الجمعة، ديسمبر 05، 2014

مختارات سينما إيزيس : محمد ملص في " سلم الى دمشق " .. عن الذين صعدوا بحرية بقلم صلاح هاشم



محمد ملص في «سُلّم إلى دمشق» .. عن الذين صعدوا بحرية

حوار مع محمد ملص في مهرجان مالمو السينمائي. السويد

بقلم وحوار


صلاح هاشم


يؤسِّس محمد ملص في فيلمه «سلم إلى دمشق» لسينما مُغايرة ومُختلفة عن سينما ملص السردّية الروائيّة، التي عوَّدنا عليها في أفلامه الأثيرة مثل فيلم «أحلام مدينة»، وفيلم «الليل»، وتحكي أساساً بالصورة وحركة الأحداث، يؤسِّس ملص هنا لسينما تأملية فلسفية بإيقاع جد مُتمهل وبطيء، تبرز وتضع «الكلام» أو «الخطاب الفيلمي» DISCOUR في المقدمة، بحيث تبدو الشخصيات وقد انطلقت في نوع من «المناجاة» الذاتية لتطرح من خلالها همها في العيش في المجتمع السوري الراهن.

يحكي الفيلم - حيث لا توجد قصة بالمعنى المتعارف عليه - عن فتاة تحب السينما وتتعرّف على شاب مهووس بالفن، وتنتقل بمساعدته إلى حجرة في دمشق، داخل بيت تتقاسم فيها العيش مع مجموعة أشخاص، وحين يحكي أحدهم عن تجربة العيش في سورية، يقوم الشاب بعرض بعض الأفلام التي صورها لمناظر ومشاهد في الشارع الدمشقي يتم إسقاطها على شخصيات الفيلم. وينهل ملص هنا من تجربته السينمائية العريضة كأحد أبرز مخرجي «سينما المؤلف» في العالم العربي، فيرسم -عبر «وحدة المكان»- لوحات رائعة ليصنع فيلماً داخل الفيلم الذي نشاهده، ويجعل من «سلم إلى دمشق» شهادة أو «وثيقة فيلمية» لمخرج سينمائي كبير.
وهي شهادة موضوعها السينما ذاتها، التي يعتبرها ملص أداة تأمل وتفكير في واقع مجتمعاتنا الإنسانية.. وأداة تستطيع أن تكون أكثر من «إضاءة» لواقع القهر والقمع والظلم والاستبداد والتعذيب، الذي يتعرّض له المواطن في بلادنا. كما تستطيع السينما، يضيف ملص في مستهل حواره لـ«الدوحة»، بأن تكون سلاحاً ضد الفاشية والرعب الذي يترصدنا في الخارج، وحتى ذلك «الوحش» الذي يقبع داخلنا.
أبرز مشاهد فيلم «سلم إلى دمشق» تُلخص الرعب الذي في الخارج، حيث توقيف الناس في الطريق وقتلهم أو اقتيادهم للحبس، في هذا المشهد تعود امرأة من الخارج وتصيح: يا إلهي ماذا يحدث في هذا البلد؟ كلا، لا أستطيع أن أصف لكم الرعب الذي شاهدته في الخارج، ثم تبكي وتلطم وتنعى حال السوريين في الشارع الدمشقي. هذا الرعب هو الذي يدفع أهل البيت في نهاية الفيلم إلى صناعة سلم وأن يصعدوا به إلى سطح البيت ويتسلقونه ويصرخون «حرية..حرية». في ما يلي تفاصيل يرويها ملص في هذا الحوار الخاص الذي أجريناه معه مؤخراً على هامش مشاركته في مهرجان «مالمو» للفيلم العربي الذي يُقام في جنوب السويد. 
ماذا أردت أن تقول من خلال «سلم إلى دمشق»؟
فيلم «سلم إلى دمشق» هو تعبير عن «العجز عن الصمت»، حين تصبح غير قادر على الصمت عليك أن تبوح، وحين يكون كل شيء حاضراً من الدمار والقتل والسجن والتليفزيون، كان الشيء الغائب بالنسبة لي هو السينما، وكان لابد من أن تكون السينما باعتبارها الفن الأكثر أهمية حاضرة، فكان هذا الفيلم «سلم إلى دمشق»، الذي هو «ابن اللحظة» وابن وضع قمعي شديد، ليقول إن الكاميرا ليست عدواً يجب قتله، إنما هي مرآة الروح، كي لا تخون السينما.
يحتشد الفيلم بالعديد من شهادات المساجين المظلومين التي تربط حاضر الفيلم بماضي سورية بما يعني «استمرارية القمع»..
بعض الإسقاطات والمشاهد التسجيلية في الفيلم مأخوذة عن فيلم حققته في العيد الخمسيني للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعنوان «فوق الرمل، تحت الشمس» عام 1995، ويقول والد زينة في «سلم إلى دمشق»: «.. لقد أفنت القضبان عمرها واقفة أمامي، قضبان من حديد مدهونة بالرماد، وأنا خلفها مدهون باللحم والدم، والقلب غراب ينعق..»..
هناك شهادة أيضاً بخصوص «الكاميرا» وخطورتها.. وكيف يمكن للسينما أن تكون سلاحاً ضد البربرية، أليس كذلك؟
أجل، كما تقول شخصية في الفيلم: «.. لقد أرسل إليّ أبي كاميرا، ونصحني بأن أهبط إلى الشارع وأصوِّر ما يحدث، لكنه لم يكن يعرف أن من يطلع ع الشارع ومعه كاميرا يُقتَل..».. وقد كان لدي بخصوص الكاميرا احتياج للتعبير فوق كل الحسابات، وكما ذكرت.. العجز عن الصمت رهان الصدق..
تنتمي كل شخصية في الفيلم إلى شريحة معينة من المجتمع السوري، فهل أردت بذلك أن تمثل في مجموعها «صورة مصغرة» للمجتمع السوري الكبير؟
كل شخصيات الفيلم شخصيات حقيقية، وموجودة في الفيلم بأسمائها الحقيقية، وهم يتحدثون عن تجارب خبروها وعاشوها بالفعل، فصانع التماثيل في الفيلم من الدروز في سورية، وقد صنع في الفيلم تمثالاً لرجل يحمل رأسه لكي يرى الضوء..كل شخصية في الفيلم تتحدّث عن تجربتها، تتحوّل أثناء التصوير، من إنسان يتحدّث عن تجربته.. إلى ممثل.. ولذلك أخذ مسار الفيلم صبغة أكاديمية.. تعليمية.. وكنت سعيداً عندما أتاح لي مهرجان «مالمو» في دورته الرابعة فرصة عرض الفيلم، ولاحظت أن الجمهور العربي مغمد بالحنين لرؤية بلاده ولو على الشاشة، وكثيرات تقدمن إليّ بعد العرض، والدموع في مآقيهن من فرط تأثرهن.
في «سلم إلى دمشق» يحمل حسين السلم، فيتبعه أهل البيت بكل أطيافهم، العلوي والدرزي والمسيحي والفلسطيني وغيرهم، وهم يسألونه إلى أين تذهب؟ فيجيب: «أنا ذاهب عند الله..». فيصعدون معه وهو يصرخ بعد أن بلغوا السطح «حرية.. حرية»، ثم نسمع صوت دوي انفجار. هل هذا الانفجار هو مآل سورية ونهاية - برأيك - لعصر بأكمله؟
في رأيي، لا أحد يعرف الإجابة، فقد خرج الأمر من يد الذين أرادوا أن يصعدوا السلم حتى يروا بلادهم كما كانوا يحبون أن تكون. لقد صعدوا يبحثون عن حلمهم بالحرية، ثم سمعنا صوت انفجار، مما يعني إما أنهم قتلوا أو اختفوا عن الوجود. من البداية كان الهدف هو الحرية، أما الآن فنحن مهددون بالعودة مئات السنين إلى الوراء..
لديك الآن مشروع بعنوان «سينما موءودة»، ماذا عن هذا المشروع؟
أنا اخترت في حياتي الطريق إلى الكتابة تارة عبر الكاميرا وتارة عبر القلم، وإذا اختفت الكاميرا يكون القلم حاضراً يومياً، ولا أخفي بأن لدي مفكرتي الشخصية التي تعود إلى عام 1968 ولحد اليوم. وأمام الحالة التي نعيشها هذه الأيام في بلدي، كنت أشعر بالحاجة للبحث عن «سماكة» -من سميك- زمنية لما يحدث دون الرغبة في التنظير والاستنتاجات. عدت إلى هذه المفكرة، فتبين لي أن ما نواجهه في علاقتنا بهذا النظام، يعود إلى مجمل التفاصيل التي كان يعيشها الإبداع دائماً، ولذلك اخترت عبارة «سينما موءودة» لمشروع كتاب يضم مفكرة سينمائي سوري في الفترة من عام 1974 وإلى الثمانينيات، واخترت العام 1974 لأنه العام الذي بدأت به حياتي السينمائية كمخرج عائد من الدراسة في الخارج، واخترت أن أتوقف عند فترة الثمانينيات لأن سورية كانت تواجه آنذاك مأزقاً سياسياً أيضاً، والذي دفعني حينها لتحقيق فيلم خارج سورية ،وأعني به فيلم «المنام» الذي كرست له أيضاً كتاباً خاصاً نشر عام 1990 عن دار الآداب، فكأن كتاب «سينما موءودة» هو أسبق على كتاب «المنام». كما قررت أن فيلم «سينما الدنيا» الذي كنت قد بدأت بكتابته بعد فيلم «الليل» مباشرة عام 1995، هذا النص الذي يعتبر بالنسبة لي الأكثر وجدانية وتألقاً سينمائياً، هذا الفيلم «سينما الدنيا» حيل بيني وبين تحقيقه ضمن مؤامرة مُصطنعة من قبل المؤسسة العامة للسينما في سورية، ويبدو لي أن ثمة شعور بعدم الرضا عما أحققه نتج لدى الجهات الرسمية بعد فيلم «الليل»، وبقي هذا النص الذي قيل فيه دائماً من قبل محمد الأحمد المدير العام للمؤسسة بأنه..«أجمل نص قرأته».. فقررت أن أصدر هذا النص في كتاب بعنوان «مفكرة وسيناريو فيلم» لم ينفذ ككتاب أدبي، وليس ككتاب إخباري، وقد سبق لي إصدار عدد من الكتب لتشكيل التعبير عن تجربة عبر الفيلم أو الكتابة، من ذلك كتاب «الليل»، وكتاب «الكل في مكانه، وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط»، وكتاب «مذاق البلح»، الذي يعد بمثابة مفكرة مدن عشت فيها في إطار العمل السينمائي..
ما هي في رأيك أسباب عدم حصولك على فيزا دخول إلى مصر لحضور التكريمين اللذين أقيما لك في مهرجاني الإسماعيلية الإسكندرية..؟
لا أعرف -أنا نفسي- لذلك سبباً، ربما يكون السبب هو أن «الحكومة» تدير «البلد» في وضح النهار، أما «الأمن» فهو الذي يدير «الوطن» أحياناً في الخفاء، ومطلوب منه هو وحده أن يمنح أو يسمح بالدخول، ولكن، لكي لا يبقى الأمر غامضاً، فليعرف السيد جابر عصفور وزير الثقافة في مصر سبب المنع ويعلنه، وكل هذا 
التساؤل والإلحاح من جانبي، لأنني أعتبر أن هذا «الموقف» تجاه سينمائي، هو.. 
إساءة لمصر، وليس لي..

عن مجلة " الدوحة " عدد شهر ديسمبر 2014

ليست هناك تعليقات: