يـوســف شـــاهــيــن فــي عــيـــون عـــارفــيـــه وأحــبـــائــه:
الأب الروحي الذي يراقص الأفـكار والآمال
بقلم هوفيك حبشيان*
مراقبة أينما حلّ. ذات يوم أحد عادي ومملّ أخذ يوسف شاهين (82 عاماً) إجازته النهائية، بعد نحو شهر من الغيبوبة. غيبوبة هي أيضاً حليفة الحال العربية التي كان لها دائماً في المرصاد، ماضياً وحاضراً. "استقال" شاهين في مرحلة لم تعد السينما المصرية في حاجة الى رواد وجبابرة يصدمون ويستفزون ويحرضون، انما الى مهرّجين يزرعون البهجة كيفما اتفق. هذا هو زمن ما بعد المعلّم الاسكندراني! على رغم التعب الذي كان بادياً على وجهه في الفترة الأخيرة، ظل شاهين هذا النرسيس الجميل المتعاظم. على مدار نصف قرن ونيف، كان الرجل كتاباً مفتوحاً، بل قاموساً متنقلاً حافلاً بالمواقف السياسية والفكرية والانسانية الحازمة. سواء في الشاشة أو خارجها. وكانت حياته ثرية، حافلة بالمحطات واللقاءات، بالنزق والترحال. والمجون كذلك. حياة تعبّر عن نصف قرن من تاريخ العرب. ليس العرب فحسب. بل تاريخ العالم برمته، مع أحلامه ومعاناته، الذي كان لشاهين القدرة على اختصاره في لقطة، في لحظة، في وجه، في لون... في كل شيء عبرت فيه كاميراه.
كان هذا الشيخ البهي رمزاً لـ"مدينة منوّرة بأهلها": الاسكندرية. شأنه شأن ثنائيات أخرى من مثل فيلليني - روما أو سكورسيزي - نيويورك، أو فاسبندر-المانيا. هذه المدينة أكثر ما ومن سيشتاق اليه. الى غضبه وعطفه وحنانه. كان شاهين بالاضافة الى هذا كله، سينمائياً سياسياً. كان لعدسته القدرة على استيعاب مكان وشعب من دون اللجوء الى منطق التعميم. أدرك منذ مقتبل تجربته الابداعية أن أمضى السلاح في وجه تسلط العالمية هو أن تكون محلياً. وأن الفنّ الذي له قضية فنية وانسانية، لا بد أن يجد طريقاً سالكة للمرور من شاطىء الاسكندرية - المدينة الكوزموبوليتية التي شرب من مياهها - الى ضفاف كانّ، حيث نال اعتراف الجميع باعتباره أكبر مخرج عربي على الاطلاق.
في كل جديد له، أفصح شاهين عما يجول في فكره. وتجرأ على الحكي في عالم (عربي) اعتدناه غوغائياً صامتاً. لم يلجأ مثل آخرين الى المواربة او الحياد. وعلى رغم الثرثرة والخطابية المباشرة والتطرف في استعداء قادة أميركا، الاّ انه ظل معلماً في تقنية ادارة الممثل واشاعة أجواء ميلودرامية في أعماله. كان شاهين طريفاً ولا يضبّ لسانه، اذ كان في استطاعته أن يشتم جورج دبليو بوش غداة 11 أيلول من دون أن يبدو ثقيلاً، رجعياً، مناضلاً بلا قضية. اعترف مراراً بتمسكه بمبدأ أن القوانين وجدت لتتحطم، وبأن مقابل كل سلطة لدولة وحكومة، هناك سلطة الشعب. وسلطة الفكر. وسلطة الارادة. كذلك، عرف كيف يخاطب النقاد، وكان له بينهم أصدقاء، ولا سيما في مجلة "دفاتر السينما" الفرنسية. خاطبهم على قدم المساواة. متحرراً من عقد ذاك الآتي من شرق محطم. تفهّموه، أحبّوه، وظلّوا الى جانبه حتى في أحلك الظروف. وغنّجوه بـ"جو"! اليوم، جو، هو جل ما يتذكرونه من سينما عربية، انكساراتها أكثر من أمجادها.
كان شاهين روبيسبيير (المتوفى في مثل يوم وفاته) السينمائي، على طريقته المجنونة الفريدة. هذا الذي طالب في وصيته السينمائية، "هي فوضى؟"، بالديموقراطية حلاً وحيداً لمصر وشعبه، سعى الى أن يؤكد مراراً أحقية المصري في العيش بعيداً من الذل الذي يسكنه. على رغم انه لم يكن يؤمن لا بالاصلاح ولا بالعدالة (كان يقول: "مَن مِن قضاتنا العرب سيخضع للاصلاح؟"). من أجل هذا كله، لا نستطيع أن نفصل مساره عن مجمل المعركة التي خيضت ولا تزال تخاض ضد الفساد والرقابة والتوريث السياسي، في العالم العربي، منذ سالف الأيام. خلافاً لكثيرين، لم يمارس شاهين على أعماله رقابة ذاتية ("كل إنتاج فني فيه افكار جريئة مصيره المنع")، فلسينماه مخالب وتدافع عن نفسها بنفسها. فهذه السينما، التي ولدت نتيجة نمو الوعي القومي والآمال المعقودة عليه، لم تقوَ كل أشكال القمع التي تحاصر العقل العربي، على تدجينها واعادتها الى "النظام".
* هوفيك حبشيان . ناقد سينمائي لبناني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق