الثلاثاء، يونيو 12، 2007

اوراق من " كان " الستين 3

اوراق من " كان " الستين وبقايا صور بقلم صلاح هاشم

كريستيان مونجيو
لقطة من فيلم 4 شهور الحاصل علي سعفة " كان " الذهبية لعام 2007





أوراق من " كان " الستين 3



بقلم صلاح هاشم







انحياز " كان " إلي الأفلام المصنوعة باليد وتحمل هما


محنة في رومانيا




كشفت لجنة تحكيم المسابقة الرسمية لمهرجان " كان " الستين برئاسة المخرج البريطاني الكبير ستيفن فرايرز عن انحياز واضح إلي سينما المؤلف – المصنوعة باليد في ورشة الابداع وتحمل هما - من خلال منح فيلم " أربعة شهور وثلاثة أسابيع ويومان " 4 MONTHS للمخرج الروماني كريستيان مونجيو- من مواليد 27 ابريل عام 1968 في لاسي.رومانيا - جائزة السعفة الذهبية ، أرفع وأهم جوائز المهرجان، وهي المرة الأولي التي تحصل فيها رومانيا علي هذه الجائزة، وكنا نبهنا في عجالة في زاوية " نظرة خاصة " إلي أن الفيلم أعجبنا، ورشحناه مع عدة أفلام للحصول علي تلك الجائزة، أو جائزة أخري من جوائز المهرجان المهمة..
كما يبدو هذا الانحياز واضحا من خلال منح فيلم " بارانويد بارك " PARANOID PARKومخرجه جوست فان سانت جائزة مهرجان " كان " الستيني، تقديرا له علي مسيرته السينمائية ، وأفلامه التي تدخل في لحم المجتمع الأمريكي، كمن يشق بطيخا بسكين، لتكشف عن آلامه وأوجاعه ، وحيرة وغربة شبابه من المراهقين. في عالم تنهار فيه قيم الحنان والتعاطف والحب، فإذا بالمجتمع الأمريكي كله، وبكافة مؤسساته، العائلية والتربوية، يصبح مسئولا عن جريمة أرتكبها شاب مراهق ضائع في فيلم " بارانويد بارك " عش المحرومين..
في حين حكي فيلم " أربعة سنوات " عن المجتمع الروماني تحت حكم الديكتاتور الراحل شاوشسكو من خلال عملية إجهاض، كان القانون آنذاك في رومانيا يعتبرها جريمة يعاقب عليها بالحبس ، ويبدأ الفيلم من داخل مجمع سكني بائس للطلبة في المدينة الجامعية، حيث تستعد طالبة حامل تدعي " جابيتا " للذهاب إلي أحد الفنادق، لكي يقوم رجل غريب بأجراء عملية الإجهاض لها داخل احدي غرف الفندق، نظير مبلغ من المال..
وتقنع الطالبة زميلة وصديقة لها تدعي " اوتيليا " بأن تصطحبها إلي الفندق، لكي تساعدها وتسهر علي راحتها، ومن خلال المشاهد الأولي للفيلم نتعرف علي هموم وحياة التقشف والمعاناة والبؤس التي يعيشها الطلبة، حيث تباع السجائر الأجنبية والبضائع والمأكولات المهربة في السر، ويتعاون الطلبة علي مواجهة أعباء الواقع تحت مظلة القمع والدولة البوليسية بحرص وكتمان . ويركز مخرج الفيلم - لضيق الميزانية- علي الاعتماد علي تصوير مشاهد الفيلم من خلال اللقطة المشهدية الطويلة، فمثلا نري أوتيليا صديقة البنت الحامل، تخرج من غرفتهما، وتتعقبها الكاميرا المحمولة علي الكتف عبر الممر الطويل الذي يفصل بين الغرف، لتصورها وهي تدخل من غرفة الي أخري، ثم تتوجه إلي الحمام، ثم تستدير والكاميرا تسبقها، لكي تصورها وهي تعود الي غرفتها ، ثم يقطع المخرج علي المشهد ، ويبدأ في تقديم مشهد أخر جديد بنفس الطريقة..
ويظهر اعتماد المخرج علي هذا النوع من المشاهد، كما في أفلام جوس فان سانت " فيل "، أثناء زيارة أوتيليا إلي منزل صديقها قبل نهاية الفيلم بقليل ، لكي تشارك في اجتماع عائلي ، تحتفل فيه أمه بعيد ميلادها، وتكون تركت صديقتها في الفندق ، وهي لا تعرف بعد أن حضرت عملية الإجهاض علي يد ذلك الرجل الغريب الجزار،إن كانت جابيتا الحامل خرجت منها بسلام، وإذا بها تتذكر مرعوبة ما وقع لهما، وتحس بالقرف والغثيان بعد ان طالت أيضا المهانة والفضيحة..
والمهم هنا أن أوتيليا بطلة الفيلم، التي تلعب دورها بإتقان بالغ الممثلة الرومانية آنا ماريا مارينسيا، تمر عبر تلك الحادثة التي يصورها الفيلم خلال أربعة وعشرين ساعة ، وتبدأ في الصباح من داخل تلك الغرفة الجامعية الرديئة، لكي تنتهي علي قارعة الطريق في الليل، مرورا بذلك الفندق المشئوم، تمر برحلة معاناة واستكشاف للذات مذهلة، رحلة تحبس الأنفاس، وتشدك بقوة الترقب كما لو كنت تشاهد فيلما من أفلام الرعب لهتشكوك إلي مقعدك..
إذ تكتشف أوتيليا أن صديقتها الحامل كذبت علي الطبيب المزيف الجزار، وأوهمته بأن أوتيليا أختها ، وكان عبر الهاتف أوضح لها أنه لا يريد أي مقابل مادي نظير عملية الإجهاض ، بل يريد فقط أن يضاجعها هي وأختها ! وهكذا تجد أوتيليا أنها تورطت، ووقعت بالفعل في محنة ، ولم تكن تريد إلا مساعدة صديقتها ، وتقبل في النهاية لكي تتم العملية بسلام ، أن يغتصبها ذلك الجزار، ومن بعدها جابيتا، ولا شيء بعد الآن يستطيع ، يا للمهانة ، أن يغسلها ويطهرها من عارها..
وحين تغادر أوتيليا الفندق وتسارع للمشاركة في عيد الميلاد، لا تعرف ماذا تقول لخطيبها، وتروح أثناء الاحتفال بعيد ميلاد أمه، تستمع إلي تلك الأحاديث العائلية السخيفة التافهة لأناس برجوازيين مستفيدين من نظام الحكم البوليسي القمعي الديكتاتوري لشاوشسكو، وحريصين علي بقائه واستمرار يته، لأنهم قطعة منه ، ولا تكشف لخطيبها إنها اغتصبت في الفندق..

كابوس الجنين


وقبل أن ترحل تقف معه علي عتبة الباب خارج الشقة، وهي تفكر كيف ستعود الي الفندق لكي تحمل الجنين وتتخلص منه بإلقائه في صندوق زبالة أحد المساكن الشعبية الرومانية المتهاوية ،و تقرر الانفصال عن خطيبها ، وعليه من الآن أن يتركها وحالها ، فهو أيضا لن يكون أفضل من ذلك الجزار الذي أنتهك عرضها ، ويقينا سيأخذ منها كل شيء، بعد ان يخدعها بوهم الحب والكلام المعسول ، لكي يتركها كما النفايات في النهاية، ويهجرها إلي امرأة أخري، وتلاقي نفس المصير. لا فائدة ولا طائل من علاقتهما إذن، وعليها الآن أن تنهي هذه العلاقة ، وأن تسارع بالعودة إلي الفندق، لتعرف ان كانت صديقتها مازالت علي قيد الحياة وتتخلص كما وعدتها من الجنين..
فيلم " أربعة أشهر وثلاثة أسابع ويومان " للروماني كريستيان مونجو – فيلمه الروائي الثالث - يحكي من خلال تلك الحادثة الواقعية ، وبأسلوب البريطاني كين لوش " إنها تمطر حجارة " ، وعلي نهج الأخوين البلجيكيين داردين " روزيتا " في الإخراج ، يحكي عن " كابوس " مرعب ، ومن دون مط ورغي وحكايات مملة لا تنتهي كما في جل أفلامنا ومسلسلاتنا المصرية المريضة بداء الثرثرة ، وقد بدا لنا مثل عملية " تشريح" آسرة للمجتمع الروماني الكبير تحت حكم شاوشسكو، من خلال تسليط الضوء علي العالم المصغر الميكروكوزم لمحنة تلك الفتاة الجميلة الشقراء البريئة أوتيليا ، وقد قادتها نواياها الأصيلة الشريفة الطيبة، ورغبتها في تقديم المساعدة..
قادتها إلي رحلة رعب وضعتها أمام نفسها علي المحك. لتدرك حينئذ فقط فداحة ومأساة العيش في ظل القهر والقمع والدولة البوليسية الشاوشسكوية، بأجوائها الكئيبة الكالحة السوداوية العبثية ، و تفيق في النهاية من ذلك الكابوس، لتكتشف أنها فقدت شرفها وكرامتها، واحترامها لنفسها، وسقطت في الوحل..
فيلم جميل وبديع ، ببساطته وواقعيته ، وتلك التفاصيل الضرورية الكثيرة في الفيلم، التي تشكل النسيج الواقعي العام ، بتصوير يغلب عليه اللون الأصفر الغامق المائل للخضرة ،ليكثف الإحساس بالحبس والموت داخل تلك الغرف المغلقة السرية، الموضوعة تحت المراقبة في الفندق، وعلي من يصعد اليها أن يسلم بطاقته الشخصية لموظف الاستقبال ، ويعلم الله وحده كم شهدت من مآس وأهوال..
ومن أبرز مشاهد الفيلم اللحظة التي تدلف فيها اوتيليا الي الحمام، لتري الجنين الميت الغارق في الدم، فتلف الجنين في ورق جرائد وهي مرعوبة، ثم تحمله في حقيبتها وتغادر الفندق ، لكي تتخلص منه بإلقائه في مقلب زبالة احدي العمارات السكنية في ضواحي العزلة والبؤس، وحين تعود إلي تلك الغرفة المشئومة في الفندق ، إذا بها تكتشف أن صديقتها اختفت فجأة..

صورة تشبهنا

لماذا لا نشاهد في بلادنا مثل تلك الأفلام، ونتعلم منها، ولماذا تصنع لنا تلك الأفلام الركيكة الاصطناعية التافهة التي لا تقدم كما يظهر في ذلك الفيلم صورة "واقعية " حقيقية تشبهنا، بل تروج للهراء العام والفبركة ، وتجعل الأجانب يضحكون علينا، ويقهقهون في عبهم من أفلامنا ؟
قد تكون هناك إجابة علي ذلك السؤال من خلال واقع سوق الفيلم في مهرجان ذاته ، حين عرض فيلم " مفيش غير كده " في السوق وتضطلع ببطولته نجمة معروفة ، فلم يحضر بعد تأجير قاعة لعرض الفيلم في السوق بالشيء الفلاني إلا بضع أشخاص ، لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالسينما. ومن بعدها أقبل علي ناقد لبناني ليسألني في حوار لقناة الجزيرة الوثائقية أن كيف تفسر مقاطعة " الحضور العربي " في كان للأفلام العربية التي تعرض في السوق. فأجبته : لمعرفته مسبقا بتفاهتها ، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، ثم كيف تريد أن يهتم ذلك الحضور، وهو في أعظم مهرجان للسينما في العالم ، ويقصف يوميا بعشرات الأفلام الجيدة، وهي هنا علي قفا من يشيل، بمثل تلك الترهات السينمائية ،التي لا تأنف من تحويلنا دوما في أفلامها إلي مسخ، كما في فيلم " مفيش غير كده "ولا تحمل هما ولا قضية ؟. عجيب !..
لقد حزنت في " كان " حزن الموت، بسبب حادث طارئ ولم يكن في الحسبان، وقع لي أثناء ذهابي إلي " كان " بالسيارة، فحال دون مشاهدتي لبعض الأفلام، ومع ذلك لم أيأس ولم أستسلم، بل أخذت القطار إلي كان، وتجشمت الأهوال لمتابعة أفلام المسابقة، وكنت أسكن في مدينة بيوط " BIOT علي بعد 25 كيلومترا من " كان " كالعادة ، وأتنقل بينها وبين كان علي راحتي في ما مضي ، فلما ضاعت السيارة في الحادث ، صار التنقل بين بيوط وكان غاية في المشقة والتعب، وكنت أسافر وفي جيبي دفتر مواعيد المواصلات بين المدينتين ، وأستيقظ في السادسة صباحا والنعاس يغالبني كل يوم ،واكتفي بلقمة وفنجان قهوة علي السريع ، قبل أن أركض هابطا التل، لكي ألحق بأول قطار يحملني من بيوط إلي كان، حيث تبدأ عروض الصحافيين في الثامنة والنصف صباحا، وتبد أ دورة اللهاث والركض للحاق بالأفلام التي لا تنتهي. ولست بالطبع ضد عرض أفلامنا في سوق الفيلم ، لكني لست علي استعداد لتضييع وقتي في " كان " في كلام فاضي، ونصحته بأن يتأمل قليلا في تلك الطوابير الطويلة من الصحافيين والنقاد التي تقف أمام قصر المهرجان وهي تنتظر، علها تفوز بمقعد لمشاهدة فيلم من أفلام المسابقة، ويفكر لماذا تندفع مثل جيش جرار هكذا حين يسمح لها بالدخول، وتتدافع بالمناكب، فلن يتعجب بعدها ويسأل عن سر غياب الجمهور عن عروض أفلامنا العربية في سوق المهرجان..

ليست هناك تعليقات: