الأحد، ديسمبر 07، 2014

مختارات سينما إيزيس : من أين نبدأ، وكيف نريد أن ننتشر في الغرب ،ونحن لانعرف أنفسنا وحال عربيتنا في القاع ؟ حوار مع د.عاطف يوسف



مختارات سينما إيزيس
من أين نبدأ، ونحن لاتعرف أنفسنا، وحال لغتنا العربية في الحضيض ؟

الروائي والباحث د.عاطف يوسف صاحب رواية " الجدع " يلخص تجربة حياة عريضة في حواره مع منير عتيبة في مجلة " البيان " الكويتية


صورة الحوار


نسيان اللغة العربية كان كابوسى الأعظم.. والعلم هو سلاحى الأقوى لأعيش فى الغرب

أجرى الحوار: منير عتيبة


فى إحدى زياراته لمدينة الإسكندرية سنة 2010 عرفت الأديب الدكتور عاطف يوسف، ابن الإسكندرية الذى هاجر منها إلى فرنسا بحثا عن الذات، وعن حياة مختلفة تحقق فكرته عن الحرية والعدل والتقدم، عرفت مأساته عندما اكتشف أنه يحلم بالفرنسية، وجهاده الممتع لاستعادة لغته العربية الأم، قرأت روايته الأولى الجدع التى تقدم وجوها جديدة ربما لأول مرة فى الرواية العربية لباريس مدينة النور التى تعتبر إحدى المدن المركزية فى أدبنا العربى الحديث، عرفت بهجرته من فرنسا إلى الولايات المتحدة ليبدأ حياة جديدة، أعجبنى إيمانه الدائم بقدرة الإنسان على التجدد والمغامرة والاكتشاف، إيمانه بالعقل الإيجابى الناقد الدافع إلى التقدم، قدرته على الرؤية الهادئة المستبصرة، وحماسه الذى بلا حدود للغته ولأمته العربية التى ينقدها من موقع الابن المحب لا المهاجر الناقم المتكبر كما يفعل البعض، وفى حوارى معه طوفنا على الكثير من القضايا التى تهمنى وتهمه وأظنها تهمك أنت أيضا.
ولد عاطف يوسف بالإسكندرية عام 1943، درس فى كلية التجارة جامعة الإسكندرية، وهاجر إلى فرنسا عام 1972  ودرس الاقتصاد بجامعة السربون، عمل فى وزارة الثقافة الفرنسية، ثم انتقل عام 1997إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أصدر خمس روايات خلال الفترة من 2010 حتى 2014 وهى: الجدع، الآنسة شروق، العربجى، العرضحالجى، الحكيم (هى الرواية الأولى فى السيمفونية الخالدة، أما الرواية الثانية فستكون طاها، والثالثة رفاعة).

  • ربما كانت فكرة الثورة محركاً أساسياً فى أعمالك الروائية، لكنها أيضا خططت بشكل ما لمسارك الحياتى، ثورة على الوضع الراهن تدفعك إلى الهجرة من الإسكندرية إلى فرنسا، ثم ثورة أخرى تدفعك إلى الهجرة من فرنسا إلى أمريكا بعد عشرين عاماً.. لماذا هذه الهجرات المتكررة فى حياتك وما أثرها فى إبداعك؟

الثورة موجودة داخل الانسان أينما حل. نحن جيل عبد الناصر، وإن كنت  أختلف معه فيما وصل إليه لأنى كنت على أقصى يساره. واشتراكى فى أول اعتصام عرفتْه مصر وهو اعتصام كلية الهندسة سنة1968، ذلك الاعتصام الذى ترعرعتْ فكرته برحلة قمت بها حول البحر المتوسط استغرقتْ عاماً كاملاً، كنت أبحث في تلك الرحلة عن الثورة في داخلى، إلى أن أطلق البوليس المصرى علىَّ النار عندما كنت ألقى كلمة على الطلاب نُقلتُ على أثرها إلى مستشفى الطلبة ومكثت فيها قرابة ثلاثة أشهر.  ثم كانت هزيمة الجيش المصرى ... وجاء السادات وقد وقّع الرئيس تصريح خروجى من مصر حين وضع اسم مصر على عريضة "كامب ديفد". واستقر بى المقام في باريس بعد رحلة قمت بها حول العالم، باريس ليست مدينة الألف ميل بل مدينة موحشة موجعة مؤلمة، من يتغلب عليها يكسبها ومن يهادنها تكسره، ومن يخَف منها تدهسه. ولحبى للمغامرة قررت أن ألاعب باريس كملاكم مصري على أن أكسب جولاتها أيا كان عددها . أقتنعتُ بأن أتسلح بأول سلاح فرنسى لأنازل به باريس، وكان العلم والتكنولوجيا الحديثة أقوى سلاح تمرستُ عليه، وأكملتُ ما انقطع بى من تعليم بجامعة اسكندرية ــ كلية التجارة ــ ودرست في جامعة السربون الاقتصاد تحت إشراف أحد علمائها وهو "شارل بتلهايم" وكان صديقا للطلبة أكثر منه أستاذاً. لم أتعلم منه نظريات في الاقتصاد بقدر ما تعلمت منه الإنصات والتفكير وتحديد الجواب.
بعد انتهاء الدراسة عملت في وزارة الثقافة الفرنسية فترة طويلة وكنتُ مديراً فنيا لمسارح جامعة باريس، لأن فن المسرح حملته معى من مصر، وصقلته في مسارح باريس التي تنقلت فيها من مسرح لآخر، ومن دار أوبرا لأخرى، ومن مهرجان لآخر، حتى أصبح اسمى يرن في الأوساط الفنية الباريسية فى فنون الديكور والإضاءة والصوت والملابس، وحتى الإخراج المسرحي وذاع صيت المصرى من سويسرا إلى بلجيكا، إلى أن أنشأتُ مسرحاً خاصاً بى هو(مسرح الفير بلاى) أقدم فيه ما يحلو للجمهور أن يراه بشكل مغاير لما تقدمه مسارح الدولة الفرنسية.
ثم قررت الهجرة إلى أمريكا فدرست فى هارفارد فنون المقايضة، والحديث وفن الكتابة والأدب، وأظهرتُ ما تعلمته في السربون، وفتحتُ الأبواب مرة أخرى لتدريس اقتصاد وفن التجارة الخارجية، ثم جمعتُ كل ما تناثر من أوراق ومعلومات وعلوم وفنون وتكنولوجيا وحداثة وما بعد الحداثة لأفرغها جميعاً في شكل روايات تعايشت معها زمناً، قدمتْ لى الولاياتُ المتحدة الوقت والزاد والعيش، وقالت لى عليك أن تنتج أدباً وأن تكتب لأن الكلمات هنا لا تُمحى حتى وإن كانت باللغة العربية.

  • تابعتَ عن كثب أحداث وتطورات الثورة المصرية فى 25 يناير 2011، وظهر أثر ذلك فى كتاباتك وتعليقاتك على مواقع التواصل الاجتماعى، فكيف ترى الثورة وتطوراتها وأثرها فى الإبداع؟

منذ انطلاق الثورة وحتى هذه اللحظة لا أعتبرها ثورة بل أسميها الانتفاضة المصرية العظمى لأن الثورة هي انقلاب طبقة على أخرى من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ومن هذا التعريف السياسى لا نستطيع أن نطلق علي عزل رئيس إلا انتفاضة عظمى من شعب مسلح بالفقر والهوان والمذلة .
الذى أفرزته تلك الوثبات الاجتماعية المصرية أنها لم تقدم الجديد في مجال الثقافة، فالكتابات العربية متدنية، والمسارح مغلقة، والسينما هابطة، والفنون التشكيلية ليس لها وجود! أما المناخ الاجتماعى المصرى فأصابه التفسخ وحالة من البرود وعدم الاكتراث، أما حالة مصر السياسية فلم يكتمل نصابها الدستورى بعد، والاقتصاد المصرى مازال يعانى ما لم تعانيه مصر منذ العصر المملوكى، فكيف تحت كل تلك المؤثرات ينتج المجتمع مبدعين أوحتى مقلدين؟ ليس هذا تصوراً تشاؤمياً بل قراءة واضحة دون خجل في واقع تعيشه مصر ويزاوله أكثر من نصف سكانها لكى يكون العلاج صحيحاً.
وفي تقديرنا أنه تكمن هنا ظاهرة الإبداع‏ لتتجاوزالوضع الفردي للمبدعين إلي السياق المجتمعي للإبداع‏، بمعني نوعية النظام السياسي‏، ومدي انغلاقه أو انفتاحه‏،‏ وطبيعة النظام الاقتصادي‏،‏ ومدي حثه للأفراد علي المبادرة والمخاطرات المحسوبة‏، ونوعية القيم الاجتماعية السائدة‏ ومدي محافظتها أو تقدُّميتها فيما يتعلق بتوسيع دائرة حرية التفكير وحرية التعبير‏، وتقلص دائرة المحرمات أو اتساعها مما من شأنه أن يكف قدرات الناس الإبداعية.

  • رواياتك ومقالاتك الساخطة الكاشفة للفساد فى مصر، والتى تحاول أن ترسم خطاً إشاريا للعودة إلى الطريق الصحيح للمدنية والحضارة، وبالذات عن طريق إصلاح التعليم، تشى بمتابعة ومعايشة على البعد للشأن المصرى وكأنك تعيش فى مصر، كيف يتأتى لك ذلك؟ وهل ترى أن المراقب من الخارج يستطيع أن يساعد بشكل أفضل عمن يعيش داخل المشكلة؟

يمكن القول أنه كلما تقدم البحث العلمي في بلد ما واتسع نطاق التكنولوجيا التي هي التطبيقات العملية للعلم؛ زاد الدخل القومي، وارتفعت معدلات التنمية، مما من شأنه أن يصب في قوة الدولة بالمعني الشامل لذلك، وينعكس علي نوعية حياة المواطنين. وقد ناديت ولا أمل النداء بأن التعليم في مصر هو المشروع القومى الأول وهو بوابة المدنية والحضارة بالمفهوم الشامل للحضارة صناعيا واقتصاديا وثقافيا.
إن رحلاتى حول العالم وزياراتى المتعددة لدور أبحاث وجامعات وسجون ومصحات ودور عرض كلها تصب في خانة واحدة هي مصر. فأنا دائم المقارنة ودائم البحث والتنقيب طارحاً أسئلة حُرّمتْ في مصر وكُفّرتْ في البلدان العربية مفادها لماذا وصلت تلك البلاد إلى درجة الحضارة والمدنية التي هي عليها الآن بينما مصر مازالت في المؤخرة علمياً وثقافياً وصناعياً وحتى اجتماعياً؟. تلك المقارنات التي لم يتوقف عنها عقلى قط جعلتنى أعيش مصر كما لو كنت موجوداً بداخلها. والمتابع لمصر من الخارج ومن منظور مقارنة هذه بتلك يشاهد مصر بوضوح من خلال سماء صافية، وكأنه يطير فوقها ويهبط كالنورس ليغوص في ترابها. وليس كل من هو خارج مصر يراها بذلك المنظور، لأن كثيراً من المصريين في الدول المتحضرة سواء في أوروبا أو أمريكا إما أن يهجروا مصر تماماً أو يعيشوها في الغرب ويعودوا إليها وكأنهم لم يبرحوها إلا اسماً. وقد وضحت ذلك بإسهاب في رواية العربجى.
المراقب من الخارج يستطيع أن يتعايش مع المجتمع الغربى وكأنه منه، أما الذى يتفرنج فإن يدك والأرض منه، ومن يتعالى على بلاده (فالعوض على الله فيه) كما يقول المثل الشائع.
أما ذلك الذى يعيش المجتمع الغربى حتى النخاع دون أن يفقد مصريته ولو للحظة فهو الذى تعتمد عليه مصر في حركة التنوير التى تنشدها.
ولن تحل المشكلة بمجرد زيادة الميزانيات، وإنما بالاتفاق علي صياغة سياسة للعلم والتكنولوجيا واضحة الهدف ومحددة الوسائل، ويجب أن نكف عن النقل، ونُعمل العقل بالعلم وليس أي علم بل بالعلم التحليلى النقدى.

  • إحدى صور الرعب الكبير الذى عشته عندما اكتشفت أنك تحلم باللغة الفرنسية! فكيف أثر فيك ذلك؟ وكيف استعدت علاقتك باللغة العربية؟

اخترت فرنسا وخاصة باريس لتكون وطناً، ووضعت خطة عمل ومنها تفرع العديد من الخطط المرحلية للوصول إلى الهدف الأسمى، وليس النهائي لأن تطلعات الإنسان ليس لها نهاية. وكانت البداية أن أتعلم اللغة الفرنسية حيث وجدت جامعة السربون تفتح لي أحضانها وتنير لي الطريق؛ فقدمت لي منحة علمية لدراسة تلك اللغة التي تعلمنا مبادئها محرفة في مدارسنا الثانوية. وكانت الخطة التالية أن لا أتحدث العربية إن أردت أن أتحدث الفرنسية كما أوصى أستاذ اللغة؛وقد كان، ومن هنا انقطعتْ كل صلة لى بكل ما هو عربى  حتى الأكلات التي ولدنا على روائحها، وتغير المذاق وتغير المزاج وتركت نفسى أسبح في اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي الذى أصبح في متناول يدى بحكم عملى في المسارح القومية التي تهتم بمخارج ألفاظ الممثلين وكيفية النطق والإلقاء. وكنت أنتبه إليهم وأتعلم منهم فلا تفلت منى شاردة حتى أحفظ النص المسرحى الكلاسيكى على خير وجه، وكيفية نطق الكلمات ومخارج الحروف حتى طغت الفرنسية على لغتى الأم، ونهمى للقراءة بالفرنسية لم ينقطع وهى عادة تعودتها من صغرى في مصر. فاختلط الأمر علىّ من حوار نجيب محفوظ إلى حوار فيكتور هيجو. ومن فكاهة الجاحظ إلى فكاهة موليير.
ورأيتُ أمى في المنام  واقفة على باب شقتنا بحينا العتيق بمحرم بك بالإسكندرية تودعنى وتلقى على مسامعى مواعظها التي لا تنقطع، وقمتُ فزعاً من الحلم، ليس من مواعظ أمى ولا من وداعها ولا من محرم بك، ولكن لأن أمى لم تفهم ما أقول مما زاد في غضبها فانقضّتْ على رأسى بكلتا يديها محاولة إخراج لسانى وقطعه إن لم أتحدث اللغة التي أرضعتنى إياها لكى تفهم ما أقول.
هذا الحلم المرعب لا أنساه لأنه وضع النقط على الحروف، وكنت أحتفظ في مكتبة البيت بنسخة باهتة مهلهلة من القرآن الكريم أهدتنى أمى إياها في يوم الخروج من الإسكندرية. حاولت القراءة باللغة العربية لكن عينى تذهب دائما إلى جهة اليسار أي من أول السطر الأفرنجى، وزاد ذلك في صعوبة فك  الكلمات إلى حروف  لفهم الكلمة. وهنا قررتُ أن أستعيد لغتى الأولى على خير وجه، جمعتُ العديد من كتب قواعد اللغة العربية البسيطة والتي كانت مقررة على المرحلة الإعدادية ونهلت منها ما استطعت، ومن هنا كانت البداية، وتلتها بدايات أخرى بأن أشترى جريدة مصرية واحدة كل أسبوع محاولاً قراءة مقال واحد فقط ونسخه ثلاث مرات لأنتصر على المشكلة الكبرى وهى العودة بالكتابة من اليمين إلى اليسار بعد أن تعود العقل على العكس مدة سبعة عشر عاماً. وعادت إلىّ اللغة بسماع أغانى الموسيقار محمد عبد الوهاب وتقاطيقه وأناشيده بلغة عربية فصحى حتى اليوم. والقفزة الهائلة جاءت عندما قررت حين أقرأ كتاباً بلغة لاتينية أن أقرأ بعده كتابين باللغة العربية، حتى استعدت لغة أمى ولم تقطع لسانى. واليوم أصبحت من أكبر المدافعين عن اللغة العربية التي انحطت كثيراً في وسائل إعلام مصر ومدارسها وجامعاتها. وإن لم تنصلح لغة البلاد فلن ينصلح حال مصر.
تلك هي أعظم تجربة عشتها لاستعادة ذاتى ولغتى الأم.

  • جاءت الكتابة فى مرحلة متأخرة من حياتك العمرية. فما الذى دفعك لأن تكتب، وتكتب الرواية بالذات؟ ولماذ كتبت بالعربية وليس بالفرنسية كما فعل آخرون، وبالتأكيد كانت الكتابة بالفرنسية ستعطيك مكانة مختلفة وربما مزيداً من البريق؟

الكتابة لغة سحرية، ومن يكتب لا يستطيع أن يفعل شيئاً سوى الكتابة، وكأننا خلقنا لكى نكتب. حقيقة الكتابة بدأت مع أولى مراحلها في سن الرابعة عشر أو الثالثة عشر في المرحلة الإعدادية، عنما كنت أكتب مواضيع الإنشاء، ولم يصدق مدرس اللغة العربية أنى كاتبها. مما علمنى أن لا أكتب قط سوى في الخفاء.
أما الحدث الأهم الذى منعنى من الكتابة فهو ضيق حال الأسرة المعدمة في المدينة والتي توفى عائلها في تلك السنة فخرجتُ للعمل لإعالة الأسرة المكونة من بنتين وولد، تزوجتْ البنتان بعد تعليم متوسط، ونال الأخ تعليماً عالياً واطمئننتُ على أمى،  وخرجتُ من الإسكندرية لأحتضن العالم ملء ذراعىّ وصدرى مكللا بالأمل في حياة سعيدة، حاملاً سبع دولارات وكثيراً من دعاء أمى.
الكتابة حالة شاملة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، فكلما توافر أحد أو بعض تلك العوامل في باريس كنت أكتب بالفرنسية لغتى التي تبنتنى، وفى رحلتى التي استقر بها المقام نوعاً ما في مدينة بوسطن العاصمة الثقافية للولايات المتحدة تفتحتْ كنوزٌ لا يستهان بها لأملٍ راودنى صغيراً بأن أكتب بلغتى الأم التي أتمسك بها تمسكي بالحياة، وكل شيء يبدأ بالتعليم لأن العلم فاتح كل الطرق؛ لهذا درست الكتابة في جامعة هارفارد ومعهد كامبرج ببوسطن، وكان التشجيع والثناء أن أكتب بلغتى الأم وأتناول كتاباتى إليهم بالشرح والتفسير في لغتهم. والرواية هي أقرب الطرق لأصل ما انقطع في غربة لم تألفها البعثات العلمية المصرية التي تذهب لعام أو أكثر وتعود، وكأنها غرفت الكنوز الغربية، وتشمر عن تراجم غير صحيحة أو منقوصة أو مسروقة مع أن المسألة كلها مجرد بعثة علمية لم تكن أكثر من رحلة ترفيهية. وسعادتى في الكتابة بلغة يفهمها أهل بلدى التي أنا منها مهما طال الزمان، ليس طمعاً في بريق ولكن طمعاً في رضاء أمى.

  • فى روايتك الأولى (الجدع) تناولت العلاقة بين الشرق والغرب بشكل غير مسبوق، كما نظرت إلى الغرب متمثلا فى باريس مدينة حلم عصر النهضة العربية بشكل مختلف نزع عنها هالة الحلم التى طالما صدرها لنا كتابٌ قبلك، فهل كنت تتعمد فقط المغايرة أم أن هذه الرواية نتاج تجربة حياتك فى باريس؟
صورتُ باريس كعاصمة الحداثة الأوروبية والجمال والفنون والثقافة، وهى كذلك حلم النهضة المصرية منذ العزيز محمد على وإلى اليوم. ولكن المتغلغل في المجتمع الباريسى والذى تصور نفسه من مواليد باريس المنطقة الخامسة ومن شارع موفتارد بالتحديد يجد أن لباريس وجهاً آخر غير معلن, تحاول السلطات الباريسية إخفاءه بكل الطرق؛ حتى أنهم صدقوا تلك الخدعة ذات الوجهين. فان لم تعطِ باريس أخذت منك، وعلى أي حال باريس تأخذ المال فقط وتعطيك خير صناعتها وهو البارفاه بأغلى الأسعار، ثم يتبخر من على جسدك بمجرد دفع الثمن الباهظ. لابد لمدينة الجمال أن يكون لها وجه آخر بشع ليحمى جمالها متمثلا في الشرطة وشرطة الشرطة والشرطة القضائية وعصابات الليل والنهار أيضا، تقدم لك باريس أطباقها الشهية وتقدم لك أطباقاً غير شهية تصيبك بالغثيان.
باريس الجميلة وباريس البشعة إن لم تعرف الاثنتين فأنت لم ترَ إلا جمالها الأخاذ وتصبح باريس مائدة شهية لا تُمحى من الذاكرة أبداً.
أما رواية الجدع فلم تكن سيرة ذاتية ولا تجربة حياتية بل هي من خيال الكاتب، وان تشابهتْ فيها بعض الأحداث بالواقع، وبعض الأشخاص في الرواية لهم وجود حقيقى، والبعض الآخر ليس له وجود إلا من خلال الأشخاص الحقيقيين. الجدع هي رواية كل الناس وكل من أراد النجاح كما نوّهتُ بين صفحات الرواية بأن الجدع هو أنت وهى وهو وأنا كذلك.
وفى الطبعة التالية سأكمل ما تبقى من حياة الكميسير وكذلك السيدة دونيز جليزير.

  • مشروعك الروائى (الثلاثية) إعادة تقييم ورؤية جديدة لرموز نهضتنا الفكرية والإبداعية فى العصر الحديث.. فكيف تصف هذه التجربة؟
القاسم المشترك  بين رموز نهضتنا الفكرية والإبداعية هي حبهم لباريس، مهد الحضارة الحديثة، توفيق الحكيم فيلسوف ومسرحى لا نظير له أحب باريس وعشقته، طه حسين مفكر عشق باريس وأحبته حتى الثمالة، رفاعة الطهطاوى رائد فكر غرق لذةً في باريس حتى رأسه.
هذا عن مفكرى عصر انتهى، لكن عصرنا اليوم الذى هو مستقبل رواد النهضة لم يتحقق فيه ما كانوا يرنون إليه منذ ثلاثة قرون، اليوم نحن في حاجة إليهم أكثر من أي وقت آخر؛ تحتاج بلادنا اليوم لحركة جديدة للإبداع الحر، تربط بين العلم والفن والفرد والمجتمع والوطن والعالم.
أما في السيمفونية الخالدة نكتشف ونشك أنه كان هناك نهضة فكرية كاملة بل النهضة تبدأ منذ أن بدأ الشك فيما وصل إليه كل من الحكيم وطه ورفاعة.
  • كثيرون من الأدباء العرب حريصون على أن يترجَموا وتنشر أعمالهم فى أوروبا وأمريكا، كيف ترى مدى الاهتمام بالأدب العربى الحديث فى الغرب؟ وكيف يمكن أن نمد جذور التواصل؟
كثيرون من الأدباء العرب حريصون على أن يترجموا وتنشر أعمالهم فى أوروبا وأمريكا، وتلك الجملة عينها تدل على مدى نقص وتدنى واستهانة العرب بآدابهم، إن كان في الشعر أو الرواية أو أي نص مكتوب  من باب أولى أن يُعرّف العربُ العربَ بآدابهم! فكم نحن العرب جاهلون بآدابنا، فلم نتأثر بها! وكل همنا أن نُعرّف الغرب بآدابنا التي نحن نجهلها!. فكيف لنا ونحن جاهلون بأنفسنا لهذا الحد أن ننشر أعمالاً عربية في الغرب؟!! فضلاً عن كون العربى لا يقرأ سوى ست دقائق في السنة.
كيف ترى مدى الاهتمام بالأدب العربى الحديث فى الغرب؟
ارتبط الاهتمام الغربي بالأدب العربي في المرحلة الاستعمارية، بالتركيز على ترجمة كتب تدغدغ الاستفهامات الموجودة أصلاً لدى الغربي حول المشرق موطناً للسحر والجنس. 
ومع نكسة 1967 نشأ فضول غربي تجاه الأدب العربي، جاء في إطار انتقائي يريد تكريس الصورة السلبية عن العرب. 
لكن لفت فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988 أنظار دور النشر العالمية لأسباب تجارية إلى ضرورة التعرف أكثر على الأدب العربي؛ مما أدى إلى ترجمة روايات عربية عديدة إلى اللغات العالمية، ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر التي دفعت الإسلام والمسلمين إلى واجهة الأحداث من جديد وذلك بدافع الخوف منه وحب التعرف عليه في المقابل، وإن النظرة النمطية تجاه العرب لدى الغربيين إلى اليوم لم تختلف كثيراً.
وكيف يمكن أن نمد جذور التواصل؟
تلك هي المشكلة العويصة البسيطة! والحقيقة أنا أعتقد أن العرب كجمهور مقصرين تجاه الأدب العربي. لا أدري إن كان من المفروض أن نبحث عن تأثير الأدب العربي على الغرب قبل أن نهتم بالأدب العربي في الوسط العربي أولاً؛ لأنه مع وجود الكم الهائل والغني والثقافي والتاريخي يجدر أن نرى تأثيره بيننا قوياً وواضحاً. أما الغرب فسيلحق بنا دون شك وستتهافت دور النشر الغربية على آداب المشرق لأننا احترمنا آدابنا، وعرفناها ونقدناها ولم نسفه من لغتنا العربية التي باتت عالة على لسان متحدثيها من مقدمى البرامج والمثقفين والسياسيين والاقتصاديين  العرب.
جذور التواصل في يد الجانب العربى الذي عليه أن يعرف نفسه أولاً؛ لأن الغرب لا يعرف اليوم إلا القوة بالمفهوم الحديث أى بالعلم، وإن لم نربط الأدب العربى بالعلم والبحث العلمى فستبقى لغتنا تابعة وأدبنا ليس إلا ذكرى.

ليست هناك تعليقات: