السبت، ديسمبر 06، 2014

صلاح هاشم يكتب لمجلة " الدوحة " عن فيلم " مومي " الفذ للمخرج الكندي الشاب المعجزة إكزافييه دولان



                               
 
 
الفيلم الحاصل على جائزة النقاد
                  في مسابقة مهرجان " كان " السينمائي الدولي 67
 
 فيلم " مومي " للكندي إكزافييه دولان: " عاصفة " من الحب .
                   
بقلم

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
صلاح هاشم
 

باريس . خاص لمجلة " الدوحة "

من أجمل الأفلام التي تعرض في باريس حاليا فيلم " مومي " MOMMY   أو " أمي " للمخرج الكندي الشاب إكزافييه دولان، الذي يعتبر " طفل السينما الكندية المرعب " وعن جدارة. والمرعب المقصود بها هنا " عبقري " فقد حقق دولان وهو لم يتجاوزالآن الخامسة والعشرين من عمره بعد، حقق 6 أفلام روائية طويلة ولحد الآن! ..
 والمدهش في الأمر أن هذه الافلام متميزة، ومتنوعة و "فريدة " وتبدو كما لو انها كانت من صنع ستة مخرجين ،وليس من صنع مخرج واحد. فكل فيلم منها يقف لوحده وبمفرده على حدة ، لتميزه عن بقية الأفلام الأخري. ومن شاهد مثلي فيلمه البديع " توم في المزرعة " TOM A LA FERME ذو المنحي البوليسي، لن يحسب بعد مشاهدة فيلم " مومي " الفاقع للغاية وألي أبعد الحدود في " ميلودراميته " -  لكن ربما كانت هذه الميلودرامية أيضا سر نجاحه،...لن يحسب  أنه من صنع نفس المخرج. هذا الاكزافييه دولان الحكواتي الكندي الشاب المعجزة ، الذي صار " ظاهرة " ليس في السينما الكندية وحدها،  بل في السينما العالمية أيضا، وليس بكلامه وتصريحاته، بل بتجاربه السينمائية الفذة – وهو سائر و "ثائر" ايضا على درب المخرج الامريكي كوينتن تارانتينو - إذ يدلف  مثله ومع كل فيلم ..الى.. " مغامرة " فنية جديدة . والذي شاركت افلامه في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية ، وتوهجت مثلا مؤخرا في مهرجان " كان " السينمائي العريق الذي عرض  لدولان فيلمه الأول " أنا قتلت أمي "  وهو في سن 19 سنة ! ( مثل الفرنسي فرانسوا تروفو الذي عرض فيلمه 400 ضربة  في المهرجان وهو في سن مماثلة .) .ثم توج " مسيرته السينمائية الابداعية هذا العام  في دورة المهرجان 67 بمنح فيلمه " أمي "  " جائزة النقاد  "، مناصفة مع المخرج والمفكر السينمائي الفرنسي العملاق جان لوك جودار بفيلمه البديع " وداعا للغة ". والمعروف أن هذه الجائزة تمنح  للتجارب السينمائية الجديدة ، التي لاتطور من فن السينما فحسب ، بل تساعد أيضا على دفع " حركة " أو آلية تجديد وتحديث السينما – في ما يطلق عليه بـ " سينما المؤلف " - الى الأمام...
 
                              إسلوب " دولان " الحداثي في المعالجة
 
والحقيقة أن فيلم " مومي " وكنت شاهدته في مهرجان " كان " 67 وأعجبت به كثيرا ، ثم شاهدته من جديد بعد أن خرج للعرض التجاري في فرنسا ، واستمتعت به أكثر، وأعمق، يستحق هذه الجائزة وعن جدارة، بعد ان وقف الجمهور في مهرجان " كان " OVATION  ليشيد بالفيلم، ويصفق لمخرجه وأبطاله لمدة عشر دقائق، وهو يستحقها لأنه يضرب عصفورين بحجر، فلا يعالج في فيلمه موضوعا شيقا فحسب، بل يبرز ايضا على مستوى الطريقة أو الاسلوب الحداثي الذي انتهجه في المعالجة، وحقق به إضافة جمالية مهمة الى التقاليد السينمائية المعروفة..
يحكي فيلم مومي  - الذي يبدأ بفقرة من نوع الخيال العلمي مكتوبة على الشاشة تقول ان ثمة حكومة جديدة انتخبت  عام 2015  في كندا وانها  اصدرت قانونا جديد يتيح للوالدين اذا فشلا في تربية اولادهما تسليم  الولد المعني الى اقرب مستشفي ! - يحكي من ناحية الموضوع أولا وكما تمثلته عن شيئين مهمين جدا في حياتنا. يحكي عن "موضوع " التربية " ومشاكلنا مع أولادنا في تربيتهم وتعليمهم، ويجعلنا نتعاطف في الفيلم مع هذه الأم الكندية التي تذهب وتتسلم ابنها " ستيف " وعمره 15 سنة في أول مشهد من الفيلم  من رئيسة " إصلاحية " - دار لعلاج المراهقين والاحداث-  بعد ان فشلوا  في علاجه وبعد أن تقرر بسبب جرم ارتكبه وكاد معه ان يحرق زميله في الاصلاحية ، أن ينقل من الاصلاحية الى سجن لقضاء فترة عقوبة..
 
                                           تحية الى الأم شجاعة
 
 وإما أن تحضر أمه لاستلامه.. وتعالجه بنفسها.فهو من نوع المراهقين من ذوي الطباع الحادة والحركية الدائمةHYPERACTIVITY   في أعتى أشكالها، ومتقلب الهوى والمزاج والمزاح، ولايستقر ابدا في مكان، ومتطرف ومشاغب في كل تصرفاته، وإما أن يودع الحبس..
وتتأسى مديرة الاصلاحية لحال " الأم  الشجاعة " التي حضرت لتتسلم إبنها . ثم تجيئها مكالمة تليفونية من بعض العاملين في الدار، من أن ستيف الملعون يعاكسهم ويثورعليهم ويقاومهم بشدة وهم يسحبونه ،أو بالاحرى يجرونه جرا لتسليمه الى أمه، وتردد الرئيسة ان هذا ولد ملعون ومجنون بحق. وهذه الافتتاحية الفيلمية هي بمثابة مقدمة ضرورية  لمتابعة أحداث الفيلم في مابعد ،ومعرفة ان كانت هذه الام، سوف تنجح في مجابهة ذللك " التحدي " الذي وضعته لنفسها، ونجاحها أو فشلها في " تربية " وتعليم وتهذيب ذلك الـ " ستيف " الملعون الشقي..ومحاولتها في أن تجعل منه إنسانا سويا. ونحن نتفهم طبعا رغبتها في أن يكون " ستيف " على المستويين المادي والاجتماعي كما تحلم كل أم  في كل الدنيا أن يكون ابنها أحسن منها
 ومن جانب آخر يعالج الفيلم موضوع " الصداقة " حيث تنشأ في الفيلم علاقة صداقة بين ستيف وأمه ، وبين جارتهم في البيت المقابل لبيتهم ، في تلك الضاحية  الكندية الموحشة، - لا أحد يسير أو يظهر هنا في الشارع - التي تتحول بشوارعها الى ساحة للجري والركض واللهو البريء لثلاثتهم ،والتي ينطلق فيها ستيف عند عودته معهما من السوبر ماركيت، وهو يركب عجلة سلة البضائع وينطلق يسابق الريح وهو يستمع  الى أغانيه ومقطوعاته الموسيقية المفضلة  ويصرخ : حرية .. حرية ..
ويؤسس دولان في فيلمه لموضوع الصداقة من خلال العلاقة التي تنشأ مع تلك " لجارة " التي تعمل مدرسة – مرة اخرى موضوع " التربية " – و تعيش مع ابنتها وصديقها  في عزلة موحشة، ويؤكد دولان على تلك العزلة  بحيلة سينمائية بارعة ،عندما يجعل الجارة تتلعثم حين تهم بالكلام ، وتتردد ، وتجد صعوبة في نطق ماتريد أن تفصح به ويجعلنا نتعاطف معها ، وهي تحاول أن تخرج من  عزلتها ، وانكفائها على حياتها الخاصة ، بتبادل الزيارات مع جارتها أم ستيف، بل وتساعدها أيضا في تربية ابنها ، وتعطيه دروسا خصوصية  قبل أن يدخل الامتحان ويحصل على شهادة ..
ونشاهد في الفيلم ونحن نتابع أحداثه بشغف بالغ تلك التحولات التي تطرأ علي ثلاثتهم ،وهم يتعاركون ثم يتصالحون ويتسامحون ويتصافون ، ومن أجمل مشاهد الفيلم مشهد " حفل العشاء "  الذي تدعي فيه الجارة الى العشاء في بيت الأم، ومن فرط سعادة ثلاثتهم  بتلك الصداقة الجديدة،  يأخذون في الرقص على أنغام أغنية للمغنية الكندية الشهيرة سيلين ديون تقول فيها- وكأنها تستشرف ماسوف يقع  بعد من " مأساة " – أن المرء لايتغير ابدا..، كما أن تلك الجارة سوف تساعد من بعد في أنقاذ " ستيف " بعد أن حاول الانتحار في السوبركاركت.
فيلم " أمي " ، الذي يستغرق عرضه أكثر من ساعتين - ويمضي بأحداثه بسرعة من فرط جماله، فلايجعلنا ننشعر بترهل في ايقاعه أو تطويل ، ونظل طوال العرض مشدودين الى  متابعة أحداثه بفرح وحزن، وألم وشغف، وحبث تنطلق فيه الشتائم والمشاجرات بين الأم " شجاعة " وابنها المريض كما تنطلق الرصاصات من مدفع رشاش، هو أحد أهم  وأجمل الافلام التي شاهدتها التي تعالج موضوع واحد – من خلال التطرق الى موضوع التربية وموضوع الصداقة – الا وهو موضوع " الحب "..
  لكن – وعلى يد هذا المخرج الشاب المجدد العبقري والمتألق دوما سينمائيا في كل أعماله والتي تستحق المشاهدة كلها عن جدارة لسبب من تنوعها وفرادتها كما أسلفنا - لكن ليس كل حب، بل الحب الذي يشبه "عاصفة" مجنونة أو بالاحري إعصاريقتلع  مثل كرة النار المتدحرجة و بكل العواطف الجياشة ، يقتلع كل شيء أمامه، كما في بعض أفلام المخرج الفرنسي الكبير موريس بيالا وبخاصة في فيلمه الأثير " في نخب حبنا " . " مومي " ليس فيلما ، انه قنبلة من مشاعر الحب والكره والبغض والثورة والتمرد والغضب والتضحية والغفران تتفجر في وجوهنا لتفقآ عيوننا في كل لحظة.فلا نقلق أو نتململ أو نمل، بل نطلب المزيد..
 
                              التجديد في النوع السينمائي
 
 وهو يجدد أيضا في النوع السينمائي على مستو ى الاخراج وجماليات السينما، حين يصور الفيلم كله بطريقة 1:1  ويغلق مخرجه الكادر السينمائي المستطيل الذي تعودنا عليه ، ويجعله يحتل ثلت الشاشة فقط ، كما في كادر الصورة الفوتوغرافية ، ويصور فيلمه بهذه الطريقة في ماعدا مشهدين : مشهد عودة ستيف الولد مع أمه وجارته من السوبرماركيت، ومشهد الرحلة الى البحر حين يفتح الكادر ويجعله مستطيلا كالمعتاد، ولا يجدد هنا دولان في فيلمه من ناحية الكادر حبا في التجديد، بل لحاجة سينمائية ارتأها لفيلمه  الا وهي التركيز على الشخصيات في الفيلم، بحيث تتواجد كل شخصية في " قلب " الكادر أو الإطار السينمائي، وبحيث يكون جل اهتمامنا هو التركيز عليها وحدها، وبالتالي لاحاجة بنا الى الاشياء الاخري التي يمكن ان تكون متواجدة معها في الكادر المستطيل.، كما ينجح دولان أيضا على مستوي شريط الصوت  الباهر في الفيلم الذي يحقق من خلال اغنياته وموسيقاه اعلى مستوي من الميلودرامية المؤثرة لفيلمه، فتجعلنا نحلق في بعض مشاهد الفيلم ونكاد أن نطير..
 لكن ربما يكون أهم إنجازفني حققه دولان بفيلمه " مومي " - وهو الاسم المكتوب على قلادة أهداها " ستيف " لأمه وحاول أن يقنعها بانه لم يسرقها من السوبر ماركت ،بل اشتراه بنقوده من دون جدوي -  هو انه  كرس فيلمه كله  للرأي القائل بأن السينما هي " فن الممثل " وعن جدارة ، وأن أي فيلم لايشمخ ، لا بـ"سيناريو" الفيلم المكتوب، كما يري بعض المخرجين في السينما العالمية، أو بـ " مونتاجه" كما يري المخرج الايطالي الكبير انطونيوني.بل يشمخ فقط.، كما يرى المخرج الامريكي الكبير أورسون ويلز،يشمخ بتمثيله..
فقد نجح دولان في أن يجعل من فيلمه وعلى الرغم من انه ينتهي بمأساة،  فيلما متدفقا  جدا بـ " حيويته " من خلال إيقاعه المتدفق السريع مثل " شلال " ، ومن خلال شموخ  الاداء التمثيلي  وسموه في الفيلم : عند الممثلة الكندية القديرة آن دورفال في دور " داي أو ديانا " الأم ، والممثلة الكندية الرائعة سوزان كليمان في دور " كيالا " الجارة ، والممثل الكندي الشاب الموهوب انطوان أوليفييه بيلون في دور الفتي المراهق " الملعون " ستيف، تحت إدارة دولان، فلولا شموخهم في تمثيلهم، وروعة وجلال الشخصيات التي لعبوا أدوارها في الفيلم ، ما كان لهذا الفيلم " مومي " أن يحقق مصداقيته، ويتألق كـ " شهب " منير في سماء السينما العالمية، ويكون بمثابة بمثابة  تحية الى" الأم " التي صنعتنا، وتحية الى " فن الممثل " في السينما، ولذا اسنحق الفيلم جائزة النقاد في مهرجان " كان " 67 ، ويستحق المشاهدة عن جدارة ، فترقبوه..
 
عن مجلة " الدوحة " عدد شهر ديسمبر 2014

ليست هناك تعليقات: