الجمعة، نوفمبر 29، 2019

القاهرة السينمائي 41 ماذا حقق ؟ بقلم صلاح هاشم




                 نزهة الناقد . تأملات في سينما وعصر يكتبها صلاح هاشم


      القاهرة السينمائي 41 ماذا حقق ؟
                         

               موعد مع  "بنت بلد" إيطالية من قلعة الكبش في الأوبرا


                                           بقلم


                                        صلاح هاشم

                                                         
المهرجانات السينمائية التي تقام خارج الحدود، والتي أتابع أعمالها منذ عقود، تقدم في الأساس خدمات ثقافية وفكرية، ،وتؤسس لجمهور و " نهج "جديد، تتحقق معهما وظيفة السينما - (حضارة السلوك الكبرى) كما أحب أن أسميها-  كأداة للتفكير والتأمل، في مشاكل وتناقضات ،مجتمعاتنا الإنسانية..
 حين ترتقي السينما بأعمالها،الى مصاف الأعمال الروائية العظيمة عند تولستوي، ونجيب محفوظ ، والبيركامو، ونيكوس كازانتزاكيس،وغيرهم.وتصبح هكذا أقرب الى فن الرواية، ومصدرا للثقافة والمتعة، وهي تطرح تساؤلات الوجود الكبرى، عن حياتنا ، وإن كانت حقا جديرة بأن تعاش،  وتقربنا أكثر-  من خلال روائع الأفلام - من إنسانيتنا..
ليس مهما- هكذا فكرت- أن تكون الأفلام جميلة، المهم هو حال البشر فيها، وهل هم حقا سعداء،.حتى أن إعجابنا بفيلم ما لأنطونيوني مثلا، من إيطاليا، أو ستانلي كوبريك من أمريكا، أو بونويل من أسبانيا ، يصبح في التو أكبر منا..                                          
وهنا تكمن صعوبة الحديث عن الأفلام التي شاهدتها في الدورة 41، وفي جميع أقسام المهرجان ،لأننا بعد مشاهدتها – ( كما في فيلم " رجل يموت مليون مرة " للأمريكية جيسكا كروك - وهو العرض الأول للفيلم من ضمن أكثر من 30 فيلما،تعرض لأول مرة في المهرجان، وعموم منطقة الشرق الأوسط، وتحسب كضربة معلم لادارة المهرجان، وتؤسس هكذا في رأينا لمنحى أو منهج جديد-  لأننا بعد مشاهدتها وأعجابنا بها، تصبح في التو قطعة منها، تصبح أكبر منا، ونرجو فقط أن تكون هذه الأفلام الممتازة – أكثر من 150 فيلما من أنحاء العالم –  وكذلك " الندوات " و " اللقاءات " الغنية  الثرية التي عقدت في الدورة 41،  قد وصلت بالفعل الى مستحقيها..

    فتوريو سترارو : السينما " كتابة" بالضوء

شاهدت في المهرجان مجموعة كبيرة من الأفلام الرائعة الموزعة على أقسامه المختلفة ، تضم فيلم " الإيرلندي"- فيلم الإفتتاح وكتبت عنه في العدد الماضي من جريدة " القاهرة " - وفيلم "  شغف مانياني " THE PASSION OF ANNA MAGNANI   وفيلم " ميلوش ضد فورمان" FORMAN VS FORMAN  وفيلم " رجل يموت مليون مرةONE MAN DIES A MILLION TIMES للامريكية جيسكا أوريك ..
وحضرت عدة ندوات من ضمنها " ندوة السينما السودانية " – ولدت عام 1912 مثل طفل عمره مائة سنة- وتشهد الآن طفرة شبابية إبداعية وثورية جديدة أكثر من أي سينما عربية أخرى..
وندوة " عرائس الضوء" لمدير التصوير الإيطالي الكبير العبقري فيتوريو ستوراروVITTORIO STORARO الذي صور أكثر من 60 فيلما من ضمنها " التانجو الأخير في باريس " لبرتولوتشي وبطولة مارلون براندو، والحاصل على 3 أوسكارات في التصوير،عن فيلم " القيامة الآن " لكوبولا، وفيلم " حمر "  REDS لوارين لوارين بيتي، وفيلم " الامبراطور الأخير " لبرناردو بيرتولوتشي، وهي قمم سينمائية ،دخلت تاريخ السينما من أوسع باب،  وكانت المحاضرة أشبه برحلة  صوفية روحانية  فلسفية مع الضوء، لاكتشاف معاني الحياة، وتحليلا عميقا لعبقرية وأسرار الفنان الايطالي ليوناردو دافنشي من رواد عصر النهضة، و صاحب لوحة " المونا ليزا " و " العشاء الأخير"، ودرسا عظيما في السينما.درس جعلني أخرج من المحاضرة، وأنا أكاد أحلق من الفرح والمتعة، بما إكتسسبت من معارف جديدة بخصوص الضوء، الذي تكتب به السينما ،وهو مدادها ومادتها- أليست السينما " كتابة بالضوء كما يقول  المخرج والكاتب السينمائي الفرنسي الكبير جان كوكتو ؟ - وما نهلت فيها كذلك من فكر سينمائي جديد، وعلى إعتبار أن السينما، هي كما درست و تعلمت  " فكر " أولا، و " أداة تفكير " كما يقول جان لوك جودار المخرج والمفكر السينمائي الفرنسي الكبير .

        فورمان ضد فورمان . السينما " صورة " تشبهنا

شاهدت  في الدورة 41 ، دورة الناقد الكبير يوسف شريف رزق الله، فيلما وثائقيا جميلا من" أفلام السيرة " أعجبني كثيرا، عن حياة وموت وأفلام المخرج التشيكي العملاق ميلوش فورمان ، صاحب " غراميات شقراء" و" شعر" و" إقلاع " و" آماديوس" و "طار فوق عش المجانين" ، الذي حصد بأفلامه ونجومها عدة أوسكارات، ويحكي فيه عن علاقته بأمه، وأسرار حياته، والظروف التي عركها، وصاحبت إنجاز الروائع السينمائية التي حققها ،وحصد بعضها عدة أوسكارات، ومع ذلك يقول ميلوش في الفيلم بتواضع جم، أنها لاترقي الى أعمال المخرجين الكبار، الذين وضعوا بصمتهم على السينما الحديثة في العالم، وتأثر بهم وبأفلامهم ،مثل السويدي إنجمار برجمان، والمخرج الايطالي العبقري فيلليني، والأستاذ والمنظر السينمائي الايطالي الكبير أنطونيوني صاحب " المغامرة " و " الصحراء الحمراء" و " الخسوف" وغيرها من الروائع السينمائية ،التي تغذي بها جيلي في مصر في فترة الستينيات، و في حضن أيامنا الحلوة الجميلة، ولم يكن القبح والخراب ، والكآبة والملل،  أصبحوا السمة الأساسية للأسف، التي تتحكم الآن في حياتنا..
كما يحكي فورمان في الفيلم ،وهو يركض ويمارس رياضته المفضلة في الشارع الأمريكي، يحكي عن حياته في أمريكا كمغترب، ومحاولته خلق جذور جديدة، من خلال تلك الأشجار التي جلبها من موطنه الأصلي، وزرعها ورعاها بنفسه، في حديقة بيته الأمريكي الكبير، كي تذكره بطبيعة بلده تشيكوسلوفاكيا ووطنه، ولاحديث لفورمان في الفيلم، عن السينما، إلا وهو مرتبط وموصول، بكل تلك التحولات السياسية، التي مرت بها تشيكوسلوفاكيا بلده، ورغبته دوما في أن تطرح أفلامه "صورة " تشبه حياة الناس العاديين، مع الاستعانة بممثلين غير محترفين، لتعكس صورة لواقع الحياة ، وطبيعة الناس، في المجتمعات الشيوعية آنذاك، بمللها وكآبتها، خارج إطار "الصورة المثالية" الساذجة المضحكة ،التي كانت تطرحها أفلام "الواقعية الأشتراكية" آنذاك، وكلها كذب في كذب..
 فلم تكن أفلام ذلك الاتجاه تصور" الحقيقة"، بل كانت تصور واقع مجتمعات " مثالية" ، في الخيال، و لم تتحقق بعد، لكنها سوف تكون، ووفقا للمباديء الشيوعية " الوردية" ، أكثر عدالة وحبا ورقصا وتسامحا. ولم يحدث ذلك بالطبع، لأن سجون تلك المجتمعات الشمولية كانت تعج بالمسجونين السياسيين، ولم يكن يسمح فيها ،إلا بهامش صغير جدا من الحرية، يستطيع فيه مخرجين من أمثال فورمان المعارض ، أن يصنعوا أفلامهم، ويطوفون بها العالم، كما فعل مع فيلمه الأول "غراميات شقراء"..
 وقد أعجبني الفيلم كثيرا،لأنه يصور من خلال السيرة الذاتية، لفنان متمرد ومنشق، وقصة حياته بعد أن ترك وطنه وعائلته في تشيكوسلوفاكيا، وتجنس بالجنسية الامريكية، يصورصعوبة بل وإستحالة أن يغير الفنان جلده، ويلجأ الى وطن " بديل"، وربما كان الفيلم، في مايتعلق بما أطلق عليه آنذاك في فترة الستينيات بـ " الموجة التشيكية الجديدة " نجح أيضا في التعريف بتلك الحركة ، إضافاتها  ومكوناتها وإنجازاتها الى السينما العالمية ،من خلال حياة وموت رائدها الكبير المخرج الكبير ميلوش فورمان، وسفيرها بأفلامه الى العالم..

        موعد مع " بنت بلد " إيطالية من قلعة الكبش في الأوبرا

وكنت في الأوبراعلى موعد مع فنانة إيطالية وممثلة  قديرة وعظيمة، أحببتها في التو، وعشقتها وعشقت كل أفلامها، عندما شاهدتها لها فيلم " روما مدينة مفتوحة " للمخرج الايطالي الكبيرروسوليني، وأعتبره من أهم الأفلام التي تركت طابعها على حياتي وتفكيري، في السينما والحياة، ومنهجي في الكتابة عن السينما والأفلام، وقناعاتي بخصوص الدور الكبير الذي تلعبه السينما ووقوفها ضد الظلم وقمع الحريات.كنت على موعد مع حبيبتي الإيطالية التي أعشقها وأتمثلها، كما لوكانت "بنت بلد" من "قلعة الكبش" حينا الشعبي العريق في السيدة زينب، وما أدراك ببنت البلد المصرية الأصيلة.كنت على موعد مع حبيبتي بنت البلد الإيطالية من قلعة الكبش آنّا مانياني، في فيلم من " أفلام السيرة " يحكي عن حياتها، وفنها وأفلامها، وأدوارها العظيمة التي تتسامق فيها بفنها في أفلام السينما الإيطالية المتوسطية المتوهجة لفيسكونتي وروسوليني وبازوليني ، وقد نجح الفيلم في التأكيد على أن آنا مانياني ليست ممثلة مثل كل الممثلات اللواتي يتهافت الرجال عليهن-  مثل جينا لولو بريجيدا أو صوفيا لورين كمثال - بسبب جمالهن ، بل هي " أيقونة " السينما الإيطالية بإستخقاق وعن جدارة بسبب حضورها وشخصيتها الاسرة – ويقول مارشيلو ماستروياني في الفيلم انه لم يرى في حياته أجمل من عيون آنا مانياني ونظراتها  الحادة العميقة الثاقبة التي يصعق لها أجدع راجل-  وطبيعتها الفطرية المتوحشة كـ " ذئبة "..
فقد كانت مانياني تجمع بين الأنثوية والذكورية  ورجل وإمرأة في جسد واحد في آن، ويرينا الفيلم كيف كانت مانياني تكتب في السيناريو ملاحظات على الشخصية التي تتقمصها في أفلامها ،وتجعلنا نصعق في ما بعد، حين نشاهد الفيلم، لذلك " الحضور" القوي الأخاذ، ثم كيف إضطرت مانياني في مابعد، بعد أن صارت تمثل ذات الشخصية، في كل فيلم، الى أن تعتزل السينما، بعد أن مثلت دور الأم المومس في فيلم " ماما روما " .الأم التي تعرض جسدها للبيع على قارعة الطريق لكي تربي إبنها وتتكفل بمصاريفه..
 ولما ظهرت في لقطة في فيلم " روما " لفيلليني، وطلبت منه أن يتوقف عن تعقبها آخر الليل ،وهي تريد أن تنام، وكانت آخر لقطة تمثلها مانياني في حياتها بعد أن اعتزلت السينما، ينتهي الفيلم بمشهد يصور مئات الألوف من الايطاليين الذين خرجوا لتوديعها جثمانها الى مقره الأخير وهم يبكون ويلطمون، فقد ماتت السيدة التي كانت رمزا للمرأة الإيطالية " بنت البلد"، وأما لكل الايطاليين..
 وينجح الفيلم، من خلال عرضه لمسيرتها السينمائية الكبيرة ، في التأكيد  على أن الممثلة القديرة لاتحتاج الى أن تكون جميلة، فلم تكن  مانياني جميلة وشقراء مثل مارلين مونرو، بل سمراء وخشنة الملامح، لكنها جذبت اليها الانظار وأصر فيسكونتي على أن تلعب بطولة أول أفلامه، رغما عن أنف منتج الفيلم، الذي اختار له ممثلة جميلة ومعروفة..
 كما نجح الفيلم في التأكيدعلى أن مانياني، كانت نموذجا للمرأة الايطالية الحديثة المتحررة من سيطرة وتحكم الرجال، وأنها تؤرخ لمرحلة جديدة ، في حياة المرأة الايطالية المعاصرة، أو حياة النساء عموما، فقد كانت المرأة ليس فقط في إيطاليا بل في العالم ، قبل مانياني شييء، وبعد مانياني شيء آخر، على سكة " الحداثة "..

   دروس في حصار ستالينجراد

ومن أقوى الأفلام الروائية التي أعجبتني كثيرا في الدورة 41 فيلم " رجل يموت مليون مرة " للمخرجة الامريكية جيسكا ، ويحكي عن (حصار ستالينجراد) بواسطة جيش هتلر النازي الالماني أثناء الحرب العالمية الثانية،الذي استمر لأكثر من 3 سنوات ، ويصور الفيلم حال البشر، في برد الشتاء ، وتحت القصف اليومي الجهنمي الذي يجعلهم يموتون من الخوف والذعر والرعب مليون مرة في اليوم، وكل إنسان تحت الحصار يفكر ،في أن مئات القنابل التي تقذف بها المدينة وأهلها تحت الحصار، سوف تقضي على حياته ، وفي كل ثانية، فتجعله ينتظر داخل المخابيء موته الوشيك. ويحكي الفيلم أنه خلال الحصار، تنبه البعض من علماء البيولوجي الى أهمية جمع البذور والحبوب، وعدم تناولها أثناء المجاعة، والاحتفاظ بها في مخزن للحبوب، حتى تزرع وتنبت من جديد، وتصبح طعاما لكل فم في جيل المستقبل. وهي قصة واقعية حدثت بالفعل في معهد فالينوف البيولوجي الذي تأسس عام  1921 في ليننجراد ( ستالينجراد الحالية)وكان إستهلاك هذه الحبوب المحتفظ بها، مع الدمار الذي وقع للتربة بفعل القنابل، يعني نهاية للناس والعالم والمستقبل والإنسانية، ويسأل الفيلم : كيق سيتصرف هؤلاء الناس في ستالينجراد في ظل المجاعة في ظل الحصار، هل سيقاومون المجاعة، ويمتنع العلماء عن إلتهام الحبوب، أم أنهم سيرضخون لمطالب البطون الجائعة التي تصرخ من الجوع والألم ويأكلون الحبوب، ولتذهب أجيال المستقبل الى الجحيم ، وتلك الإنسانية التي تتطلب تضحيات..
 ويصور الفيلم من  خلال علاقة حب تنشأ بين " أليسا " و " ماكسيم " الباحثان في ذلك المعهد البيولوجي، يصور رحلة الأهوال التي يقطعانها سويا، في ظل الجثث الملقاة في الشوارع أثناء المجاعة ،وحين تصنع أليسا حساءا من حزام جلد مسلوق في ماء مغلي وتسقيه لماكسيم المريض وهو يلفظ في الفراش أنفاسه الأخيرة.
فيلم " رجل يموت مليون مرة" هو اشبه مايكون بقصيدة سينمائية بالابيض والأسود، عن المقاومة والشجاعة ومعنى أن تكون إنسانا نبيلا وشجاعا وقت الأخطار والأزمات والحصار والمجاعة، وتقبل بكل التضحيات. وهو ليس فيلما عن خطر الحروب وخطر المجاعات، بل هو فيلم عن كل " الاختبارات " التي تمر بها الإنسانية عموما، من أجل الحفاظ على تلك القيم و الفضائل الكبرى، التي يفاخر بها الإنسان. فالمجاعة التي يحكي عنها الفيلم، هي " الاختبار " الذي نمر به جميعا، وفي كل لحظة في حياتنا، وحيث يتحدد من خلال ذلك الاختبار أو " الحساب العسير" المصير الانساني ذاته، ومجد " الكرامة " الإنسانية، مثل محاكمة الميت في كتاب "الخروج الى النهار".، فهذه الاختبارات هي التي تصنع الرجال.فيلم " رجل يموت مليون مرة " يجد ثقتنا في السينما الفن كما تمثلته وهضمته ، وهو" تحية " الى مجد السينما الصامتة العظيمة.. وتشعر وأنت تشاهده، لقلة مافيه من حوار، وكأنك تشاهد فيلما من أفلام السينما الصامتة العظيمة، وهو يستعيد الى السينما كفن الكتابة بالضوء مجدها ، ويتسامق بنعمة الصمت في السينما، التي تتواجد فقط  في فترات الصمت بين لقطة ولقطة، مشهد ومشهد، في عصر أفلام خبط الحلل، والثرثرات العقيمة اللامجدية" في أفلامنا المصرية التجارية للضحك على العقول، ولا علاقة لتلك أفلام رديئة وتافهة بالسينما بالمرة، أو بهموم الناس..




صلاح هاشم

ليست هناك تعليقات: