الأربعاء، مارس 07، 2007

سعد سلمان. عن " دردمات " و اشكالية الجلاد والضحية

ملصق فيلم " دردمات " لسعد سلمان : مثل قصيدة عن الأرض الخراب


السينمائي الـعـــراقــي المـنــفــي ســــعــد ســــلـمــان

عــن اشـــكـــالـيـــة الـجــــلاد والـضـــحــــيــة

خمسة وتسعون في الـمـــئــة مـن أفــعــــالــنـــــا الــيــــومــــيـــة تـظـــاهـــرات عـــنــفـــيـة


باريس - من هوفيك حبشيان:


ما نراه نحن دماراً ورعباً في مشهد يختزل الابوكاليبسات كلها، يراه سعد سلمان كسيناريو عراقي يُكتَب عشرات المرات يومياً. عندما يتكلم هذا السينمائي عن ألمه، ينبغي أن تمنحه آذاناً صاغية، ليس لأنه ديكتاتور لا يتقبل أن تقاطعه، بل لأن من غير المجدي أن تزايد على معاناة سمعت عنها وشاهدتها لكن لم تعشها، على غرار ما اختبره هو، بدءاً بالسجن ثم الاقصاء ثم النفي الى بلدان غربية، وإن كان هذا المنفى هو باريس. هذا المشاكس المتخصص بالتصريحات النارية والعبارات اللئيمة والكلمة ــ اللكمة، لا يتوانى عن استخلاص العبر وتوظيفها حتى في احلك الظروف. قدريّ بامتياز: "اذا كان في الامكان اعادة ما كان، فلن أسلك الا الطريق التي سلكتها وقادتني الى حيث أنا اليوم. حتى مع السجن. كل ما هو موجود مني الآن، حصيلة ما عشته في حياتي". عرفناه ذاهباً الى الاقصى في التصدي للنظام المستبد. حيناً عبر اطلالاته التلفزيونية في نشرة اخبار الساعة الثامنة عاقداً مقارنة تاريخية بين أداء القناة الفرنسية الثانية والتلفزيون العراقي الرسمي الناطق باسم صدام حسين (!)، وحيناً آخر مسكوناً بغضب شديد ازاء راهب عراقي يتمسك بمعسكر "النظام"، متوجهاً اليه بالقول: "يا ابانا، لا أعلم لحساب مَن تعمل، لكن بالتأكيد ليس لحساب الله". هذا هو سعد سلمان: كائن غير قابل للإصلاح.لم يفوّت هذا المخرج مناسبة، سينمائية وغير سينمائية، لفضح ارتكابات السلطة الحاكمة، فيما كان محض الحديث عنها خطا أحمر. عام 2002، لم يتردد في العودة الى كردستان العراق، لتصوير معاناة الاكراد. في هذا الشريط الذي سمّاه "بغداد أون - أوف"، أكتشفنا كادراً يهتز ويرتجف، لعله لم يعتد التسلل في اماكن كهذه. كان سقوط النظام نقطة تحول في تاريخ سينما المنفى العراقية. كثيرون عادوا، وكثيرون صوّروا وذاقوا طعم التقاط المشاهد في المتاهات العراقية من دون رقيب او حسيب. هول ما حدث أثناء غيابه القسري، كان مصدر وحي لينجز سلمان "دردمات"، فيلمه الروائي الطويل الاول، بعد عدد لا بأس من الافلام الوثائقية. انصهر سلمان في المجتمع الفرنسي انصهاراً كاملاً، لكنه ظل من المنتقدين للسياسة الفرنسية الخارجية، لا سيما تلك المتبعة ازاء العراق. وهو اليوم، هذا الرجل الباريسي الذي يحمل القلق الوجودي الذي تتسم به الشخصية العراقية في كل زمان ومكان. يبقى ان ثمة سوء تفاهم كبيراً حول سعد سلمان. وسببه أنه يطيب له ان يشتغل خارج الانظمة العربية الفاسدة، لا على هامشها. أصلاً، الا يحق له أن يحترس من انظمة ترعب البشر والحجر، ثم تخشى على نفسها من فيلم مثل فيلمه "دردمات"؟ كثر يعتبرون أن الزمن غير ملائم لهذا الشريط اللامنتمي و"الشرير" والطالع من الامعاء (في رسالة أخيرة له، كان يسألني: "هل تعرف مكاناً غير موجود؟"). لماذا؟ لأن من لم يستطع تحمل رقابة السلطة، هل يستطيع ان يتحمل رقابة ضميره؟ يعلن سلمان ما يخطر في باله بلا مسايرة أو رد اعتبار أو مراعاة لمشاعر مواطنيه. غداة اعدام صدام، كان هذا اللقاء الفكري الوجداني مع سلمان، لمناسبة عدم صدور "دردمات"، فيلمه المستبعد عمداً أو لاوعياً من الصالات العربية والمهرجانات، وايضاً لقطف شهادة حول رحيل احد اعز اعدائه الذي كانت تماثيله تسد آفاق العراق... والسينما. ¶ الى أي مدى كانت هذه الافاق المسدودة التي تتحدث عنها، تمنعك من العمل؟ـــ كسينمائيّ منفيّ، لم يكن من الممكن الا ان اصنع "سينما المنفى"، وهذه السينما ليس لها جمهور، لأن جمهورها الحقيقي، اي العراقي، غائب عنها. حتى الموضوعات التي يمكن طرحها تتعامل مع العراق من بُعد. "سينما المنفى" هي سينما التقشف، السينما المحمولة على الظهر، السينما التي تعتمد على فكرة "قل كلمتك وامش". اشكالية المنفى بالنسبة اليَّ تضاعفت أكثر من ثلاثين مرة مع سقوط النظام. لم تنته الاشكالية لكن صار منفاي قوميّاً. فجأة، صار في إمكاني أن أكون في بغداد وأصوّر ما أشاء، وهذا في اي حال، ما كنت اتمناه طوال عمري. بالفعل، خلال السنوات الثلاث الاخيرة التي أمضيتها في بغداد بعد سقوط النظام، كنت اشعر، رغم الالم والانفجارات اليومية وانعدام الامن والمشكلات المعيشية المستمرة، بنشوة لكوني اركب السيارة وأعبر الجسور وأصوّر ما اريد واجوب الشوارع واتحرك بحرية واكتشف بغداد الجديدة التي حُرمت منها لمدة ثلاثين عاماً. هذه المدينة التي كانت تجعلني احلم، عندما عدت اليها وجدتُها مدينة اخرى. الاحساس بأني لست مراقباً وبأن في مقدوري التحدث عن الموضوعات كافة بلا رقابة وخوف، مسألة مهمة جداً بالنسبة الى الشخص الذي ذاق طعم الحرية. ثم شعرت اننا، نحن العراقيين، لنا قدر وافر من الحظ، وذلك في مجالات الخلق كافة. أقول بصدق: من خلال هذه المأساة، هناك كمّ من الموضوعات والانقلابات الجذرية التي تدخلت في حياتنا، بحيث اصبحنا نعيش مصائرنا في نوع من ملحمة، فتتوحد الاقدار الشخصية مع القدر الجماعي، ويتدخل القدر الالهي والقدر الما فوق طبيعي، فتنتج من هذا الامتزاج ملحمة اسطورية لبناء العراق الجديد، وسيشهد التاريخ ان تضحيات الشعب العراقي ستكون مدفوعة الثمن. ¶ هذا النوع من الالم الذي عانيته يبقى محمولاً مع الذات، وخصوصاً اذا كانت هناك مؤشرات جسدية تدل عليه.ـــ آثار التعذيب على جسدي سأحملها اينما رحت، لكن الالم يفقد معناه أو يتوسع معناه من خلال مشاهدتي للعراق. هذه العذابات التي تحملها معك تنعكس على امتداد الوطن. لا اعرف اذا كان هذا عزائي. يصعب لمن مثلي ان يتخلص من فكرة الجلاد. وجوده كضحية يتطلب وجود الجلاد، بينما الاخير لا مشكلة عنده، اذ يغيّر الضحايا مثلما يغيّر قميصه او حذاءه أو ربطة عنقه. الضحية في حاجة دوماً الى الجلاد، وهذه اشكالية فلسفية أكثر منها سياسية. ¶ في "دردمات" نراك تتجول في شوارع بغداد، بعد عودتك اليها، كأنك سائح في بلادك. ـــ الشعور بالغربة في داخل المجتمع العراقي يعيشه كل عراقي بغض النظر عن موقع الغربة. كل عراقي هو غريب، ويسبح في جزيرة نائية بعيدة عن الآخرين، لكنه ضمن الآخرين. هذا المنفى العراقي الداخلي هو نتيجة ممارسات ثلاثين عاماً من تفكيك البنية التحتية العراقية والبنية الاخلاقية للمجتمع العراقي. فالارث الذي خلّفه صدام للعراق، من بشاعة ودمار، ستظل أفعاله تتردد الى قرن كامل. اليوم، الانسان في العراق تائه وسط فوضى التكوين، وهذه الفوضى لذيذة لمن لا يحترق فيها، أما من يحترق فيها فيراها ايضاً فوضى ضرورية من اجل البناء. ¶ علاقتك بفرنسا علاقة ندية.ـــ لا يمكن ان نسمّيها علاقة بفرنسا. لي علاقة بالمجتمع الفرنسي ولي امتدادات داخله. على مدار ثلاثين عاماً، بُنيت مكوّنات شخصيتي في هذه البلاد. هذه بيئة أتفاعل معها، وانتقدها احياناً على نحو حاد جداً، وأشتمها احياناً اخرى. وقد تجدني ايضاً مدافعاً عن القيم الديموقراطية الحقيقية الخاصة بها. في حين أن علاقتي مع فرنسا الدولة رسمية، وعندي تحفظات في شأنها. لن اكون مع السياسة الفرنسية ولا مع اي سياسة: أنا مستقل في تفكيري وعندي امكاناتي المادية التي تسمح لي بأن اكون كذلك. لي موقف من فرنسا الرسمية التي استفادت من حكم صدام لثلاثة عقود ولم تفد الشعب العراقي في شيء. عندما تجولت في شوارع بغداد بعد سقوط النظام وتحدثت مع السفير الفرنسي في بغداد، قلت له: "هناك ثلاثون عاماً من الحضور المميز ولم أجد شخصاً واحداً في الشارع يتكلم الفرنسية. ماذا كنتم تفعلون في العراق بهذه العلاقة الاستثنائية مع صدام؟". اذاً، كنت مدافعاً عن الفرنكوفونية أكثر من السفير الذي كان هناك يحرص فقط على مصلحة شركة "توتال"، لا على مصلحة فرنسا أو العراق. ¶ أنت تعتبر ان هناك مرحلتين في تاريخ العراق، ما قبل سقوط صدام وما بعد. هذا الحدّ ليس فقط تاريخيا انما اخلاقي، أليس كذلك؟ـــ سقوط صدام يعني سقوط النظام العربي بأكمله. انهارت القومية العربية وانكشفت عوراتها أمام مجتمعاتها والعالم. ورأينا، على طول انكسارها وهزيمتها، ان ما من مجتمع يدافع عنها. هذا الفكر ألغى الناس وحاول أن ينوب عنهم تفكيراً، ودرّسهم عواطف، وأطعمهم أمنيات سابحة في الهواء. حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي دمّرا المدن العربية وحوّلاها ثكناً للجيش، وبات الناس في عهدهما قطيعاً من الرعاع. للاسف، هناك الى الآن من يتشدّق بالفكر القومي! منطقة الشرق الاوسط تعاني تخلفاً رهيباً. هي تحمل أغنى موارد العالم، لكنها أكثر الشعوب فقراً. مهمة بناء العراق الجديد منوطة بكل عراقي، كلّ من موقعه. حبذا لو استطعنا أن نحافظ على هذا التوازن، بحيث ان السياسي لا يعطي دروساً في السينما، والعكس. الى الآن لا نزال في قبضة سياسيين محنكين يدّعون انهم فوق الاعتبارات والانفعالات، لكنهم عندما يخطبون يتبين انهم جزء من هذه الانفعالات. ¶ يتمحور "دردمات" حول مسألة بالغة الاهمية: العلاقة بين الضحية والجلاد، وتشابه كل منهما بالآخر.ـــ الى الآن لم يحسم التاريخ البشري قضية الضحية والجلاد. من فاوست الى علاقة الله بالشيطان، لا تزال هذه القضية مادة للمناقشة. في "دردمات" رغبت في أن اضع الضحية والجلاد وجهاً لوجه. هيأتُ لهذا اللقاء كل العوامل اللازمة، لكن اللقاء المنتظر لم يتم. لأن هناك اشكالية الخوف من النظر في العين الاخرى. اذا كان الجلاد يستطيع التخلص من جلد الضحية ، فالضحية لا تستطيع أن تتخلص من الجلاد. لأن وجود الضحية مرتبط بوجود الجلاد. لا ضحية بلا جلاد. لذلك ترى ان لا صعوبة عند الجلاد في الانسجام مع المجتمع. ¶ سبق أن قلت لي: "سقط الديكتاتور الكبير وبقي الديكتاتور الصغير المتمثل في 40 مليون عراقي". ماذا عنيت بذلك؟ ـــ شخصية الجلاد بكل بساطة هي شخصية العراقي الآن. اذاً، الاشكالية ليست سياسية فحسب انما اجتماعية - اخلاقية. اشير الى "الجلاد العادي" الذي هو البديل من "المواطن العادي" في المجتمعات الاخرى. أولاً، هذا الجلاد معرّض يومياً لقمع يمارسه عليه كل من الدولة والمجتمع. هو نفسه جزء من هذا المجتمع الذي يقمع. لذا، نرى ان هناك شبكة عنكبوتية من القمع، بحيث ان سقوط ديكتاتور من على سدة الحكم لا يعني سقوط نظامه. يبدو ان الديكتاتور يستمد قوته من هذه الحلقات الحلزونية من الديكتاتوريين الصغار. لا يمكن أن أتصور ان صدام قتل بيده عشرات الآلاف من العراقيين. أين هي الأيادي التي نفذت هذه القرارات؟ منذ 30 عاماً هناك شعب يُقتل، وأمة تُسحق، ووطن يُمزق. من فعل هذا؟ هؤلاء القتلة موجودون بيننا. فإما ان نأخذ على عاتقنا مسألة الذنب والوعي الجماعيين ونتحمل الاوزار لنحلل كيف وصل صدام الى السلطة وكيف استبدّ وما هي العوامل التي ساعدته، ونبحث تالياً عن الجلاد في داخلنا، وإما أن تبقى قضية العراق بلا حلّ. في المجتمع العراقي، 95 في المئة من أفعالنا اليومية تظاهرات جلادية. يظهر ذلك عبر علاقة الام بطفلها والاخ الاكبر بأخته والاب بابنه والزوج بزوجته. جاءنا هذا من الفكر النموذجي الذي تكرّس لعقود، حتى قبل وصول صدام الذي، في الواقع، لم يخلق نفسه بل كان إنتاج حالة. اذا لم نحاسب الضمير العراقي على اشكالية نشوء الديكتاتورية، فسنبقى نجرجر اشكاليات الديكتاتورية الى ابد التاريخ.¶ ما الشعور الذي بعثه فيك اعدام صدام؟- لا استطيع القول أكثر من أن أمة تجد في شخص صدام بطلاً هي امة تستحق الشفقة ورعاية الآخرين لأنها امة مريضة في المعنى السريري للكلمة. على العراقيين كافة ان يسجلوا أحاديث سنوات الرعب، ويدونوها ويتناقلوها.ندائي إلى كل أم فقدت ابنها، وإلى كل زوجة فقدت زوجها، وإلى كل أب فقد أبناءه، وإلى كل طفل فقد طفولته، وإلى كل جائع يعيش على ارض وادي الرافدين، وإلى كل نخلة قُطعت، وإلى كل شبر حُرق، وإلى كل نهر جفّ، وصولاً إلى قمم جبال كردستان المحروقة بالكيمياء، وإلى أهوار الجنوب: لنملأ صفحة صدام بقائمة جرائمه


عن جريدة " النهار " بتاريخ 5 مارس 2007

ليست هناك تعليقات: