الخميس، مارس 15، 2007

همس النخيل بين همس التسجيلية والضجيج الروائي بقلم محمود الغيطاني

المخرجة شيرين غيث











همس النخيل..بين همس التسجيلية و الضجيج الروائي



بقلم : محمود الغيطاني

ربما كان التساؤل الرئيس الذي شغلني طوال مدة مشاهدتي للفيلم التسجيلي "همس النخيل" للمخرجة "شيرين غيث" هو، هل ما يتم عرضه أمامي الآن على شاشة العرض هو فيلما تسجيليا بالفعل- يحاول التوثيق أو التسجيل لشئ ما- أم أنه مجرد هجين بين الفيلم التسجيلي و الفيلم الروائي القصير؟ و لذلك طرحت على ذاتي تساؤلا أكثر أهمية و تحديدا و هو، هل زالت الفوارق بين الفيلم التسجيلي كجنس فني و بين الفيلم الروائي- طويلا كان أم قصيرا- بحيث أصبحنا نرى سمات الفيلمين مجتمعين في فيلم واحد؟ و كيف لنا استطاعة تحديد ذلك في الأساس؟
يقول الاتحاد الدولي للسينما التسجيلية في تعريفه الشامل للفيلم التسجيلي الذي أصدره عام1948 (أن الفيلم التسجيلي هو كافة أساليب التسجيل على فيلم لأي مظهر للحقيقة يتم عرضه إما بوسائل التصوير المباشر أو بإعادة بنائه بصدق و عند الضرورة، و ذلك لحفز المشاهد إلى عمل شئ أو لتوسيع مدارك المعرفة و الفهم الإنسانية أو لوضع حلول واقعية لمختلف المشاكل في عالم الاقتصاد أو الثقافة أو العلاقات الإنسانية).
إذن فالفيلم التسجيلي من خلال هذا التعريف هو فيلما تثقيفيا في المقام الأول، يحاول التوثيق لشئ ما، أو لحدث ما دون اللجوء إلى الأستوديو و بناء الديكورات أو حتى الاستعانة بالممثل السينمائي؛ و ذلك من أجل فهم ظاهرة أو مهنة أو تخليد/توثيق حركة سياسية، أو غير ذلك الكثير من موضوعات السينما التسجيلية.
إلا أننا نلاحظ كون التعريف الذي جاء في كتاب "معجم الفن السينمائي"
[1] للفيلم التسجيلي قد كان أكثر دقة و تحديدا حينما قال ( نوع من الأفلام غير الروائية لا يعتمد على القصة و الخيال، بل يتخذ مادته من واقع الحياة سواء كان ذلك بنقل الأحداث مباشرة كما جرت في الواقع، أم عن طريق إعادة تكوين و تعديل هذا الواقع بشكل قريب من الحقيقة الواقعية) و بذلك نفهم أكثر أن الفيلم التسجيلي هو توثيق لشئ قد يسترعي انتباه قطاع كبير من الناس إما بهدف التثقيف أو التأريخ، كما لا يمكن الاعتماد على الخيال أو القص في مثل هذه الأفلام، أو حتى الحكاية بالمعنى الدرامي.
و لعلنا لا ننسى أن أول من استخدم اصطلاح السينما التسجيلية كانوا الفرنسيين الذين أطلقوه على الأفلام السياحية، و من ثم يتضح لنا أكثر و نتأكد أن الفيلم التسجيلي يبتعد كثيرا عن الحكاية لاهتمامه أكثر بالتوثيق و التثقيف، و لأنه سواء كان إخباريا هدفه الإعلام عن شئ، أو توجيهيا هدفه الإقناع بعمل شئ، فهو يتشابه في الغاية مع المحاضرة العلمية أو المقال أو النشرة أو الكتاب العلمي.
و لذلك حاولت الانتباه جيدا و التركيز أكثر مع ما أراه يعرض أمامي من فيلم "همس النخيل" الذي جعلني أحاول استعادة ما أعرفه عن السينما التسجيلية؛ نتيجة إحساسي منذ بداية الفيلم بأني أمام فيلم روائي قصير.
نرى في مشاهد ما قبل التيترات avant titre سيدة تحاول إيقاظ أولادها باكرا للذهاب إلى العمل بينما تقول لنفسها ( دا إحنا لو ريحنا يوم ما نلاقيش نأكل العيال) في إيحاء قوي للمشاهد بأن تلك المرأة تعاني اقتصاديا معاناة طاحنة تجعلها تعمل هي و أولادها ليل نهار؛ و لذلك يتأكد لنا هذا الإيحاء بعد نزول تيترات الفيلم و بداية تعرفنا على تلك السيدة التي تدعى "نعمات عربي النجار" المتزوجة من ثلاثين عاما و التي تعمل قفاصة- صناعة الأقفاص- منذ زواجها، كما نعرف أن لها من الأولاد و البنات ستة أفراد، جميعهم تقريبا باستثناء اثنين- إيمان، محمد- يعملون في مهنة التقفيص، التي هي مهنة شديدة الصعوبة و يكابد أصحابها الكثير من العناء؛ فنراهم يعملون جميعا من السادسة صباحا حتى الثامنة مساء جلوسا أمام جريد النخيل لمحاولة تقطيعه و تهذيبه و تقفيصه، و بالرغم من كل هذا العناء يأخذون مقابل القفص الواحد57 قرشا، و بالتالي فهم في أمسّ الحاجة إلى الكثير من الإنتاج، و من ثم الكثير من الوقت في العمل للمزيد من المال- الشحيح- بالإضافة إلى كونها- نعمات- في حاجة ماسة إلى سبعة جنيهات و نصف يوميا على الأقل لولدها و ابنتها المعاقين- مصابان بالصمم- اللذين يتعلمان في مدرسة بعيدة عن القرية التي يقطنان بها، لأنها ترى ضرورة تعليمهما بما أنهما مريضان كي يستطيعا الحياة فيما بعد بكرامة و شرف بعيدا عن مهنة القفاصة الصعبة التي تقول عنها بألم حقيقي ( عذابي الحقيقي إني كنت بشوف زرع بطني بيدبل من حواليا) في إسقاط على أولادها الذين يعملون جميعا في تلك المهنة الشاقة منذ استيقاظهم حتى نومهم ليعود اليوم الجديد بنفس المواصفات و ذات الأفعال و كأن اليوم لم يتغير، و هكذا إلى ما لا نهاية، حتى لكأن الأمر أشبه بإحدى الملاحم الإغريقية التي كتب فيها على الإنسان استعادة المتاهة أو العذاب إلى الأبد.
و لعل أهم ما في الفيلم أنه يوضح لنا- بالإضافة إلى ما يعانيه أصحاب هذه المهنة الشاقة من عناء شديد- النظرة الاجتماعية إلى هذه المهنة و من يعمل بها، سواء كانت هذه النظرة من الخارج- أي ممن لا يعملون بها- أو من الداخل- أصحاب المهنة أنفسهم- فنرى الجميع ينظرون إلى تلك المهنة برفض شديد؛ فعلى مستوى العاملين فيها يرفضونها لأنهم يعملون فيها ليل نهار منذ استيقاظهم حتى نومهم يوميا، و بالرغم من هذا العذاب اليومي فدخلها غير مجدي على الإطلاق؛ و لذلك فالجميع لا يرغبون في عمل أولادهم بها، بل نرى أن أبناء المهنة حينما يتقدمون للزواج من أية فتاة حتى و لو كان أهلها يعملون بذات المهنة يتم مقابلة طلبهم إما بالرفض لأنهم يعملون بالتقفيص، أو يشترط أهل العروس عدم عمل ابنتهم في المهنة مع زوجها، أما على المستوى الاجتماعي العام فالجميع ينظرون إليها باعتبارها مهنة وضيعة لا قيمة لها؛ و بالتالي استطاع الفيلم بنجاح إعطاءنا الكثير من المعلومات/التوثيق لمثل هذه المهنة التي تكاد تكون قد انقرضت، و التي نجهل عنها الكثير سواء من ناحية طبيعتها أو دخلها، أو ظروف العاملين بها، أو حتى النظرة الاجتماعية للمهنة؛ و من ثم نستطيع القول أن الفيلم بمثل هذا الشكل قد قدم فيلما تسجيليا نموذجيا تبعا للتعريفات التي سبق طرحها، فمن أين نبعت الروائية إذن؟
علّنا نلمح السمة الروائية داخل فيلم "همس النخيل" من خلال الاهتمام بالقصة الفرعية للابن المعاق- الأصم- الذي كاد أن يصبح هو المحور الرئيس الذي يدور حوله الفيلم، حتى لكأن قصة إعاقته و اهتمام و من ثم حسرة أمه عليه و ألمها الشديد تجاهه قد استغرقت المخرجة "شيرين غيث" فصارت هي الأساس بينما تحول الأساسي- مهنة التقفيص- إلى هامشي، و بذلك صار الفيلم من مجرد فيلم يهتم بمشاكل هذه المهنة و ما يدور فيها إلى فيلم يهتم بمعاناة أم مع ولدها المعاق، حتى أننا نتأثر كثيرا بما تعانيه الأم من أجل ولدها- الأصم- حينما نستمع إلى تهدج صوتها و هي تتحدث عن أهل الحارة الذين يشيرون إليها حينما يرونها في الشارع ليقولون هذه أم المعاق، و أن ولدها لا يسمع و لا يتكلم، و نكاد نتوحد مع الأم حينما تقترب الكاميرا من وجهها لتصور ببراعة مشاعرها الصادقة التي رأيناها شديدة التعبير حينما تنظر إلى أولادها- متابعة إياهم في عملهم بمهنة التقفيص- بإحساس أمومي لا شك فيه لتقول أنها تعرف كون أولادها لا يطيقون العمل بمثل هذه المهنة، كذلك نراها حينما تتأمل ولدها المعاق العائد من مدرسته ليساعد إخوته في التقفيص لتتساءل لماذا يحب- محمد- مهنة التقفيص على الرغم من محاولاتها المستمرة لإبعاده عن هذه المهنة و محاولة تعليمه في المدرسة؟ هل يشعر أنه يشارك أخوته؟ أم لأنه يراها مهنة جيدة؟ أم، أم؟ و من ثم نرى عينيّ الأم القلقتين المركزتين على الابن- محور اهتمامها- محاولة سبر أغواره و قد ارتسمت على وجهها ابتسامة حائرة في مصير هذا الصغير و كيف ستؤول أحواله.
نقول أن الاهتمام الزائد من قبل المخرجة "شيرين غيث" بالقصة الفرعية- قلق و اهتمام الأم بابنها المعاق- جعل بعض المشاهدين يعلقون قائلين أن الفيلم يكاد يكون متمثلا في حكاية الطفل المعاق، و أنه كان لا بد للمخرجة الاهتمام أكثر به نظرا لأهميته داخل السياق الفيلمي.
بالطبع مثل هذا الحديث يسلب الفيلم تماما من شرعيته، و يخرجه من إطار السينما التسجيلية، أو على الأقل يخرجه من إطار موضوعه الأساس و هو مهنة التقفيص إلى موضوع آخر تماما يقرب إلى السينما الروائية القصيرة؛ و لعل السبب في ذلك قدرة "شيرين غيث" كمخرجة على تقديم مأساة الأم مع ابنها في شكل تعبيري و رهافة و إحساس عاليين جعلنا نتأثر كثيرا بمعاناة الأم لدرجة أن تطفر دموعنا معها حينما تتأسى على ولدها حينا، و حينما تخاطب الله حينا آخر عندما تقول ( أبص لربنا و أقول له ليه يارب تعمل فيا كدا؟)، إلا أن مثل هذه الشاعرية العالية التي قدمت بها "شيرين غيث" فيلمها على الرغم من أهميتها و نجاحها فيها لم تكن للأسف في صالح الفيلم؛ نظرا لتحول اهتمام المشاهد من الموضوع الرئيس إلى الموضوع الفرعي.
و لكن على الرغم من هذه الأمور البسيطة لا نمتلك سوى تحية "شيرين غيث" على هذا الفيلم البديع حتى و لو خلط بين الروائي و التسجيلي، و الذي جعلني منتبها له متيقظا حتى انتهاء آخر مشهد فيه و نزول تيترات النهاية دون الشعور بمرور الوقت، نتيجة المونتاج الحيوي للمونتير "سامر ماضي" الذي أشعرنا بالفيلم و كأنه ومضة شاعرية سريعة تمرق في الزمن، كما لا أستطيع إغفال البطل الحقيقي في هذا الفيلم، و الذي لولاه لفقد الفيلم الكثير من جوانبه الأساسية و روحه الحقيقية، و هو الموسيقى التصويرية البديعة للموسيقي "عمرو أبو ذكري" التي جعلتنا نتوحد إلى حد كبير مع الفيلم و نعيشه بصدق، حينما حرص دائما على وجود صوت (التأتيب)- الدق الدائم على الأقفاص لتخريمها- في الخلفية السمعية، فنسمعها تخفت أثناء حديث "نعمات" بينما تعلو لتملأ المشهد السمعي لتصل أحيانا إلى حد الضجيج المقصود في لحظات جولان الكاميرا و صمت السيدة، حتى أننا خرجنا من الفيلم و صوت الدق مازال يملأ سمعنا لم ينته بعد، و لعل هذا كان من أهم مميزات الفيلم لاسيما أن الموسيقى التصويرية تلعب دورا حيويا و هاما في السينما التسجيلية؛ فكان اختيار "شيرين غيث" للفنان "عمرو أبو ذكري" فيه الكثير من الذكاء و التوفيق.



محمود الغيطاني





ا
نظر كتاب "معجم الفن السينمائي" تأليف أحمد كامل مرسي ، د/مجدي وهبة / الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ليست هناك تعليقات: