكن مفاجئا أن يأتي الفيلم البريطاني الأول في المسابقة (من فيلمين) على هذا المستوى الفني الكبير الذي يخطف الأبصار ويستولي على العقول.
الفيلم بعنوان "الريح التي تهز الشعير" The Wind That Shakes the Barley وهو العمل الجديد للمخرج الشهير كن لوتش Ken Loach وهو سينمائي راسخ، يدرس عادة مواضيع أفلامه بدقة، ويختارها أيضا بعناية لكي تعبر عن موقفه الفكري.
كن لوتش من المخرجين أصحاب الرؤية الخاصة والبصمة الفنية المميزة. وهو لا يصنع الأفلام حسب الطلب أو طبقا لـ "وصفات" خاصة جاهزة لإرضاء متطلبات التوزيع في السوق الأمريكية أو غيرها، بل يعبر من فيلم إلى آخر، عن رؤيته الخاصة للدنيا وإشكالية العلاقات الإنسانية.
ينتمي لوتش إلى جيل 1968 أي ذلك الجيل الذي شارك في شبابه، في الثورة والتمرد والغضب على الأوضاع القديمة في مجتمعات الغرب. وليس من قبيل المصادفة أن يكون أول فيلم يخرجه في تلك السنة تحديدا.
وقد اتجه لوتش يسارا، مع عدد كثير من أبناء جيله من السينمائيين والكتاب والشعراء والموسيقيين.
ولكن إذا كان كثيرون منهم تخلصوا من تمردهم وفضلوا التماثل مع المؤسسة، تارة بدعوى الواقعية، وتارة أخرى بدعوى سقوط التجربة الاشتراكية، وما تبعه بالضرورة من تهميش الفكر نفسه، ظل لوتش ملتزما بأفكاره ورؤيته، قادرا على تناولها فنيا بروح متجددة.
أدى التقسيم إلى اندلاع الحرب في شمال أيرلندا، مع ما استتبع ذلك من قمع الحريات المدنية المخرج كن لوتش
أفلام كن لوتش عادة أفلام صادمة، مقلقة، مثيرة للتأمل والتساؤلات. ورغم واقعيتها الشديدة، إلا أنها ليست أفلاما تقريرية هجائية جافة، بل إن لها إيقاعها الخاص، وشاعريتها الأخاذة، مع نزعة إنسانية واضحة، وانحياز واضح للضعفاء والمقهورين والبؤساء حول العالم.
أخرج لوتش أفلاما عن وحشية الرأسمالية عندما تصل إلى الفاشية، كما في فيلم "أرض الحرية" الذي يدور إبان الحرب الأهلية الأسبانية.
وأخرج أفلاما عن العنصرية والهجرة من العالم الثالث إلى العالم الأول، وعن تناقضات العيش في المجتمع البريطاني في ضوء ما خلفته الثاتشرية، وعن المهمشين وأبناء الطبقات الكادحة وسعى لاكتشاف الحس الساخر لدى تلك الطبقة ومغزاه الاجتماعي.
وأخرج ثلاثة أفلام ذات علاقة بالقضية الأيرلندية هي "أيام الأمل" عن شاب يتطوع للقتال في الحرب العالمية الأولى لكنه يجد نفسه وقد ارسل إلى أيرلندا لقمع الثوار، بدلا من اللحاق بالقوات البريطانية في فرنسا.
وأخرج أيضا فيلم "المفكرة السرية" Hidden Agenda عن السياسة البريطانية التي عرفت بسياسة "إطلاق النار للقتل" shoot to kill التي مارستها القوات البريطانية في أيرلندا الشمالية في الثمانينيات ومعظم التسعينيات.
خلال 28 عاما أخرج كن لوتش 20 فيلما، أحدثها هو فيلمنا هذا الذي لا شك أنه سيكون في قلب المنافسة في مسابقة كان، رغم أننا نستبعد أن تمنحه لجنة تحكيم معظم أعضائها من الممثلات والممثلين (بينهم مونيكا بيلوتشي) السعفة الذهبية مثلا! خاتمة ثلاثية
ومن الممكن اعتبار فيلم "الريح التي تهز الشعير" خاتمة ثلاثية لوتش عن أيرلندا، وأهمها على الإطلاق وأكثرها عمقا واكتمالا على المستوى الفني والفكري.
يعود لوتش في هذا الفيلم إلى أيرلندا في بداية العشرينيات من القرن الماضي، وهي نفس الفترة التي يغطيها سنيمائيا المخرج نيل جوردان في فيلم "مايكل كولينز".
كان فيلم "مايكل كولنيز" (1986) تمجيدا لشخصية زعيم ايرلندي يعتبره الأيرلنديون من أبطال الثورة على الاحتلال البريطاني، الذي لقي نهاية عبثية بعد توقيعه على اتفاقية سلام مع لندن، تضمن كيانا أيرلنديا مستقلا، بسبب ما يراه الفيلم- ضيق أفق وتطرف يساري مراهق.
أما فيلم كن لوتش فيتعمق في تحليل موضوع الصراع وبدايات التمرد والمقاومة المسلحة المنظمة في أيرلندا ثم يصل إلى نهايات مختلفة تماما. فترة التكوين
لوتش في فيلمه يصور كيف تبدأ المقاومة سلبية: رفض عمال النقل نقل العتاد العسكري البريطاني، ورفض السائقين قيادة قطارات تحمل القوات التي أرسلت من الضباط السابقين (في الحرب العالمية الأولى) للسيطرة على الوضع في أيرلندا.
إلا أن القمع يزداد ضراوة، مما يدفع حسب رؤية المخرج شباب الأيرلنديين، من الفلاحين والعمال وفقراء المدن الصغيرة والعاطلين، إلى تكوين جيش يصبح هو "الجيش الجمهوري الأيرلندي" الذي يخوض - حسب الفيلم- نضالا شرسا و"مشروعاً" ضد البريطانيين.
ويدور الفيلم حول شقيقين: داميان وتيدي. ويصور كيف يهجر داميان مهنة الطب لكي يتحول إلى قائد وحدة عسكرية في الجيش الجمهوري "يمارس القتل ولكن من أجل هدف نبيل"، وكيف ينتهي النضال الشرس إلى توقيع معاهدة مع حكومة لندن تمنح استقلالا مشروطا لكيان أيرلندي.
وهنا تبدأ المشكلة الحقيقية التي يتركز عليها الفيلم. الانقسام والصراع
هناك على اليسار - أتباع الزعيم الأيرلندي الماركسي جيمس كونوللي - الذين يرفضون هذه الاتفاقية لتناقضها مع طموحاتهم في استقلال كامل وتأسيس جمهورية وتطبيق برنامج اجتماعي راديكالي.
ويرى هؤلاء - ومنهم داميان - أن المعاهدة لم تحقق طموحات المقاتلين، فبالنسبة لهم يظل شمال أيرلندا تحت الاحتلال، ونواب البرلمان الأيرلندي يتعين عليهم قسم يمين الولاء للملك.
من ناحية أخرى يدافع جناح كبير يمثل الرأسماليين ورجال الكنيسة وقطاع كبير من المقاتلين السابقين عن الاتفاقية، باعتبارها أفضل ما يمكن الحصول عليه، فالبديل حرب شاملة تشنها بريطانيا عليهم لن تكون لصالحهم.
يشكل الجناح الثاني حكومة وقوة شرطة تبدأ في مطاردة العناصرالمنشقة بدعوى حماية الكيان الجديد.
ويصور الفيلم الصراع المسلح بين رفاق السلاح في الماضي القريب، وكيف ينتهي نهاية تراجيدية بأن يلقى داميان مصرعه في مشهد وحشي، على يدي شقيقه، بعد أن يحكم عليه بالإعدام.
يقول كن لوتش: "أدى التقسيم إلى اندلاع الحرب في شمال أيرلندا، مع ما استتبع ذلك من قمع الحريات المدنية".
ويضيف: "كانت حركة الاستقلال التي تزعمها جيمس كونوللي ترتبط بالصراع الطبقي، أي تعتبر أن قضية تحرير أيرلندا ترتبط بتحرير العمال، أما ما حدث مع توقيع المعاهدة، أن استمرت المعاناة، وهو ما دفع الآلاف إلى الهجرة لبحث عن عمل في لندن ونيويورك".
هل كان ممكنا أن ينتهي الصراع ويحسم لصالح القوى التي كانت ترغب في تطبيق سياسة راديكالية للإصلاح الاجتماعي والتغيير السياسي؟
لا يجيب لوتش عن هذا السؤال ولا يشغل نفسه به، فما حدث كان لابد وأن يحدث بفعل عوامل الواقع الموضوعي، غير أنه يرغب في استعادة الدرس والتذكير به.
واتساقا مع رؤيته الرومانسية الثورية في كل أفلامه لا يريد أن يكف عن الصراخ والتحذير، بل إنه يجعل من فيلمه أنشودة إنسانية واسعة الرؤية، عن عذاب العيش تحت الاحتلال بشكل عام، في كل زمان ومكان. مسحة شاعرية
ورغم العنف الذي يصل إلى حد تصوير مشاهد ولقطات لنزع الأظافر، وتنفيذ حكم الإعدام رميا بالرصاص في صبي يافع بسبب وشايته بالمقاتلين.
ورغم ما في الفيلم من مشاهد شديدة العنف لتفجير عربات مسلحة، واعتداء البريطانيين على سكان قرية وحرق بيوتها وتعذيب نساء القرية والتنكيل بهن لدفعهن للاعتراف على المقاتلين والكشف عن أماكن السلاح، إلا أن الفيلم يمتلئ أيضا بالمشاهد الشاعرية التي تفيض رقة وعذوبة.
هناك مثلا العلاقة التي يتابعها الفيلم بين "داميان" وفتاة البلدة "شنيد" التي تفقد زوجها أمام عينيها من التعذيب، وهو ما يؤدي بها إلى الجنون تدريجيا.
شنيد رغم ذلك، لا تخشى تقديم العون للمقاتلين، ونساء الريف الايرلندي عموما يقمن بدور رئيسي في مساعدة المقاتلين في اخفاء السلاح، وتوفير المأوى والمأكل لهم.
وشنيد ترتبط بداميان إعجابا منها ببطولته، وتظل معه حتى النهاية، لا تتنكر له رغم الضغوط. وهي تمنحه القلادة التي تركها لها زوجها، لكي تذكرها به أثناء غيابه.
وبعد أن يموت يأتي "تيدي" إليها لكي يعطيها القلادة مع الخطاب الذي كتبه لها داميان: أتحسس القلادة التي أعطيتيني اياها وأرتعش.. إنني أرى الآن ان ما كنا نحلم به سيتأخر كثيرا عما كنا نعتقد. دور السيناريو
ولعل العامل الأهم الذي يميز الفيلم هو السيناريو المتماسك الذي يهتم بابراز البطولة الجماعية دون أن يغفل التركيز على التمايز بين الشخصيات.
ويستخدم كاتب السيناريو البناء التقليدي الكلاسيكي، مع تحميله أبعادا متعددة تثريه دون الوقوع في التبسيط: الخيانة والبطولة ليسا متعادلين، بل نتيجة اختيار صعب.
والولاء للفكرة ينبع من الولاء للقضية، والحب مستمر وممتد يتحدى الموت: الحبيب الجديد امتداد للحبيب القديم لأن الفكرة واحدة: النضال من أجل قضية.
والحب: ليس مجرد نزوة أو رغبة، بل مشاعر وأحلام وتجربة مشتركة بطول العمر.
فيلم كن لوتش، يسيطر في نهايته على المشاعر بسبب نجاحه في تجاوز الإطار المحدد للموضوع والانطلاق إلى آفاق أكثر رحابة.
عندما صنعنا فيلم "مفكرة سرية" أشار البعض إليه في كان باعتباره "الفيلم الذي يمثل الجيش الجمهوري الأيرلندي.. ربيكا أوبريان - منتجة الفيلم
وهو يتميز بالإيقاع السريع دون افتعال، والاختيار الموفق المدروس لمواقع التصوير، والأداء الواقعي المحكوم لمجموعة الممثلين جميعهم، والصورة الضبابية الشاحبة التي تعكس برودة البيئة وقسوتها مما يضفي مسحة رومانسية واضحة على الصورة.
تقول منتجة الفيلم ربيكا أوبريان: "عندما صنعنا فيلم "مفكرة سرية" أشار البعض إليه في "كان" باعتباره "الفيلم الذي يمثل الجيش الجمهوري الأيرلندي في المهرجان. ونأمل أن يكون رد الفعل هذه المرة أكثر حصافة".
إلا أن الفيلم وجد من يهاجمه ويتهم مخرجه بالسباحة إلى الوراء، بدعوى أن التاريخ تجاوز ما يطرحه، وأن أطراف النزاع في ايرلندا الشمالية حاليا متفقة على استبعاد التلويح بالسلاح لإنجاح اتفاق الجمعة العظيمة.
ويتهم صاحب هذا الرأي- المخرج أيضا بتصوير البريطانيين على أنهم وحوش يقتلون دون رحمة، بينما يصور تردد المقاتلين الأيرلنديين طويلا ثم اضطرارهم للقتل.
ولا شك ان ما أثاره فيلم "الريح التي تهز الشعير" من اهتمام وجدل في كان، سيمتد قريبا إلى الساحة البريطانية عندما تبدأ العروض العامة له. ولننتظر ونرى
انظر المقال علي موقع البي بي سي اؤابيك دوت كوم
واعلن معنا في سينما ايزيس

ليست هناك تعليقات: