الأحد، أكتوبر 14، 2012

مختارات إبزيس : حوارمع الروائي محمد ناجي في باريس أجراه محمد حربي



محمد ناجي في باريس تصوير صلاح هاشم

غرافيتي على الحيطان تصوير صلاح هاشم



شاعر الرواية
 محمد ناجي
  يطرح رؤيته للمشهد السياسي
 في مصر

حاوره محمد حربي


بسبب الشاعرية التى تختفي وراء أقنعة الحكى فى رواياته خلع عليه الروائي الكبير علاء الديب وصف "شاعر الرواية" وربما هذا ما اغراه عندما هاجمه المرض أن يعود الى سيرته الأولى عندما كان شاعرا يكتب القصيدة قبل حرب اكتوبر وقبل ان تختطفه الرواية بسبب خافية قمر وفى كتابه تسابيح للنسيان لامس محمد ناجى - الذى يخضع حاليا لعلاج فى احد مستشفيات باريس بعدما اجريت له عملية زرع كبد - الشعر ربما لأن الشعر تميمة ضد الألم ولكن الروائى ما أن استراح قليلا حتى عاود الحكى وكتب رواية وبدأ فى الأخرى وأفرغ جعبته من النثر المشعور - كما يسميه فى كتاب ثالث هو "ذاكرة النسيان" يقول أنه تتمة لكتاب التسابيح، محمد ناجى قبيل ساعات فقط من دخول غرفة العمليات كان معى فى هذا الحوار على الإيميل وكتب شهادته فى المشهد السياسي والثقافي المصري برؤية الروائي وواقعية الصحافي.
- كيف تعايش غربتي المرض والسفر؟
أدرك أنني لست المريض الوحيد فى العالم، فهناك من يعانون أضعاف ما أعانى ولا يجدون فرصة للعلاج، وأعرف أن فى الحياة محنا تتضاءل أمامها عذابات المرض، وأرى أن المحنة قد تكون درسا بليغا وفرصة لتأمل الحياة والمصائر بشكل أعمق وأصدق. أنا أعايش متاعبي، وأحاول أن استغل الوقت المتاح فى القراءة والكتابة وتطهير النفس. ولا أخفيك أن محبة أصدقائي تؤنسنى كثيرا. 
وها أنا أتابع العلاج فى فرنسا، بعد أن أجريت لى عملية زرع كبد نتجت عنها تعقيدات أولها انسداد متكرر فى القناة المرارية يستدعى كل مرة تركيب دعامة بالقسطرة وثانيها قصور وظائف الكلى نتيجة جرعات الأدوية الكبيرة لتثبيت الكبد وثالثها وجود فتق بالبطن مكان العملية. أما عن موعد عودتى فذلك متروك للأطباء، الذين طلبوا أن أكون تحت تصرفهم حتى نهاية العام. 
- كيف تقرأ المشهد السياسي المرتبك فى مصر بعد ثورة يناير؟. وأي الأسئلة المطروحة الآن تستحق التوقف أمامها؟
أظن أن المشهد ليس مربكا، بل إن الارتباك موجود فى رؤى النخب السياسية وتعاملها مع الواقع. فلو نظرنا إلى ما تحقق بعد انطلاقة يناير الثورية لوجدنا الكثير: تم انهاء نظام يوليو، وجرت انتخابات رئاسية بعيدا عن أى ضغوط سلطوية قمعية، وتمت الانتخابات البرلمانية بحرية نسبية رغم ما شابها من ارتباكات قانونية وتوظيف لرأس المال والدين، وانطلقت طاقات الشباب لتنتزع مساحة أكبر للتعبير من خلال تكوين الأحزاب وتنظيم المظاهرات والاعتصامات والإضرابات. 
طبعا هناك أهداف مهمة لم تتحقق ولم يتبلور نهج لإنجازها، منها العدالة الاجتماعية، وتحديد الإنحيازات الطبقية، وإعادة رسم السياسات تجاه الأمن القومي وقضايا المنطقة، ووضع سياسات اقتصادية تضمن تحرير الإرادة المصرية من الضغوط الإقليمية والدولية. يضاف إلى ذلك صياغة تصورات واضحة تضمن عدم إعادة إنتاج منظومة الفساد المالي والإداري. 
الشق الذي تحقق يمكن أن نعتبره "بنية أساسية" تمهد الطريق لتحقيق البقية، لكن حجم الإنجاز سيظل مرهونا بنضج القوى السياسية وتفاعلها مع حقائق الواقع، وبتبلور معارضة توحدها الرؤى والبرامج. 
لكننى ألاحظ بأسى أن الحكم والمعارضة فى حالة خصام لا حوار، وأن الصراع بينهما يجرى عبر تعبئة شعبوية حول شعارات وليس حول خطط وبرامج، وأن الإعلام الحكومي والخاص والمستقل يغذى حالة الخصام بتتبع زلات الكلام هنا أو هناك، وإثارة قضايا صغيرة تغطى بضجيجها على القضايا الجوهرية. وألاحظ أيضا اختلاط الحابل بالنابل فى الشارع السياسي مما يعطى لأعداء المطالب الثورية وحراس الفساد القديم فرصة لبلبلة الناس وخلط الشعارات.

محمد ناجي في باريس تصوير صلاح هاشم

- ماذا تعنى بإنهاء نظام يوليو؟ وكيف تفسر رفع الشباب فى الثورة لصور عبدالناصر؟
نظام يوليو معروف: مفتتح قصير لمحمد نجيب، ثم عبدالناصر والسادات ومبارك. وبعيدا عن حسابات الإنجازات والسلبيات قام النظام على رئيس عسكري تتجدد رئاسته بالاستفتاء، فيما عدا انتخابات مبارك الهزلية. وحزب واحد يديره الرئيس، ويتشكل منه البرلمان والمحليات، وإن تم تجميل الصورة بعد ذلك بأحزاب رضيت أو أجبرت على أن يكون دورها ديكوريا. وانتخابات تصوغ نتائجها أجهزة الإدارة والشرطة. 
النظام واحد، لكن الآدء اختلف من رئيس لآخر. وكان لكل واحد منهم رهان، وكل رهان أسفر عن نتائج حسب طريقة مواجهة التحديات: 
- عبدالناصر. طموح لتحرير الإرادة وتحقيق مستقبل أفضل، انحشر فى مأزق النكسة. 
- السادات. خروج من المأزق العسكري، انتهى بمآزق أخرى فى السياسة والاقتصاد والأمن القومي. 
- مبارك. تفادى المآزق بشكل أسفر عن شلل فى الحراك السياسي والإدراى والفكري والإبداعي. 
الثلاثة لم تكن لهم اختيارات أيديولوجية، وإنما برامج عملية يتم ترتيبها وفق أولويات داخلية. 
الشباب رفعوا صور عبدالناصر فى الميدان لأنه يمثل رمزا لمعانٍ افتقدوها فى عهد مبارك: التحدى والإصرار، الطموح. وبعيدا عن الحديث عن السلبيات والعثرات سيظل عبدالناصر رمزا لأشياء يحبها المصريون. وهل يستطيع أحد أن يتجاهل معنى أن يخرج الناس ليهتفوا له وهو مهزوم عام 67؟
- لماذا تستخدم تعبير انطلاقة يناير الثورية؟ وهل تعنى أننا كتبنا مطلع القصيدة أما الرواية فلم تكتب بعد؟ هل سنكتب ملحمة الثورة أم سنقف عند حدود الأغنية؟ 
أرى أن ما حدث هو مجرد "انطلاقة" أما الثورة فما زالت رؤاها قيد التبلور فى الحوار السياسي والمجتمعي. واكتمال الثورة لا يكون إلا بتحقيق أهدافها، أو على الأقل ببلورة رؤية ممنهجة لها ووضع آليات لتنفيذها. مطالب النخب المعارضة قبل الثورة ركزت على إفشال مخطط التوريث، وتداول الرئاسة، وكف يد الأجهزة القمعية عن تزييف إرادة الناس فى الانتخابات التشريعية، وقد تحقق ذلك. 
أما الجماهير التى خرجت إلى الشوارع فى 25 يناير فكانت لها مطالب إضافية أهمها العدالة الإجتماعية وهو فى رأيى المطلب الأساسى، وتحقيقه هو الثمرة الحقيقية لشجرة الثورة، وبدونه نكون قد زرعنا وروينا "شجرة زينة" لا ثمار لها. وتحقيقه يتطلب إعادة رسم السياسات الداخلية والإقليمية والدولية وفق خطة متكامه. 
و تحقيق المطالب مرهون بوضوح رؤى القوى السياسية، وفاعليتها، وقابليتها للتحاور، وقدرتها على مواجهة بقايا النظام القديم المتجذرة فى عالم المال ومؤسسات الدولة. 
- كيف تقرأ المشهد الثقافى فى مصر حاليا ونضال المثقفين فى الدفاع عن مدنية الدولة؟ 
نضال المثقفين هو فى النهاية جزء من النضال العام، فالمشهد الثقافي لا ينعزل عما يدور حوله، وهو دائما جزء من النسق العام السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وطبيعى بل وحتمي أن يهب المثقفون للدفاع عن مدنية الدولة باعتبارها ركنا أساسيا فى النضال العام فى هذه المرحلة، وباعتبارها أيضا ضمانا لحرية الفكر والإبداع. 
- وهل تابعت الإبداع المصري عن ثورة يناير؟
لم أتابع بشكل جيد الإصدارات الجديدة، بحكم صعوبة الحصول عليها فى فرنسا. لكنني أتابع بدأب من خلال الانترنت الفعاليات الشعرية والغنائية والتشكيلية التى نزلت إلى الشارع والتحمت بالمطالب الثورية، مثل احتفاليات الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد، ونشاطات فرقة اسكندريلا والفنانين أحمد إسماعيل وحازم شاهين، ورسوم الجرافيتي. أتابع هذه الفعاليات بفرح، وأرى أنها تمثل نقلة نوعية مهمة نحو تفعيل دور الإبداع وإطلاقه من سجون الكتب والندوات والمعارض الضيقة إلى فضاء الشارع المصري. 
- يرى بعض المثقفين إن وصول الإسلاميين الى الحكم يقلص مساحات الحرية والتفكير، كيف ترى ذلك؟
الإسلاميون لم يتمكنوا من الوصول للحكم إلا بفضل مساحة الحرية التى أتاحتها انطلاقة يناير الثورية، وأتصور أن الحفاظ على هذه الحرية هو ضمان لهم قبل أن يكون ضمانا لغيرهم من أطياف العمل السياسي. وأى قفز على هذه الحقيقة من جانبهم سيكون نوعا من الغباء السياسي المدمر للبلد. 
أما بخصوص تعاملهم مع حرية الفكر والإبداع خلال وجودهم بالحكم فلابد أن تنتج عنه بعض المشاكل لأن لهم تصورات خاصة حول حدود تلك الحرية ولهم جمهور واسع يتحيز لتلك التصورات. لكن علينا أن نعى أن التاريخ لا يمضى هكذا إلى النهاية، وتفاعلات الفكر والابداع تفرض نفسها على مساراته، ففى ظل دول وإمبراطوريات إسلامية كان هناك شعراء ومفكرون لا تتوافق أفكارهم مع قناعات الحكام، بل كان بعضهم مقربين من البلاط أو عاملين فيه مثل ابونواس، وابن الرازى الطبيب صاحب الرسائل الفلسفية المعروفة بمخالفتها للتصورات الاسلامية.
- يمر المجتمع المصري الآن بتحولات عميقة فى البنى الاجتماعية تتعرض فيه الطبقة الوسطى للتفكك، وهى الطبقة التى تحافظ على قيم المجتمع وأمدت الرواية العربية بمواضيعها. فهل ستتحول الرواية الى الهامش للبقاء فى المشهد الإبداعي؟. 
اسمح لى أن أقول أننى اهتممت منذ روايتى الأولى بمشاكل الطبقة الوسطى وهمومها وانكساراتها وانهياراتها، وأرى إن تحولاتها لم تبدأ بعد انطلاقة يناير الثورية، وإنما منذ أربعين عاما، فمع "سداح مداح" الانفتاح سقطت شرائح منها من قاع الطبقة، وهددتها ظروف معيشية بالغة القسوة، ولاعبها النظام بسياسة "العصا والجزرة. انخرط البعض فى منظومة الفساد، ورضى بدور المسوق الإعلاني لسياسات النظام، وهاجر البعض، وبحث البعض عن حلول شخصية فى هامش "البيزنس". 
مصر نزفت عرق سواعدها وعصارة فكرها خارج الحدود على مدى أربعين سنة، وعاملت البشر المصريين باعتبارهم عبئا أو سلعة زائدة عن الحاجة تسعى لتصديرها، وتستورد بتحويلاتهم الدولارين اللحوم المجمدة. 
طبعا لا أستطيع أن أتجاهل نضالات بعض أفراد الطبقة الوسطى من خلال النقابات المهنية والحركات المستقلة والتى مهدت لانطلاقة يناير، وبعد الانطلاقة بدأت شرائح الطبقة الوسطى كلها تستنهض همتها لتستعيد دورها، لكنها ما زالت مسكونة ببعض شوائب الفترة السابقة. 
أما عن آفاق الرواية فلابد أن مساراتها ستكون غير الأمس، فالأحداث الجارية ستفرض الاهتمام بموضوعات وشخصيات وأفكار تختلف عما سبق، ولابد للروائى أن يبحث عن أشكال وآليات للسرد تناسب موضوعه الجديد 
- هل لا تزال الكتابة حرفة قلق لا تمرد كما قلت ذات يوم؟ أم أن الثورة ستدفع الكتابة الى معايشة التمرد؟
ستظل الكتابة عندى "صنعة قلق"، بمعنى إعادة فحص القناعات المستقرة على ضوء المعطيات المستجدة والأحلام المتجددة. ليست فاعلية المبدع فى أن يرضى أو يصفق، ولا فى أن يكون مكملا غذائيا لسلطة حاكمة أو لاتجاه سياسي، وإلا أصبح دوره إعلاميا لا ثقافيا. دوره الحقيقي أن يسكن المساحة التى لم تتحقق من الحلم، وأن ينبه ويحذر. هذا القلق الخلاق هو الذى يقود فى النهاية الى التمرد الخلاق إذا اقتضت الضرورة ذلك.
- فى روايتك "ليلة سفر" تعرضت لموضوع العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وإذا تجاوزنا شخوص الراوية ورمزيتها، كيف ترى العلاقة الآن بين المسلمين والمسيحيين؟ 
فى الدولة المدنية لا يوجد مسلم ومسيحي، وإنما "مواطن مصري" أيا كان دينه ومذهبه، ومحاولات أشعال الفتنة الطائفية هى أخطر ما يهدد الدولة المدنية وأمن البلد ومستقبله. وأظن أن الفيلم الأخير عن الرسول كان يستهدف ذلك وفى مصر تحديدا.
الفيلم كان اختبارا لصلابة التكوين المصرى، وجاءت النتيجة مثيرة للتفاؤل، فكان موقف الكنيسة وأقطابها رائعا، ورد فعل المسلمين فى عمومه متزنا ومتفهما للمسئولية، فيما عدا بعض التجاوزات الفردية - مثل تمزيق الإنجيل - والتى يجب محاسبة مرتكبيها قضائيا. 
محاولات بث الفتنة مدمرة طبعا، لكننى لا أميل إلى وصفها بالزلزال، فهى ليست عنصرا أصيلا فى التكوين الطبيعى المصرى، وإنما هى أشبه بتفجير نووى معادى يأتى غالبا من خارج الحدود. 
- فى كتابك الاخير "تسابيح للنسيان" تحول إلى الشعرية، هل هو الشعر يندهنا فى ساعات التعب؟. أم هى الشاعرية التى تسكن تحت جلد الحكى فى رواياتك؟ ولماذا الاصرار على تسمية الكتاب نثرا مشعورا وليس قصيدة نثر؟
لا يشغلنى أمر تصنيف الكتاب، فتلك وظيفة النقاد. يهمنى فقط أن يكون ما أكتبه جميلا. ولهذ الكتاب ظرف خاص، إذ كتبته فى فترة احتدام المرض، وضمنته تأملاتى فى الحياة والموت والأقدار والمصائر والزيف والصدق والقوة والضعف، ولأن الموضوع عاطفى وذو شجن خاص فقطعت سطور الكتاب على نحو شعرى، لتساعد الوقفات والسكتات على تأمل المعانى. 
هل كان ما كتبته نثرا أم شعرا؟. ذلك أمر يخص النقاد. وأذكر أن الناقد والأديب الدكتور أحمد الخميسى وصفه بأنه كتاب "توافرت فيه خبرة الشعر وخبرة الرواية"، بينما قال المفكر و"الناقد المتخفى" نبيل عبدالفتاح أنه "متتالية سردية شعرية فى نشيد ملحمي". 
أما اطلاقى تسمية "نثر مشعور" عليه فكان من باب الدعابة، وهربا من التورط فى النقاش الدائر حول قصيدة النثر وإذا سألتنى ما هو الشعر سأقول لك: "لا أعرف". 
- كيف لا تعرف وقد بدأت شاعرا قبل ان تخطفك الرواية؟
دعنى أتذكر معك الحكاية من أولها. 
سكننى الإيقاع مبكرا، واكتشفت منذ طفولتي قدرتي على النظم. ربما نما فى ذلك مع سماع أخوتى الكبار وهم يرددون أناشيدهم وقصائدهم المدرسية ليحفظوها. تنبهت لذلك أختى فاطمة رحمها الله، وساعدتني وأنا فى الصف الثاني الابتدائي على نظم قطعتين زجليتين، الأولى عن جمال "عبدالناصر" منقذ الأوطان، والثانية عن الأم التى حملتنى فى بطنها. أظن أنها كتبت أغلب السطور، لكنها ظلت فى ذاكرتي مجرد مساعدة، أنا المؤلف. 
قدمت المقطوعتين إلى مدرسي، الذى سحبني من يدى وقدمني بلطف إلى ناظر المدرسة. كان الناظر زجالا موهوبا يشهد له الناس. وكان لا يخجل من موهبته، بل يباهى بها ويستعرضها بطيبة وظرف، يتوقف فى الشارع أمام مقهى أو متجر ليعلق بالزجل على مشهد رآه، أو يداعب رجلا بفكاهة زجلية. تصرفات لا تناسب وضعه كناظر مدرسة، لكن ذلك لم يقلل من هيبته. كان الجميع يعاملونه باحترام ويطلبون مداعباته، وكانو يلقبونه "السمباتيك المحبوب"، ولا أعرف معنى ذلك. 
المهم، فرح بى حضرة الناظر، "السمباتيك المحبوب السيد أمين أيوب". أجلسني على كرسي، وأعاد تقويم القطعتين بصوت عال. أظن أنه حذف وأضاف الكثير، لكنه ظل فى ذاكرتي مجرد مساعد، أنا المؤلف. 
قدمت المقطوعتين بعد ذلك فى حفل مدرسي كبير، وشاركت فى تمثيلية لعبت فيها دور مصر بشكل رمزى، وهى تحمل شعلة الحرية وسط ضباطها الثوار. 
فى المرحلتين الإعدادية والثانوية أصبحت خطيب المدرسة وشاعرها، لا يفوتني منبر طابور الصباح يوما. ما زلت أحتفظ بأشعاري فى تلك الفترة، فيها غزليات لحبيبات وهميات وقصائد مناسبات. كلها تجارب مصطنعة، لكنها منظومة بشكل جيد وتراعى قواعد العروض والقافية. وفى تلك الفترة بدأت كتابة القصة والرواية، ومازلت أحتفظ برواية عنوانها "ابن الخادمة" كتبتها بخطى "المنعكش"فى ثالثة إعدادي. 
فى نها ية المرحلة الثانوية تعرفت على أشعار السياب وعبدالصبور والبياتى وحجازي وغيرهم من أقطاب شعر التفعيلة، ومع انتقالي للجامعة فى القاهرة انفتحت أمامى آفاق ثقافية أرحب وكتبت قصائد تخصني، لا اصطناع فيها ولا محاذاة لأى شاعر آخر حتى من المحدثين. 
بعد النكسة التى وافقت عامى الثالث فى الجامعة، أصبحت قصائدي أكثر انشغالا بالهم العام، وحين دخلت الخدمة العسكرية أصبحت أكثر اهتماما بالبشر الواقع المعقد الذى أعقب حرب أكتوبر التحريرية أنضج إحساسي بالدراما، فكتبت مسرحية شعرية بعنوان "ليلة الملك"، ولم أنشرها. وخطوة بعد خطوة اصطادتني الرواية. 
- يقول بعض النقاد ان المبدع يكتب نصا واحدا طوال حياته، وما الروايات الكثيرة او الدواوين إلا تنويعات على لحن وحيد. هل تؤمن بهذه المقولة؟
دعنى أتعامل مع هذه المقولة من منطلق أن الكاتب تكوين خاص متفاعل مع واقع اجتماعى ووقائع زمان ومكان محددين. هذه المعادلة بين البيولوجى والاجتماعى والوقائعى هى التى تنتج الكاتب وتشكل اهتماته. تتعدد خبرات الكاتب على مدى العمر، وتتبدل أحاسيسه واهتماماته وأفكاره لكنه يظل نفس التكوين، وكتاباته المتعددة هى نبض مسارات هذ التكوين. 
من هنا أميل للموافقة على أن أعمال الكاتب الواحد هى جدارية ضخمة، وأن أعماله المتعددة المذاقات والأشكال والأساليب تفاصيل فى تلك الجدارية. هنا البطن، وهناك العين، والغريزة، والوردة التى يشمها. لكل تفصيلة تكوين، كما أن لكل كتاب مذاق، لكن اللوحة تتكامل بكل تفاصيلها. 
- استفدت من عملك الصحافى فى بنية الرواية، ولكن العمل الصحافى التهم أوقاتا كثيرة كان ممكنا ان تخصص للحكى والشعر. كيف ترى علاقة الصحافة بعملك الابداعي؟
أعتقد أن الصحافة أفادتنى كثيرا، فهى مهنة تضعك فى بؤرة الحياة، تجبرك على متابعة الأحداث بتركيز شديد، فتقرأ وتدرس وتحلل. 
وقد أحدث ذلك عندى توازنا بين الإنغماس فى الواقع، وبين تأملات الفكر ذات الطابع الفلسفى المجرد وتهويمات الخيال. ولا تنسى أن الصحافة هى فى النهاية كتابة وقدرة على توصيل المعانى بدقة وبأقل عدد من الكلمات. لكننى كنت طوال الوقت حريصا على ألا تجذبنى أضواؤها بعيدا عن اهتماماتى الأدبية، أو تتلف لغتى الأدبية بلغتها المباشرة، أو تشغلنى بطبيعتها العملية عن حسى التأملى.
 

الثورة مستمرة كتابة على الجدران تصوير صلاح هاشم



عن الأهرام . الملحق الثقافي. بتاريخ 14 اكتوبر 2012

ليست هناك تعليقات: