الأحد، مارس 23، 2008

قراءة لرواية" ابنة القومندان " بقلم أمل الجمل

أيام زمان.لقطة من مجموعة صلاح هاشم


"شريف حتاتة" في "إبنة القومندان "..

أبطال مأسويون وحب قابل لأن يُستعاد

أمـل الجمل

"شريف حتاتة" كان ولايزال على قناعة بأن الشخصيات القوية الخالية من نقاط الضعف، القاطعة كحد السيف ليست لها وجود ، بأنهم لايعترفون بضعفهم أو أنهم لا يُدركون أصلاً أنهم ضعفاء. كانت الكتابة عن الضعف تستهويه خصوصاً ضعف الرجال . كأنه يرى أن الدراما في حياة الإنسان هى في محاولاته المستمرة للتغلب على الضعف الكامن فيه. لكنه في أحدث مؤلفاته رواية "إبنة القومندان" ـ صدرت عن دار نشر ميريت فبراير 2008ـ يقلب الأوضاع رأساً على عقب . يقلب موازين القوة بين الجنسين، ويُبدل الأدوار بين شخوصه الرجال والنساء.

تعيش الشخصية الرئيسية "حمدان محمد عميرة " طفولتها في عزبة للفلاحين اسمها "الكوادي "، ويُقرض الشعر منذ صباه . عندما يتوفى أبوه تُرسله أمه إلى مدينة "طنطا " لُيقيم مع أحد المشايخ ويُكمل تعليمه هناك . ينتهي من دراسته فيعود إلى القرية ليتزوج من "كريمة " ابنة مقاول للأنفار ، ويستقران في القاهرة لكنها بعد مدة قصيرة تُصاب "بالسُل "وتلفظ أنفاسها الأخيرة وهى راقدة بين ذراعيه فيثور ضد الأقدار التي اختطفت المرأة الشابة التي أحبها منذ أن كانا صغيرين يجمعان القطن في موسم الحصاد .

الرواية تبدأ في زمن آخر عندما يُصبح رجلاً ناضجاً وشاعراً ثائراً على الأوضاع ، تجد أشعاره صدى واسعاً بين الناس . في نسيج تكوينه كشاعر تُوجد خيوط تُعيدنا إلى "زوربا" اليوناني والمسيح وسيزيف . في ذلك الزمن الآخر كان النظام يعيش مرحلة تغيير لوجوه المسئولين الكبار ، فيُصدر رئيس الأمن في البلاد أمراً بإعتقاله وإحضاره إليه فيُحيط به العسكر كالفيضان الأسود وهو يروي الورود في حديقة بيته تُحني رؤوسها في انكسار عندما يصعد إلى جوف الشاحنة ويختفي عن الأنظار.

يحبسونه إنفرادياً في زنزانة تغط في الظلام ثم تبدأ المساومات . يُحاولون توظيف قلمه لصالح النظام، ولصالح التغييرات التي سيُقدم عليها . يُغرقونه بالوعود لكنه يرفض الإغراءات فيرسلونه إلى معتقل في الصحراء جمعوا فيه السياسيين من اليسار .

وصول القومندان

أحد أركان النظام رجل يُدعى "مصطفى الحناوي ". رجل أمن من نوع خاص . له ولع غريب بإصطياد المعارضين للحكم .. بالرصد ، والتتبع ، والتعذيب والإستجواب. كان متزوجاً بإمرأة أحبها وعاشت معه سنوات، ثم ماتت . تركت له إبنة فنانة تعزف على الكمان . بعد وفاة الزوجة تنشأ بين الفتاة وأبيها علاقة معقدة مزيج من الحب ، والصراع ، وإرهاصات جنسية لا تصل إلى علاقة بين الأجسام . لكن "الحناوي " يتم نقله " قومنداناً " لمعتقل الواحات لأنه حاول القبض على عناصر من النظام ظن خطأ أنها تُدبر شيئاً ضده . تصحبه إبنته إلى الواحات إشفاقاً عليه أو ربما هروباً من تجربة حب فاشلة تركت في نفسها أثاراً عميقة.

هكذا يجتمع الضدان "مصطفى الحناوي " "وحمدان محمد عميرة " لندخل في قلب الرواية التي تدور أحداثها فى معتقل الواحات . هناك يُوجد السجن بكل معانيه المادية والمعنوية . سجن الصمت المُحمل بالمعاني والذي يُصبح أحياناً لغة خصبة تتعدى حدود الكلمات . سجن السياسيين المُولعين باليومي والسطحي والنفعي ، والعاجزين عن إدراك أهمية الشعر والخيال. سجن الأسلاك الشائكة التي يخترقها شاعرنا ليزحف في ظلمة الليل على بطنه فوق رمال الصحراء متحدياً خطر الذئاب ، وطلقات الرصاص ، والضياع ليلتقي عند "طلمبة " المياه بـ"كريمة" إبنة "القومندان ". هناك أيضاً يعمل "حمدان " في المخبز وإعداد العجين ويرتبط بالصداقة مع أحد الشباب المتمردين على جمود اليسار . هناك فرصة للتأمل والإبداع ، والخوف من أن تجف ينابيعه، فيلجأ إلى نظم الشعر وكتابته على رمال الصحراء. هناك محاولة الهروب وما يترتب عليها من رصاص يُطلق بكراهية عمياء. هناك الصراعات الأبدية التي عاشها الإنسان منذ وعى أنه إنسان .

عظمة الإنسان وضعفه

جاء "حمدان " على نقيض شخوص المؤلف السابقة. فقد دأب "شريف حتاتة" في رواياته على كشف النقاب عن ثغرة تختبيء في أعماق أبطاله, ثغرة تقود إلى الضعف في الشخصية, لكن هنا البطل "حمدان محمد عميرة" يتسم بالقوة , لا يقبل الحلول الوسط أو المساومات , قاطع كحد السيف منذ الطفولة. وهو لا يزال صبياً صغيراً أمسك إبن الجزار ـ الذي حاول أن يغشه في الميزان ـ ودق رأسه في جذع الشجرة التي يقطع عليها اللحم , غير عابيء بضربة السكين التي تلقاها في الفخذ .

أما "كريمة" إبنة "القومندان" فيشوبها شيء من الضعف. هذا بينما كانت المرأة في رواياته السابقة تمتلك قدرة مدهشة على الحسم، لا تقبل الزيف , ولا تطيق الخداع أوالكذب. في هذه الرواية يُواصل "حتاتة" نظرته التقدمية إلى الأنثى التي من حقها أن تملك عقلها وقلبها وجسدها ولا تمنحه إلى أي انسان إلا بإرادتها الحرة. مع ذلك تخلت "كريمة" عن الحسم المميز لبطلاته، وركنت إلى الصمت هروباً من عالم أبيها ، فعندما أصبحت رائحة الخيانة تحلق حولها ونمى إحساسها بالنفور من أبيها واصلت الحياة معه . هل كان ذلك خوفاً من انهيار العلاقة بينهما ؟! أم أنها وهى الفنانة عازفة "الكمان" استمرأت الراحة والإمكانيات التي كان يوفرها لها ؟!.

حدث إذن تبدل في الأدوار بين شخوصه، بين الرجال والنساء. لكن يبقى التساؤل هل حقق "شريف حتاتة" بهذه الشخصية ، شخصية "حمدان محمد عميرة"، نوعاً من التطهير بسبب ما حدث ومازال يحدث حوله من انهيار لما كان يحلم به ؟

وجود مغاير

تنتمي روايات "شريف حتاتة" في الأغلب إلى تيار "الواقعية", لكن "إبنة القومندان " رواية رومانسية , فيها أشياء ملحمية وفانتازيا واقعية، وفيها أحياناً سخرية ضاحكة، ونقد لأعضاء اليسار الذين يقضون حياتهم في الكلام واللجان، في تكرار الإجتماعات ، في المشاريع التي تُطرح ولا تنفذ فتحل محلها مشاريع جديدة يطول حولها النقاش، يقول الروائي : "المقاعد التي يجلسون عليها اتخذت شكل أجسامهم، بعضها غدا طويلاً نحيلاً , أو قصيراً مكتنزاً, أو عرجاء ، أو في ظهرها كتف أعلى من كتف, أو هى مائلة على جنب , أو تصدر عنها رائحة أصبحت مميزة لصاحبها ."

تختلف الرواية أيضاً في كونها تعتمد على أسلوب في السرد شبه تقريري، في أن الرواي يُصبح جزئاً منها في النهاية. جاء الحكي كله بضمير الغائب باستثناء الخاتمة التي كُتبت بضمير المتكلم .. والمتكلم هو الراوي وهو نفسه "شريف حتاتة" الذي يفاجئنا بالظهور على الصفحات الأخيرة.

إن إعلان المؤلف عن وجوده بمثل هذا الوضوح ليس جديداً فقد لجأ إليه آخرون، ومنهم "جوزيف كونراد " في رواية "قلب الظلام "، لكن وجود "حتاتة" في أحدث رواياته ظهر بشكل مختلف. كأنه يُريد أن يُضفي علي هذا العمل المليء بالخيال قدراً كبيراً من الواقعية، وأراد أن يقول أن في أعماق الإنسان يقبع كائن جبار، قادر على تحويل الأساطير إلى واقع ملموس، أو أن يطرح تساؤلاً يقول: هل تُوجد أساليب فنية عفى عليها الزمن ؟!

أسلوب الصياغة

تتميز لغة هذا العمل بأنها تميل إلى البساطة. مع ذلك فيها أجزاء مهمة كثيرة تتمتع بشاعرية واضحة ، فالكلمات كالموسيقى لها نغم وإيقاع. لا يتعامل فيها الروائي مع الزمن كإطار جامد . فهو يُحرر نفسه من هذا السجن . يُواصل تحطيمه للزمن, يتردد بحرية بين الماضي والحاضر , يروح ويجيء كالطائر الحر، لا يعنيه الزمن بقدر ما تعنيه دلالات هذا أو ذاك التاريخ لأهميتها في رسم خلفياته الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي تُضفي ظلالاً وأبعاداً جديداً على الأحداث، فالحاكم الذي يستعد لولاية سادسة يستدعي جراحي التجميل لإخفاء فساد وزارئه ـ من بينهم مستشار الأمن القومي الذي يمتلك محلات لملابس النساء الداخلية ـ حتى يُواصل بيع ما تبقى من البلاد.

لم يغفل المؤلف المؤثرات الصوتية ففي " الآذان صوت قنابل إنشطارية , وصراخ أطفال بطونهم ممزقة, وأغان, وهتافات, وأنين،" ويختلط صوت دبيب أحذية العسكر بأنغام الكمان. إنه كمن يكتب سيناريو سينمائي . لا يهتم فقط بالصورة ، وحدودها ، وبقلبها المسكون بالحركة، لكن أيضاً بالتكوين, بالضوء ومصادره , بالألوان والظلال, بالإيقاع. كما يهتم بنحت أدق تفاصيل شخصياته. يستحضر تاريخ الشخصيات . كل الشخصيات ، رئيسية كانت أو هامشية. يرصد بجلاء بصمة الزمن عليها ، وبالملابسات التي ترتبط بنشأتها، بأخلاقها وسلوكها في الحياة، حتى إن كان هذا في جملة أو اثنتين.

شخصيات "شريف حتاتة" فيها هدوء ظاهري، لكن في الأعماق يظل البركان على حافة الإنفجار . إنه ممسوس بالأبطال المأسويين ، مع ذلك يغرس فينا الأمل بالحب المستحيل، بأن الأحلام قابلة للتكرار ، وأن الحب قابل لأن يُستعاد ، فـ"كريمة" الحبيبة الأولى التي ماتت حلت مكانها "كريمة" إبنة "القومندان" . والشاب هو الذي جمع أشعار "حمدان" بعد أن غاب، والخادمة هى التي تروي تفاصيل ما جرى بين "كريمة" وبين "حمدان". بل و"شريف حتاتة" نفسه يُصبح أحد شخصيات الرواية، ربما ليُقنعنا بأن ما جرى ليس فقط من صُنع الخيال وكأنه يُريد أن يقول أنه أيضاً جزء من هذه المأساة. جزء من الصراع الذي دار في معتقل الواحات، شاهداً عليه، مشاركاً فيه إلى أن أُزيل هذا المعتقل من فوق رمال الصحراء.








ليست هناك تعليقات: