الخميس، مارس 08، 2007

.بنارس اندرجراوند بقلم جان ميشيل فرودون.ترجمة صلاح هاشم



لقطتان من فيلم "الممنوعة من اللمس "اخراج بونوا جاكو، تظهر فيها بطلته الممثلة الفرنسية ايزيلد لو بيسكو


بنارس اندرجراوند



بقلم : جان ميشيل فرودون

ترجمة: صلاح هاشم مصطفي



تبدأ المسألة بصفعة تتلقاها جان، التي تلعب دورها الممثلة الفرنسية ايزيلد لو بيسكو. صفعة قاسية أجل بيد الأم، لكنها تطلق بطلتنا جان، وتضعها علي الطريق. كلا .. إنها..ترحل، إنها.. تعود، .. هاهي تجلس،.. هاهي تصغي،.. وها هي تطلب.. الأم تحكي لجان ابنتها، فتخبرها بحقيقة الأب، فوالد جين مواطن هندي من بنا رس، وينتمي إلي طبقة مغلقة من المنبوذين هي طبقة " الممنوعون من اللمس "، وكانت الأم التقت به في رحلة لها إلي الهند. رحلة قامت بها منذ عشرين عاما مضت. وتبدو المسألة عندئذ واضحة تماما, فالفيلم الذي نشاهده سوف يصحب جان في رحلتها، كما يحدث في فيلم " الامبتهجة " بطولة جوديث جودريش، وفيلم " الفتاة الوحيدة " بطولة فيرجيني لودويان، وفيلم " في الحال " بطولة ايزيلد لو بيسكو، أي كما يحدث في أحد تلك الأفلام المذكورة، والتي أخرجها بونوا جاكو من قبل، وتعتمد جميعها علي بناء ورسم " الحركة " المصاحبة لرحلة فتاة شابة.. كلا.. من جديد.. إن ما يهم في هذا الفيلم لبونوا جاكو، ليس خط الرحلة والسير. المهم هو أل " هاهنا " في كل لحظة، وفي كل موقف. إذ أن فيلم " الممنوعة من اللمس " يقطع آلاف الكيلومترات، ويركب العديد من وسائل النقل، لكن لا يمكن اعتباره فيلما من " أفلام الطريق ". فما يهم هنا هو " الأماكن " التي تتواجد فيها جان، وتحل فيها مكانا بعد مكان، وليس " الطريق " ، أو السكة التي تربط بينها.. فنحن نري جان في بوناتاموسون, ونراها وهي سكرانة ثملة ، و نراها في مسرحية لبريخت، وفي فراش عشيقها، وفي بلاتوه تصوير أحد الأفلام، كما نراها في الطائرة التي تقلها الي الهند، كما نراها أيضا علي ضفة نهر الغانج، وفي بيوتات أثرياء تلك الطبقة.. ما يهم إذن في مشاهد الفيلم ، مشهدا بعد آخر، هو " الكتابة " في " المكان " - ليس بمعني " الفضاء " بالضرورة - فالمقصود بالمكان هنا " حالة " ما ومرحلة. مرحلة مصورة فيلميا علي حدة في كل مرة، ومصورة أيضا لذاتها، كما لو أن الفيلم يمكن أن يتوقف، وينتهي عندها.. ولذلك نشعر يقينا بحالة مدهشة من التشبع والامتلاء ، أثناء مشاهدة هذا الفيلم المختصر ، والذي يبدو لنا علي الرغم من ذلك ، مكتملا وممتلئا بشكل رائع.... فيلم " الممنوعة من اللمس " يحكي عن " بحث " ما. لكنه لا يحكي عن " البحث عن الأب " بل يحكي عن البحث عن الذات.. ولا يؤمن الفيلم كثيرا ببراءة الصورة الاستعارية الكيلومترية. تلك الصورة التي آمنت بها أم جان ، حين غادرت وقتذاك ل " تسير علي الطريق "، وتصنع أفلام زمنها ، وتمشي علي " أفلام الطريق ".. وإذا كان لبحث جان في الفيلم من مرجعية ما ، فلابد ان تكون عند المخرج الفرنسي الكبير روبير بريسون من دون أدني شك( كما هو الحال دائما مع أفلام جاك بونوا ) فأسم البطلة في الفيلم جان يحيلنا بالتأكيد الي شخصية جان دارك، والشخصية النسائية في فيلم " النشال " لبريسون ، الا ان ايزيلد لو بيسكو في " الممنوعة من اللمس " تثير في الغالب الجانب النسائي في شخصية " ميشيل "، حتي لو كانت " سكتها الغريبة " تمر عبر منعطفات مغايرة لسكته.. إن الخيط الدرامي في هذا الفيلم ليس هو أهم شيء في الفيلم ، فالفيلم الذي يراهن علي " الزمن الحاضر " و" الحضور " يخاطر بوجوده كله هنا في كل مشهد، وهنا تكمن شجاعته،
اذ انه يفجر فينا شحنات من الأحاسيس والمشاعر العميقة الطليقة، التي تصبح بمثابة محاسن مزدهرة، تسحرنا وتخلب لبنا في التو، وتطغي علي الفيلم كله بشكل غريب، ومن ضمنها ذلك " التعارض " العنيف، بين ماهو يدوي وحرفي ونابع أساسا من المسرح ، وبين تلك السوقية المهنية للسينما المرتبطة فقط بنسق من العلامات التي تشير إلي عوالم المال والجنس .. ويظهر هنا عامل التضحية الصوفي الجميل، وموتيف الخلاص، ملتزمان بالجسد وبخاصة في مشهد الجماع ،حيث تستسلم هنا الممثلة جين تماما، ويترهل الجسد، وهي تدفع أجرة عبورها الي الهند.. لكن يظهر نفس الجسد العاري فيما بعد بشكل آخر، تظهر نفس البطن ونفس الثديين، يظهر الجسد وأعضائه بقوة وأناقة، حين يترك ليد تلك السيدة الهندية المدلكة يا للغرابة، وقد راحت تتحسس أعضائه وتدلكه باحترام.. وهكذا ايضا مع محاسن الفيلم الاخري عبر تلك الشرائح السردية التي لا تسعي الي احداث أي تحصيل لتأثيراتها في المحصلة النهائية للسرد، بل تعيش وتتوهج فقط بقوة الحضور الذاتي .. كما في ذلك المشهد الذي يظهر فيه الزوجان المثليين الشاذان علي حافة حوض السباحة والمشاهد التي تصور تلك اللقاءات العابرة مع الشبان الهنود، والتي تبعث علي القلق في اضواء طرقات بنارس الخافتة .. وفي مشهد اللقاء مع الراهبة المتألق بالنور، والمشهد الفكاهي عند الوسيط، ومشهد المحادثة مع المسافر في الطائرة، وتلك القسوة الغامضة التي تشي بمصير رائع، ورقة البحث عن تروفو في شارع دلهي، وذلك الفصل الذي يذكرنا بفصل تروفو في فيلمه الاثير اربعمائة ضربة، والذي كان يبحث فيه عن ابيه الحقيقي وانه لشييء غريب، بعد ان شاهدنا الفيلم، ان نفكر فيه، فاذا بنا نجد ان كل مشهد في الفيلم علي حدة يحتاج الي ذكره، لا لشيي الا للمشهد في نفسه او لذاته ،..لألوانه.. ولجماله وكثافته وعمقه، وكذلك للأصداء التي تتردد وتصدرعنه ، والتي لا تتشابه ابدا غير أن فيلم " الممنوعة من اللمس " ليس مجرد شذرات متناثرة من المشاهد، وقد تم تجميعها كيفما كان.. ان ما يجمع هذه المشاهد كما ذكرنا ليس هو " الحركة المستمرة " او خيط او خط سير فضائي ( له علاقة بالمكان ) او سيكولوجي ما . بل ان مايجمعها " روابط " معينة أكثر سرية وغموضا.. إذ أن موضوع الفيلم، يحيلنا بشكل سطحي الي فيلم " ممر الي الهند "، والواقع ان " الثقب الأسود " في قلب رواية أي. ا فورستر و فيلم لين ، يوجد في فيلم بونوا جاكو.. غير ان هذا الثقب قد تم إخفاؤه في الفيلم كله، في فيلم آخر تحت الارض اندرجراوند تعبره شبكة من " الوصلات " والروابط لاعلاقة لها البتة.. لا بالواقع.. ولا بالمنطق.. لكن لها علاقة فقط ب " شعور " ما، تجاه هذا العالم.. والتطلع إليه مثل لغز،.. مثل " كلية " لاندرك كنهها ، كلية أكثر تعقيدا ولذلك تتواصل وتتعانق كل الطرق والمسالك في هذا الفيلم من أول الطريق الممتد علي رصيف المحطة علي حافة نهر الموزيل و عبر خط السكة الحديد المتفرع من بون اموسون ورحلات المترو وتلك الحشود البشرية الكوزموبوليتانية المتدافعة، للدخول الي او الخروج من مركبات المترو وممرات المترو تحت الارض وحركة السير في المطار، ثم محطة القطار في دلهي وحتي الخروج في وضح النهار الي الشارع في بنارس، كما لوأننا كنا نخرج من محطة المترو لكي نغطس ونتوغل في أعماق المدينة، ونغوص في قاع النهر هنا في الخارج علي السطح لا تتقدم السيارة، أما المترو فانه يحملنا الي المكان الذي من الضروري ان نذهب اليه.. وقد يبدو كل شيء بسيطا وهينا ، غير ان كل شيء في الواقع يبدو مظلما ظلام تلك الأحاسيس التي نستشعرها.. و يقال هنا أيضا: " ربما كان الجلد يفكر " وقد قيل ذلك في الفيلم..
قيل أن تحت جلد هذا الفيلم، تجري كما الشرايين طرق مواصلات هذا العالم، وتتواصل سرا مع الأجزاء الظاهرة.. لكن هناك شبكة أخري ثانية، متصلة بذلك الطريق الذي يؤسس الفيلم له.. شبكة شريط الصوت في الفيلم، التي تجعلنا من خلال الأصوات والضوضاء نتحسس كل ما نراه، وكل ما رأيناه ، بل وكل ما سوف نراه مستقبلا من تلك أماكن، فنقترب او نبتعد عنها ..نقبلها او نرفضها ، اذ يكشف عنها شريط الصوت، بل ويعلق أيضا عليها.. " ربما كان الجلد هو الذي يفكر " .. هذه العبارة التي تتردد في الفيلم لا نتذكر الآن من نطقها بذلك الصوت الرزين العميق، لكنا سنعلم فيما بعد ، ان صاحبها هو ذلك المخرج الذي يمكن ان نري فيه ، وعلي الاقل بشكل جزئي ومن دون تعسف، قرينا لمخرجنا بونوا جاكو.. " الجلد الذي يفكر" ..من أجل فن ينقش ويطرز علي " جلد ناعم رهيف صغير " هو جلد الشريط الخام للفيلم. انه التحدي الجميل الوفي وبشكل كبير لوسائل الفيلم التعبيرية الخاصة... في المقدمة التي تحمل عناوين الفيلم ، سوف نلاحظ غياب اسم كاتب السيناريو، كما لو أن الفيلم كان قد ولد من خلال تلك العلاقة الخاصة الوحيدة فقط مع الكائنات والأشياء، ومن دون أن تدفع الحاجة وبالضرورة إلي تأسيس كيان حكائي له.. إن كل تلك الطرق والمسالك والأنفاق والممرات تحت الأرض في الفيلم، وبكل ارتباطاتها الحسية ، لم يكن من الممكن أن تكون وحدها في الفيلم كافية من دون هذه القوة الغامضة التي تجعل تلك المعاني والدلالات والتأثيرات، تجري كما الدم في العروق تحت جلد السينما. هذه القوة التي نطلق عليها أسم التجسد. ان الحضور الجسماني للمثلة ايزيلد لو بيسكو في الفيلم، يصبح الوسيط الاساسي( بالمعني السحري ) لهذا الكيان الفيلمي.. لقد تعودنا علي العذاب حتي لم يعد بالإمكان إيذاءنا ،أو مسنا بضرر. صرنا ممنوعين من اللمس. لم نعد نتأثر بأية عذابات. هكذا كانت تردد القدسية جان دو لاباتوار، وتردد ايزيلد لو بيسكو كلماتها أيضا في الفيلم.. غير ان جان غرف انتظار الموت من بنارس، ليست قديسة.. ولا هي بطلة هل هي يا تري ممنوعة من اللمس ؟ لقد مشت فوق العذاب نفسه، واقتربت من عذابات الآخرين، فصار جلدها المضروب ذاك يحمل آثار التعب والخمور، ومن بعدها صار ممرغا في وحل العروض. ثم إذا به يشمخ مزهوا بأفعال الكرم النائية. صار جلدها، ..يفكر من دون كلام.. يمكنها الآن أن تعود من جديد وهي تضع إصبعا علي الشفتين وتهمس " سوف أحكي لك من بعد. " .. تري من تكون هذه " الأنا " ؟..
L INTOUCHABLE فيلم " الممنوعة من اللمس " إنتاج فرنسي 2006 إخراج وسيناريو : بونوا جاكو بطولة : ايزيلد لو بيسكو. برانجير بون فوازان. مارك باربيه. مانويل مونز. باريكشيت لوترا. تصوير : كاورلين شامباتييه صوت ك نيكولاس كانتان واوليفييه جوانار مونتاج : لوك بارنييه وماريون مونييه موسيقي: فيجاي جيسوال ومانو راو إنتاج : سانجشو توزيع : بيراميد مدة العرض " ساعة و22 دقيقة تاريخ أول عرض: 6 ديسمبر 2006


عن مجلة كراسات السينما الفرنسية



انظر " النسخة العربية " في موقع المجلة علي العنوان التالي



www.cahiersducinema.com



ليست هناك تعليقات: