الاثنين، نوفمبر 05، 2007

سينما الواقع في مونبلييه بقلم صلاح هاشم


لقطة من فيلم موال فلسطيني
ملصق الفيلم الجزائري اللي فات مات






القبس في مهرجان مونبلييه السينمائي 29






سينما الواقع في مونبلييه 29




اللي فات مات.. رحلة في ذاكرة الجزائر


و'موال فلسطيني' عن غربة الوطن


مونبلييه ( فرنسا) ـ صلاح هاشم




انطلقت فعاليات مهرجان مونبلييه السينمائي 29 كما تنطلق الألعاب النارية في سماء المتوسط المرصعة بالنجوم، وهي تتشكل بألف لون وضوء، وتسحرنا ببهجتها ، فلم يعد مهرجان مونبلييه احتفالا بالسينما فقط، بل أصبح احتفالا ب 'فرح' الحياة ذاتها في تلك المنطقة المتوسطة من العالم، اذ ليس هناك كما يقول الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت 'ليس هناك تحت الشمس، أجمل من أن تكون تحت الشمس' ثم سكت في سجنه ورحل

عرض المهرجان في حفل الافتتاح فيلم المخرج الصربي امير كوستوريكا الجديد 'عدني بذلك' ضمن بانوراما الافلام الجديدة خارج المسابقة، التي تعرض في مونبلييه لأول مرة قبل خروجها للعرض التجاري في القاعات.. فزرعنا منذ أول لقطة في فيلمه في قلب المتوسط الكبير، بمناخاته ومشكلاته وتناقضاته، عبر ذلك المنظر الطبيعي الساحر وامتداداته الى البحر فينا، وانتهى حفل العرض في المساء بحفل موسيقي رائع في أوبرا 'مونبلييه'

فجأة تحول مبنى المجمع الثقافي الضخم 'الكوروم' في مونبلييه الذي تعرض فيه افلام المهرجان في اقصى الطرف الشرقي من المدينة، من مبنى ميت ساكن هامد، إلى خلية نحل لا تنقطع فيها الحركة وهي تعج بالضوضاء والموسيقى والصخب، بعدما نجح المهرجان منذ تأسيسه - وهذا هو التحدي الكبير أو 'الإشكالية' التي تواجهه مهرجاناتنا السينمائية ـ في أن يبنى في مونبلييه ويشكل جمهورا، بحيث لا تقتصر عروضه على حفنة من الصحافيين والموظفين والأجانب كما في الكثير من مهرجاناتنا، وتسأل فيها: حسنا.. لكن أين جمهور المدينة؟ بل تتوسع وتمتد لكي تتواصل مع سكان مدينة بأكملها ( 200000 نسمة في مونبلييه) من الكبار والصغار على حد سواء.والدليل على ذلك ان المهرجان يستقطب اليه جمهورا كبيرا (أكثر من 75 ألف متفرج كل سنة) كما ذكرنا، كما يجذب اليه العديد من مدراء المهرجانات السينمائية المتوسطية والعالمية، الذين يتوافدون على المهرجان مع اكثر من 300 ضيف في كل دورة، لاكتشاف إبداعات المتوسط السينمائية الجديدة، واختيار ما يصلح منها للعرض والمشاركة في مهرجاناتهم ومسابقاتها



الموجة الرومانية الجديدة



وقد كان مهرجان مونبلييه السينمائي كما هو معروف 'سباقا' إلى اكتشاف العديد من المواهب السينمائية المتوسطية مثل 'موهبة' المخرج الروماني كريستيان مونجيو الذي فاز هذا العام بسعفة مهرجان 'كان' الذهبية، وكتبنا عنه وعن فيلمه في 'القبس'، فقد عرض له مونبلييه أول أفلامه الروائية القصيرة، كما عرض له فيما بعد عام 2001 أول أفلامه الروائية الطويلة، ثم شارك مونجيو بعدها بفيلمه الروائي الثاني في مسابقة 'كان' الرسمية، وكانت بمثابة 'قفزة' كبيرة، وخطف سعف 'كان' التي حققت له شهرته في العالم، ونبهت الى اعمال الموجة السينمائية الرومانية الجديدة التي خرجت من رحم دكتاتورية شاوشيسكو، لكي تحكي عن 'حاضر' رومانيا الآن، وتتوهج بأعمالها السينمائية الجديدة ذات المنحى الواقعي.والحقيقة ان مهرجان مونبلييه كان سباقا، وقبل المهرجانات السينمائية العملاقة في المنطقة مثل 'كان' و'فينيسيا' إلى اكتشاف مواهب العديد من المخرجين المتوسطيين من بلادنا مثل عاطف حتاتة من مصر، ومحمد ملص وعبد اللطيف عبد الحميد من سوريا، وفؤاد ذولوكار من لبنان، ورشيد مشهراوي من فلسطين، ورشيد بن حاج وبلقاسم حجاج من الجزائر، ومعظمهم، وغيرهم، حصلوا على جوائز بأفلامهم في المهرجان. كما ان فعاليات المهرجان توسعت حديثا، فلم تعد قاصرة على مسابقتين للافلام الروائية الطويلة والقصيرة فقط، انضمت اليهما مسابقة للافلام التسجيلية الطويلة منذ عام 2001، يشارك فيها هذا العام فيلمان عربيان هما 'اللي فات مات' للمخرجين الجزائرية نادية فركاس والتركي اريكان محمد، وفيلم 'موال فلسطيني' ضمن مجموعة افلام المسابقة التي تشتمل على11 فيلما



اللي فات مات



اعتبر فيلم 'اللي فات مات' للجزائرية نادية فركاس (انتاج فرنسي جزائري مشترك. 72 دقيقة) المشارك في مسابقة الفيلم الوثائقي، من أهم واقوى أفلام 'سينما الواقع' التي عرضها المهرجان حتى الآن، اذ يرحل الفيلم في 'ذاكرة' الجزائر وحاضرها ليحكي عن التاريخ وتناقضات الواقع ومأساة شعب دمرته حربان، حرب التحرير والحرب الأهلية، من خلال شهادات حية لسكان مجمعات ادارية كان الجيش الفرنسي اثناء فترة الاحتلال قبل استقلال الجزائر عام يستخدمها كأقسام ادراية متخصصة، كان الغرض منها في الاصل 'تهدئة السكان الاصليين'!، فلما رحل جيش الاحتلال الفرنسي، قامت الحكومة بعد الاستقلال مباشرة باستخدامها كوحدات سكنية مؤقتة للفلاحين، الى حين بناء مجمعات سكنية حديثة لهم، وعليهم أن ينتظروا.وأصبحت وحدات 'الساس' ، التي كان الجيش الفرنسي يستخدمها لأعماله الادارية في النهار، وتتحول في الليل الى أماكن لتعذيب المناضلين الجزائريين، وكسر شوكة المقاومة الجزائرية

أصبحت ملاذا لعائلات 'الحركي' من الجزائريين، الذين خدموا مع جيش الاحتلال، والمكروهين بشدة من السكان، لخيانتهم لبلدهم ، وسكنا أيضا للجزائريين الهاربين من جحيم الحرب الاهلية، وصار الجميع يتخبطون ويجوسون في وحل المكان ووحشته وبؤسه مع اولادهم واحفادهم ، ويعتمدون على 'حنفية بلاش' وصنبور متهالك وحيد يشتغل بالعافية. ومن خلال شهاداتهم المؤثرة في الفيلم، نكتشف كيف تبخرت 'أحلام الخلاص' بعد استقلال الجزائر لقطاع كبير من الشعب الجزائري ، وصارت مجرد ذكرى وأطيافا لوعود لم تتحقق واأسفاه حتى الآن، على الرغم من مرور اكثر من 45 عاما على استقلال الجزائر، ذلك الاستقلال الذي يقول عنه عجوز جزائري في المعسكر بجرأة وشجاعة: 'نحن لم نر هذا الاستقلال حتى الآن'. ويضيف ان الفوضى التي تعم البلاد سببها السلطة الفاسدة وغياب العدالة، وهي ليست مشكلة سكان 'الساس' وحدهم ، بل جل مجتمعاتنا المتوسطية التي تعيش في ظل الحكومات الاستبدادية، ومازالت شعوبها تنتظر أيضا. في حين يرى البعض فيما يخص مشكلة 'الحركي' ان زمن كراهية 'الحركي' وعقابهم على فعلهم المشين قد مضى، بعد ان صعد الاميركيون إلى القمر وساروا على سطحه وتغيرت الدنيا، و'اللي فات مات' كما يقول شاب في الفيلم، أي لا جدوى من اجترار الماضي. دعونا من الماضي وتعالوا نتعامل بمعطيات الواقع ومتغيراته الجديدة. وأرشح هذا الفيلم الواقعي الانساني البسيط للحصول على جائزة في مسابقة الفيلم التسجيلي الطويل، حيث يقدم استكشافا لواقع الجزائر الآن، ويترك للناس حبل الكلام من دون تدخل او تعليق، ويدعو إلى التفكير والتأمل، عكس الافلام التسجيلية الرسمية والريبورتاجات التلفزيونية القاصرة، لتجميل الواقع وتلميعه وتقديمه في ورق سوليفان، التي تقصفنا بها تلفزيوناتنا العربية الرسمية في كل وقت



أمام جدار العار



وينضم إلى 'سينما الواقع' في المهرجان داخل مسابقة الافلام التسجيلية الطويلة فيلم 'موال فلسطيني' لندا سينكروت، الذي يحكي عن الفلاحين الفلسطينيين الذين صادرت الحكومة الإسرائيلية أراضيهم ومزارعهم، وشردتهم بعد تشييد 'جدار العار' الأمني، ويتساءل: كيف يمكن للإنسان الفلسطيني أن يعيش وهو يقتل ويهان في كل لحظة، ويعيش غريبا ولاجئا داخل وطنه وأرضه وتحت سماء بلاده؟ وكانت فكرة الفيلم تبلورت من خلال البحث عن مواقع تصوير لفيلم عن مشكلة الماء، ويكشف الفيلم بالاضافة إلى تصويره لغربة الفلسطينيين في وطنهم ومقاومتهم، عن محاولة للتأمل المحايد في 'المنظر الطبيعي' في فلسطين، وكيف يتأثر أيضا بفعل أعمال العنف التي تمارس على أهله.ويعرض المهرجان أيضا في قسم 'السينما التجريبية' العديد من الأفلام العربية الجديدة التي تحكي عن هموم وتناقضات مجتمعاتنا العربية المتوسطية وأحزانها، والمصنوعة باليد وبميزانيات صغيرة جدا ومحدودة، وبالكاميرا الديجيتال الصغيرة المحمولة على الكتف التي يمكن ان توضع في الجيب بسهولة، لكي تنضم تلك الافلام الصغيرة إلى سلسلة أفلام 'سينما الواقع' في المهرجان، على اعتبار ان قيمة الافلام لاتقاس بطولها، بل بفحواها وجدواها وعمقها، وقدرتها على دفعنا إلى التفكير في حياتنا وواقعنا وتأمله، وإثارة التساؤلات في مواجهته

مثل فيلم 'حساء في بيت لحم' الفلسطيني التجريبي القصير (9 دقائق و30 ثانية) للاريسا سنصور، الذي يحكي في مشهد تلتف فيه عائلة فلسطينية حول مائدة الطعام عن كيف تتحول احاديثها تدريجيا من الكلام عن حساء الملوخية الشهي إلى نقاش سياسي حاد وملتزم وملتهب، يضعهم في التو في قلب ظروف الواقع الحياتية المرة المؤلمة التي يعيشونها تحت الاحتلال الاسرائيلي في بيت لحم.لبنان بعد الإعصار في حين يعرض فيلم 'بعد الاعصار' التجريبي القصير (5 دقائق) لليلى كنعان من لبنان في القسم ذاته، الدمار والخراب الذي تعرض له لبنان خلال الغزو الاسرائيلي في الفترة من يوليو إلى اغسطس 2006، فيصور الانقاض في اليوم التالي على هبوب ذلك الاعصار، الذي اكتسح امامه كل شيء، وظل الانسان اللبناني صامدا فيه بشموخه

بينما يصور فيلم 'اله عابر' التجريبي لدافيد ترتياكوف من فرنسا (22 دقيقة) حشود المصريين التي خرجت في موكب مهيب في ليلة صيف عام 2006 لتوديع تمثال رمسيس، ومصاحبته في رحلته من امام مبنى محطة مصر في قلب ميدان رمسيس في القاهرة، وهي تسير وراءه كما في جنازة، بعدما قررت الحكومة نقل التمثال الى موقعه في 'متحف الآثار المصرية الجديد' عند أهرامات الجيزة، وقد استغرقت عملية النقل ليلة بأكملها، وكانت حدثا مشهودا اكتسى بثوب الحزن كما لو كان المصريون يشهدون نهاية العالم، على اعتبار ان تمثال رمسيس هو رمز لحضارة قدماء المصريين، انجازاتها واضافاتها الى العالم، وهو رمز ايضا لديانة التوحيد التي يعود الى قدماء المصريين من خلال فرعون مصر اخناتون الفضل في اكتشافها أو اختراعها، وقد آن الأوان مع متغيرات ومعطيات الواقع الجديد، ان تعرض الآن يقينا داخل متاحف جديدة.ويتساءل المخرج في فيلمه: من يستطيع ان يخمن ما سيؤول اليه مصير كل ديانات التوحيد القديمة في العالم ذات يوم؟ ترى هل تصبح المتاحف الأماكن المناسبة لعرض مخلفات وآثار تلك الديانات التوحيدية القديمة مستقبلا؟

هذه التساؤلات وغيرها التي تطرحها 'سينما الواقع' هي التي تمنح لأفلام المنطقة المتوسطية التي تعرض الآن في مهرجان مونبلييه 29 قيمتها، بل هي التي تشكل 'هوية' المتوسط نفسه، حين يطرح يقينا على 'الواقع' من خلال السينما الفن، تساؤلات الوجود الكبرى، عن معاني ودلالات الحياة، وكيف يمكن أن تصبح جديرة حقا بأن تعاش، بل كانت 'السينما المتوسطية' سباقة قبل هوليوود إلى طرح هذه التساؤلات المصيرية الفلسفية كما يقول لي بيير بيتيو رئيس المهرجان، واقتبست منها هوليوود العديد من 'الأنواع' السينمائية التي ابتكرتها، وبخاصة من خلال السينما الايطالية، واستبدلت افلام 'ماشيست' الجبار من اختراع المتوسط، بأفلام السوبرمان وطرزان، لكن هذه حكاية اخرى يقينا سنتوقف عنها، ونحن نتابع اعمال المهرجان الآن ونركض وراء أفلامه








عن جريدة " القبس " الكويتية بتاريخ الخميس 1 نوفمبر 2007

ليست هناك تعليقات: