الأربعاء، فبراير 19، 2020

الموسيقى العربية بين الديني والدنيوي تأثر وتأثير بقلم هالة نهرا في باب ( مختارات سينما إيزيس )




مختارات سينما إيزيس

الموسيقى العربية

بين الدينيّ والدنيويّ: تأثّرٌ وتأثير!

من التجويد والأذان وصولاً إلى الترانيم الكنسية.. كيف أثّرت الموسيقى الشرقية في موسيقتنا الدينية؟
بقلم

هالة نهرا
ناقدة موسيقية وكاتبة وشاعرة لبنانية


من المعلوم وجود تداخل وتفاعل بين الدينيّ والدنيويّ في الموسيقى العربية، وهذا يعني بطبيعة الحال تبادل التأثير والتأثّر. فالدينيّ يشمل القراءة الاحتفائية المنغَّمة للنصّ المُقدّس، أي التلاوة، والتراتيل، والأناشيد الدينية، والأشكال الطقوسية المنقادة للتنغيم (الذكر الصوفي مثلاً)، والتجويد القرآني، وابتهالات المدائح، والإنشاد، والموشّحات، والقصائد، إلخ. في الكثير من الأحيان تنهلُ الموسيقى الدينية بصورةٍ مُثيرة للانتباه من مَعِين الدنيويّ موسيقياً.
المشترك عندنا يكمن غالباً في الطبيعة المشرقية العربية للألحان والمقامات الهائلة الجميلة. في موسيقانا المشرقية العربية هناك أثرٌ قويّ للثقافة الموسيقية الفارسية (يتبدّى في تسمية مقام "راست" على سبيل المثال لا الحصر، وهي كلمة فارسية معناها "مستقيم"، ومقام الراست هو أوّل المقامات بالتراتبية المقامية في النظام الموسيقي العربي)، والموسيقى المصرية القُبطية، والتجويد، والموسيقى البيزنطية، والموسيقى السريانية.
يمكن أن نعثر على مقام "البيّاتي" مثلاً في "أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم" و"باعتمادك يا رب في نهر الأردن" (موسيقى كنسية بيزنطية)، فيما يمكن الاستماع إلى مقامَيْ "الجهاركاه" و"الحجاز" من خلال تلاوات الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (1927-1988)، وغيره من قراء القرآن الكريم.
حتى يومنا هذا، لا تزال الكثير من الجوامع تصدح منها أصوات الآذان وفق مقامات متنوّعة كمقامي "الصبا" و"راست". في هذا الإطار هناك تنويعٌ في الاستعانة بمقامات متعدِّدة بحسب الزمان والمكان لكنّه أقل من ذي قبل مقارنةً بالماضي، حيث كان لكل توقيتٍ من الصلاة مقامٌ كما ينقل مشافهةً بعض علماء الموسيقى في العالم العربي، وللمقامات عمقها في معانيها وإحالاتها التعبيرية الدلالية وما تحضّ المتلقّي عليه (من فرح أو حزن، شجن، إلخ.).
هناك أيضاً تراتيل باللغة العربية نبضها مغايرٌ، تخضع للنظام التونالي الغربي Système tonal، وهذا مرتبط بحرية التلحين في فضاءٍ معيّن
في المقابل، هناك تراتيل تُبرز دمجاً موسيقياً (قد يكون مرتجلاً في الأداء والعزف) بين الغربيّ والشرقيّ أو المشرقيّ العربي، علماً بأنها تتحلّى غالباً بقوّة الجذب في مسامع الأجيال الجديدة على وجه الخصوص، لا سيما الإبداعية منها.
بعض الترانيم المسيحية الجديدة يمكنها أن تشبه الموسيقى العربية المعاصرة على صعيد التطعيم والتَّوْشِيَة والتلاقح النسبي الثقافي والحضاري. يتبدّى ذلك في ترنيمة "هلُّمي يا جميلتي" التي تكتسي جزئياً نفَساً شرقياً جلياً مع جنوحٍ إلى الغناء الحديث كما عند المرنّمة جومانة مدوّر.
أمّا السرياني التقليدي الأصيل، فيحتوي على الموسيقى المقامية كما في "قديشات آلوهو" حيث يتمظهر مقام "السيكاه".
يمكن لنا في هذا الإطار أن نستعين بحوارٍ أجرته الكاتبة مي منسّى مع الأب لويس الحاج - رحمه الله - الذي كان في مرحلةٍ معيّنة عميد كلّية الموسيقى في "جامعة الروح القدس – الكسليك"، ورئيس الاتّحاد العالمي للموسيقى المُقدَّسة، وقال الحاج حينها: "إنّ قسماً كبيراً من الألحان السريانية يعود إلى ما قبل المسيح، ويوازي بقِدَمه آثار صور وهي أعتق من بعلبك. صور في زمن اليونان كانت قيمتها الثقافية والفنّية منارة، والموسيقى والغناء والآلات الموسيقية كانت من ذلك الزمن. مار أفرام أخذ عمّا كان سائداً قبله (...)، وكل باحث في التراث لا بدّ له من أن يعزّز اللحن والأسلوب ومنطق اللحن. إذا تغيّر المنطق تغيّرت اللغة"
وفي حوارٍ آخر مع الراحل وليد غلمية الذي ترأّس "المعهد الوطني العالي للموسيقى" في لبنان، قال صاحب سمفونية "القادسية": "هناك الحضارة التي جاءت بعد بابل وآشور بالإضافة إلى الحضارات السريانية والآشورية. فكلّها حضارات لـم تمت، إذ أنها كانت موجودة في المشرق العربي ولها أهمّيتها وتأثيرها وتجذّراتها. وعندما ظهر السيّد المسيح، تكلّم الآرامية. بلادنا المشرقية عرفت عبادة الإله «مرقود» التي كانت تحدّث مع مهرجاناتٍ احتفالية تخلّلتها الموسيقى. خلاصة القول إنه كانت حضارات قديمة، جاء الإسلام فتركها وامتصّ أفضل ما فيها وصهره في شخصيّته ومفاهيمه، ومن ثم ظهرت الحضارة العربية التي تحتضن المسلم والمسيحي والعبراني".


وهنا قد يكون من المفيد أيضاً الإشارة إلى أنّ برديصان (وهو شاعر وكاتب لُقّب بـ"فيلسوف الآراميين"، عاش من العام 154 حتى 222) "قبل مار أفرام بدأ بتركيب الأشعار الدينية على الألحان الشعبية لأنه رأى الناس الموجودين في منطقة الرها، وهي موجودة في تركيا حالياً، يحبّون الموسيقى والغناء والأشعار"، فسعى إلى استمالتهم وجذبهم.
مار أفرام، الذي ولِدَ عام 306م، لجأ أيضاً إلى الطريقة نفسها واستعمل سلاحه، فأخذ الألحان الشعبية وركّب الأشعار والمواعِظ والنثر على ألحان كانت موجودة وقتذاك.
وقد انتقلت ألحان "الأفراميات" عبر التوارث الشفهي وما وصل إلى الناس لاحقاً هو التقليد، لكن رغم ذلك بقي هذا النوع من الالحان يرَتَّل في الكنيسة، وأثّرت على "القرّادة" والموشّح البلدي و"المْعَنَّى"، وهي الأنماط اللبنانية الموجودة في الجبل خصوصاً.
ونستطيع أن نقول إنّ تراكيبها الشعرية وألحانها فيها تأثيرات سريانية من مار أفرام. حيث النغم قريب جداً من الألحان الشعبية التراثية الفولكلورية
هكذا نرى راهناً جزئياً وبإقتطاع، وفي إضاءاتٍ تاريخية سريعة نُبرزها مثالاً ههنا، كيفية تجلّي تشابُك الدينيّ والدنيويّ في الموسيقى اللبنانية والمشرقية العربية ومدى الترابط بينهما على مستوى المادّة الجوهرية. إنّ موسيقانا التي تتدثّر بالسماويّ والأرضيّ تجمع بينهما في إطار القرابة والتوأمة والازدواج الطبيعي.

عن موقع ( الميادين نت )

ليست هناك تعليقات: