الاثنين، مارس 26، 2007

مختارات ايزيس : طار العصفور بقلم هاني درويش



مختارات ايزيس

طار العصفور.. وبقي للشجرة


الكثير من غربانها السود


من الأكاديمي الموظف إلى محترف الفلاشات
بقلم


هاني درويش


الشحوب التدريجي الذي ميز آخر معزوفات المجلس الأعلى للثقافة المصري ممثلاً في مؤتمر الشعر العربي الأخير كان الرقصة الأخيرة في المسار الطبيعي لأداء أمينه العام جابر عصفور. فضيحة مؤتمرية تحدث عنها القاصي والداني، أداء مجوف يناسب بجعة عرجاء أبت أن تنهي مسيرة ترنحها إلا بالمشهد المفارق، فلم يكن إرتجال وفضائحية أداء الديكتاتور أحمد عبد المعطي حجازي مستغرباً في ظل إرتخاء القبضة المتحكمة بأداء المجلس وهي تشيّع إلى مثواها الأخير، المؤتمر الفضيحة سربت في أروقته معالم إنتقال سلس لقيادة المؤسسة العريقة من "عصفور" إلى علي أبو شادي، فيحل الناقد السينمائي والرقيب السابق محل الأكاديمي المدهش وسائس العزبة الثقافية الذي أدخل المثقفين عنوة إلى حظيرة الدولة. إنتقال السلطة من جابر عصفور إلى علي أبو شادي في أمانة المجلس الأعلى للثقافة، هو إنتقال في المعنى والوظيفة، مشهد جديد تشيّع فيه الثقافة المصرية الرسمية مرحلة لتدشين أخرى، بينهما تقبع السلطة الثقافية ممثلة في وزير الثقافة كقائد أوركسترا ماهر يخرج من كورس جوقته من يصلح لتحويل الثقافة إلى مناسبة لإلتقاط الصور التذكارية. الثقافة الرسمية المصرية ها هي ترحّل مسؤوليتها إلى يد الموظف الكبير القانع تحت يد ضربات القدر الوظيفي كأحد أهم عرائس الماريونيت التي أنتجها مصصم الدمى الثقافية جابر عصفور. ففراغ المؤسسة بعد ناقدها الكبير ظل سؤالاً صعب الإجابة في ظل ندرة الشخصيات القادرة على إستكمال مشروع جابر عصفور التاريخي، كذلك أعتبره البعض سؤالا إجباريا بعد أن تعرض الوزير أخيراً لأزمة الحجاب، وهي الأزمة التي أعادت إلى السطح إنتهاء صلاحية مشروع جابر ذاته المراهن على دولة تحتاج ضميراً ثقافياً لمواجهة أزماتها. فكما هو معلوم شكل مشروع جابر عصفور منذ بداية التسعينيات محاولة لتجييش المثقفين حول النظام الساسي في مواجهته الفكرية مع قوى الإسلام السياسي، وهو الدور الذي لعبه مجلس عصفور تارة بإسم مشروع "التنوير" وتارة بإسم "المواجهة"، ليخرج مثقفي مصر كمشاة إحتياطيين في معركته الفكرية، يصاب فيها كثير ممن آمنوا بمدنية الدولة أمثال "نصر حامد أبو زيد" المقتول معنويا، وفرج فودة المذبوح واقعياً، وكثيرون اصابتهم شظايا المعركة فأعادوا دفن رؤوسهم في أروقة المجلس المكيفة تحت مسميات لجانه وبدلات إجتماعاته وتنافسات على التمثيل في السفر في مؤتمراته. جابر عصفور وحده بقي، ومن بعيد، منظّراً وحيداً لعصر مصالح المثقف مع الدولة مانحا باليمين ومانعاً باليسار، شخصية لا خلافية واقعياً. يحترمه الكثيرون لشبكة علاقاته الواسعة عربياً ودولياً ونظافة يده المالية وصدقيته الذاتية في طرح أيديولوجيا الدفاع عن مصر التي في خاطر كل مثقف وطناً لليبرالية والحرية. يحترمه طلابه ـ وهم شباب الحركة الثقافية المصرية الآن ـ كناقد كبير ويفصلونه عن صورة الإداري البارع مخافة أن يظلموه ناقداً وإدارياً. ورث ببراعة وإستحقاق الدور الوظيفي للمثقف وفقاً لآلية الإحتواء السياسي الستيني الشهيرة التي راهنت، منذ هندسة يوسف السباعي وثروت عكاشة، حدود إستقلال المثقف عن الدولة في معادلة المنح والمنع، وهو المهندس غير اللامع سياسياً الذي لم يستثمر إنضواءه تحت راية وزير الثقافة في ترجمة طموحه خارج حدود دوره كموظف كبير. لا ترضى عنه الجهات النافذة سياسيا لما يمثله من تعالي المثقف، ولا تعرفه الجماهير خارج قلعته الكائنة في ساحة الأوبرا وجل حلمه أن يرث بعضاً من علاقة وزيره بسيدة مصر الأولى فتوليه مشروعاً دولياً للترجمة يصلح ككارفان لأيام الشيخوخة. لم يتجاوز العصفور حدود شجرته الوافرة، والتي هي تحته قد تعرضت للجدب، فبقيت الثقافة الرسمية خارج قلعته الوظيفية حكراً في مناصبها العليا على الجنرالات من أمثال ناصر الأنصاري وأحمد نوار، وغلب أداء الثيوقراط الثقافي على طموح الأكاديمي في توسيع هامش المتنورين داخل مؤسسات الدولة، حتى حين طرح وريثه الشرعي وتلميذه عماد أبو غازي لولاية منصبه في المجلس الأعلى للثقافة، إرتأى الوزير في التلميذ مجرد رجل ثان في عباءة شيخ جليل. فعماد أبو غازي أصغر مقاما وأقل بريقاً مما يجب لشغل هذا المنصب، خاصة وأنه إرتضي منذ سنوات العيش في جلباب جابر عصفور ودوره، هذا فيما كان الجلباب ذاته يضيق على صاحبه. لم يتبقَ للعصفور من خيارات إلا علي أبو شادي المتمرغ في تراب ميري الوزارة منذ سنوات طويلة، والمتنقل رغم الأزمات العنيفة ـ كان مسؤولاً عن هيئة قصور الثقافة في عصر الروايات الثلاث ورواية حيدر حيدر الشهيرة ـ من منصب إلى آخر دون أن يترك أثراً واضحاً على أي منها.علي أبو شادي ينتمي إلى ذلك الفصيل من المثقفين مزدوجي الهوية، رقيباً على السينما يراعي "المجتمع" في ما يقصه من المشاهد، مدافعاً عن بعض الأعمال بلا مبرر ومنزوياً في الظلام لرقابة أعمال أخرى. يعشق فلاشات الكاميرا وتحوطه نجمات الربيع المنقضي للسينما المصرية. لم يعرف عنه، فيما عدا كتابين قديمين عن السينما والسياسة والرقابة، أي إبداع أكاديمي حديث أو مواقف صدامية مع سلطة السياسة أوسلطات المجتمع، ولاء براجماتي لوزير الثقافة وكثير من الشغف التلفزيوني. إنه ببساطة الصورة التجارية من كوادر مثقفي مشروع جابر الكبير، فلا الشجرة أثمرت جيلاً ثانياً يصلح للوراثة الصعبة، ولا المعادلة العصفورية ـ نسبة لجابر عصفور ـ بقت على حالها. فآخر ما يفكر فيه النظام ـ في حمى معاركه الواقعة الآن ـ أن يستعين بمثقفين في معركة على شارع يفيض بالحس الإسلامي. المثقفون ما زالوا حبيسي "فاترينة عرض" الشو الدولي والإقليمي. بعضهم يصلح للإستعراض المحلي، بعضهم مناسب للوجاهة الإقليمية، والبعض مبيض للسمعة الدولية، لكنهم خارج حدود تلك الفاترينة لا دور لهم في مجتمع يرى الكلمة عيباً جارحاً، أو عرضاً لمرض غريب، أو معنى للإنحلال وتراجع القيم، إنها الثقافة كما إنتهي إليها مشروع جابر والوزير... شجرة جرداء تنعق فوق فروعها غربان سود كثيرة

عن جريدة " المستقبل " اللبنانية- نوافذ- بتاريخ 4 مارس 2007
.

ليست هناك تعليقات: