لقطة من فيلم الالماني فيم فندرز عن السينما في افريقيا
أوراق من " كان " الستين
أوراق من " كان " الستين
لكل سينماه
بقلم صلاح هاشم
تميزت دورة مهرجان " كان " الستون، التي عقدت في الفترة من 16 إلي 27 مايو في مدينة " كان " الفرنسية في جنوب فرنسا علي حافة البحر،بتنوع وقوة وديناميكية وحيوية فائقة، فقد احتفل فيها المهرجان بمرور ستين عاما علي تأسيسه، ولم ينظم للاحتفال بتلك المناسبة أفراح وليالي ملاح مكلفة وصاخبة ومن دون لزوم، كما تفعل جل مهرجاناتنا العربية السينمائية " الاستعراضية " التي تهتم بالمنظرة والبهرجة . بل تفتق ذهن إدارته عن فكرة رائعة، الا وهي دعوة 33 مخرجا من أنحاء العالم لصنع فيلم يحكي عن علاقة كل واحد منهم بالسينما من خلال صالة العرض، وبشرط أن لا تتجاوز مدة الفيلم ثلاث دقائق ، وأشرف جيل جاكوب رئيس المهرجان بنفسه علي أنتاج الفيلم والقيام بعمل مونتاجه، حتي يعرض بعد اكتماله في ما بعد علي شكل فيلم طويل في يوم الاحتفال بعيد ميلاد المهرجان، وقد كان. وعرض فيلم CHACUN SON CINEMA " لكل سينماه " بالفعل بمشاركة مخرجين عربيين هما المصري يوسف شاهين، والفلسطيني الشاب إيليا سليمان، وأعتبر هذا الفيلم" لكل سينماه " أيقونة مهرجان كان التاريخية في دورته الستين..
حيث يحكي المخرجان يوسف شاهين وايليا سليمان مع مجموعة من أشهر المخرجين في العالم، وبعضهم حصل علي سعفة كان الذهبية أي أهم وأرفع جائزة في المهرجان في دورات سابقة، ومن ضمن اليوناني أنجلو بولوس والأمريكي جوس فان سانت، والفرنسي كلود ليلوش وآخرون..
يحكون عن السينما، ماذا تعني بالنسبة لهم، وكيف كانت تأثيراتها علي حياتهم، وأعز ذكرياتهم عنها ، والجميل أن الفيلم يبدأ من بلدنا مصر " أم الدنيا " وتحديدا من مدينة الإسكندرية..
حيث يقوم الفرنسي ريمون دوباردون – احد أهم مخرجي الأفلام التسجيلية في فرنسا ، بتصوير دور العرض الصيفية فوق أسطح بيوتات الإسكندرية في فيلمه القصير بعنوان " ليالي الصيف " وهو فيلم من أفلام ال" خطف " كما أحب أن أسميها، التي تحاول الإمساك كما في قصة قصيرة لتشيكوف او موباسان، بتوهج الحياة ذاتها في لحظة، لكنها تشحن هذه اللحظة بكل معاني ودلالات الحياة ، تلك التي تجعل حياتنا جديرة بأن تعاش، ومن دون مط وتطويل وثرثرة فارغة كما في جل أفلامنا المصرية العقيمة الركيكة التافهة..
أي أنها تطرح هنا " خطف "، تطرح فكرة ذلك "الوميض" الخفي، الذي يبرق بحب ومجد الحياة في نهاية النفق المظلم لواقعنا ، وبكل مافيه من تناقضات وأزمات وتشوهات وتلوث وحروب..
وقد نجح دوباردون من خلال فيلمه أن يسرق لحظات من الماضي الذي عاشه في الثغر الجميل وهو يصور حاضر تلك السينمات علي "شط إسكندرية " كما تنشد فيروز في الهواء الطلق، وتلك الحميمية التي ارتبطت في أذهاننا بفكرة السينما او القاعة التي توحدنا مع الأصدقاء والصحاب وتجمعنا من خلال عملية مشاهدة الفيلم الجماعية بالسماء، وآه كم شهدت تلك القاعات من قصص حب وقبلات مختلسة في ظلام القاعة، وتسمعنا فيها إلي تنهدات وآهات وذرف دموع لحبيب..
لكن يبدو أن مخرجنا الكبير يوسف شاهين للأسف لم يفهم المقصود ، فذهب في فيلمه مذهب بعض المخرجين، الذين شاركوا في صنع " لكل سينماه " واستغلوها معه فرصة للحديث عن ذواتهم بشكل نرجسي مقرف ومقيت ومعيب..
حيث يحكي شاهين في فيلمه ، يافرحتي ، عن مجد شاهين وعظمة شاهين، فيظهر لنا في فيلمه القصير بعنوان " بعدها بسبعة وأربعين عاما " في صورة شاب ينتظر في قاعة العرض في كان منذ 47 عاما، ينتظر أن تحضر إليه زوجته، وتخبره إن كانت الصحافة الفرنسية التي تتابع أفلام المهرجان كتبت شيئا عن فيلمه، ويتحسر بالطبع في تلك اللقطة التمثيلية، عندما تخبره زوجته بأنها كتبت فقط أنه سيعرض في برنامج المهرجان بعد فيلم مكسيكي ، ولم تكتب أي شيء آخر عن الفيلم ! ...
وفي اللقطة التالية – لقطة تسجيلية - تظهر النجمة الفرنسية إيزابيل أدجاني ، لتعلن فوز شاهين بجائزة مهرجان " كان " الخمسين لمجمل أعماله التي عبرت عن التسامح، ويظهر شاهين في تلك اللقطة التسجيلية لكي يحيي جمهور القاعة، ويلوح بيديه منتصرا، وقد جعل هذا الفيلم جمهور مهرجان " كان " في دورته الستين يضحك علي شاهين وتخريفه..
كما استغلها المخرج الإسرائيلي آموس جيتاي فرصة هو أيضا، ليقول لنا من خلال فيلمه القصير أن جمهور إسرائيل يعيش كما في أي قاعة للسينما في حيفا او تل أبيب تحت خطر القصف ، حيث يعرض في فيلمه للجمهور الذي ينتظر عرض الفيلم ، حين يصعد ضابط ويعلن أن علي الجمهور مغادرة القاعة ، وقبل أن يهبط من علي خشبة المسرح، إذا بقنبلة تنفجر في القاعة لينتهي ذاك الفيلم الصهيوني السخيف، الذي يروج لفكرة أن إسرائيل ستكون " ضحية " دوما لتفجيرات الإرهابيين الفلسطينيين العرب، وستكون دوما بحاجة إلي دعم وحماية سلامتها وأمنها..
ويتواصل هنا الفيلم الصهيوني مع فكرة الهولوكوست، المحرقة ، التي صارت تجارة تتكسب من ورائها إسرائيل واليهود، ولا يغرب نهار يوم هنا في فرنسا والغرب، إلا ويعرض فيه فيلم تسجيلي او روائي عن " هلاك " اليهود ، وتلك المحرقة، ما ذنبنا ، التي نصبت لهم ، ويجب أن يتذكرها العالم في كل لحظة ، لكي تعيش إسرائيل الدولة العنصرية، علي قفا العالم، وتنشل جيوبه..
كما عرض أيضا ضمن أفلام " لكل سينماه " القصيرة فيلم يصور فيه المخرج الكندي دافيد كروننبيرغ نفسه، وهو يستعد لكونه يهوديا للانتحار، ويحمل الفيلم عنوانا دعائيا مقرفا كما في فيلم آموس جيتاي : " انتحار آخر إنسان يهودي في آخر قاعة للسينما في العالم " ، تصوروا، وفي قلب المهرجان الكبير ويكون بمثابة دعاية فجة مرة أخري لليهود..
في حين توهجت السينما كحب من أول لقطة، وكذلك من أول " نظرة "، وكعناق مع الحياة والأمل والحب في العديد من أفلام " لكل سينماه "، كما في فيلم الأمريكي جوس فان سانت الذي حصل من فبل علي سعفة " كان " الذهبية بفيلمه الأثير " فيل " عن مذبحة كولومباين وتصاعد العنف بين الشباب في أمريكا ومعاهدها..
إذ يحكي فيه عن شاب عارض داخل كابينة العرض، يقوم داخل قاعة " بغداد " في ولاية بورتلاند الأمريكية بوضع الفيلم في ماكينة العرض، ومن خلال فتحة في الكابينة، يطل علي تجربة العرض، وتظهر بالفعل أول لقطة في الفيلم علي الشاشة، وهو يتطلع إليها من فتحة الكابينة..
ويظهر في اللقطة بحر صاف رائق في جزيرة / كتلك الجزر في تاهيتي وسيشل التي تخطف روحك بجمالها ، وهو يدعوك من فرط جماله إلي الدخول فورا في المياه لتغطس، وتستمتع باللعب مع الأسماك . لكن فجأة تظهر بنت شقراء يذهب جمالها بالعقل، فتخرج من البحر مثل حورية ، فإذا بذلك الشاب يسارع إلي مغادرة الكابينة، ويخرج إلي القاعة، ثم يصعد إلي خشبة المسرح..
وتدعوه الفتاة من قلب الشاشة إن تعال يا بلبل ، فيدلف مسحورا إلي داخل الشاشة ، ويظهر بعد ان يكون اخترقها، بجوار تلك الحسناء التي يعانقها وتعانقه، وينتهي الفيلم بتوحدهما الشاطر حسن وهيلين طروادة، ويحثنا علي التفكير..
التفكير في أن القيمة الأساسية للسينما يقينا تكمن كما يصور هذا الفيلم في قدرتها علي تشكيل الحلم ولا حلم يشبه حلم السينما كما يقول الشاعر الفرنسي فاليري، كما تكمن قيمتها أيضا في قدرتها من خلال الابتكار والاختراع في ورشة " الإبداع " السينمائي علي تطوير فن السينما من داخله ، ليس بغرض التسلية والإمتاع اللحظي الاستهلاكي علي الفاضي، بل لتكون السينما من خلال الأفكار والمشاعر الإنسانية التي تروج لها بأفلامها ، تكون أداة تفكير في مشاكل عصرنا وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، وهي خلال هذا المنظور، تنظر إلي كل فيلم علي انه فيلم " سياسي " في المحل الأول ، لأنه ومهما كان، يكشف في النهاية عن رؤية ، وموقف من قضايا عصرنا،وعلي اعتبار إن بلدا بلا سينما مثل بيت بلا مرآة..
السينما اكتشاف
وكما فعل شاهين في فيلمه ، واستغله للدعاية لنفسه مثل طفل نزق أخرق ، وكما فعل آموس جيتاي في الدعاية عبر فيلمه لإسرائيل المهددة في كل لحظة كما يقول بقنابل الإرهاب..
يحكي كلود ليلوش في فيلمه القصير عن السينما، فيقول انه شاهد أفلام الأربعينيات والواقعية الشعرية الفرنسية في بطن أمه ، بعدما كان والده أعجب بأمه، وتعقبها من الشارع الي صالة سينما ، شاهدا فيها فيلم لفريد أستير ويغني فيه أغنيته الشهيرة " انا في الجنة " I AM IN HEAVEN فيروح الوالد يرددها علي أمه ويتغزل في محاسنها ، وتكون نتيجة هذا اللقاء أن يتزوج الاثنان بعدما تعرفا علي بعضهما داخل القاعة المظلمة، ومن بعدها يترددان علي ذات القاعة، وقد صار كلود ليلوش جنينا في بطن أمه ، ويتفرج علي الأفلام في صحبتهما، والطريف أن فريد أستير الذي استمع كلود ليلوش الي أغنيته الشهيرة تلك في بطن أمه، هو الذي سلمه جائزة أحسن فيلم أجنبي في حفل توزيع أوسكارات هوليوود الشهير بعدها بسنوات طويلة ، والتي نال فيها كلود ليلوش تلك الجائزة عن فيلمه " رجل وامرأة " وكان قبلها حصد به سعفة " كان " الذهبية كما هو معروف..
وتظهر قيمة السينما ك " معرفة " وتنوير واكتشاف، في فيلم بديع من إخراج الأخوين كوين من أمريكا ، وسبق لهما أيضا الحصول علي سعفة " كان " الذهبية بفيلمهما " بارتون فينك " إذ يصوران راعي بقر أمريكي (كاوبوي ) من تكساس، يظهر بقبعته الشهيرة داخل قاعة عرض في الغرب الأمريكي وسط الصحراء ، ويسأل بسذاجة وحب استطلاع وبراءة ماذا تعرض من أفلام ! كما لوكان أكتشف القاعة في التو في براري أمريكا ويعرف من المسئول عن القاعة إنها تعرض فيلمين : فيلم " قانون اللعبة " LES REGLES DU JEUللفرنسي جان رينوار، الذي يعد أحد أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما ، وفيلم آخر بعنوان" مناخات " CLIMATS لمخرج تركي، فيسأل راعي البقر عن موضوع كل فيلم ، وعما يحكي ، فيبلغه المسئول أن الفيلم الأول يحكي عن علاقات بين أفراد يجتمعون داخل مكان في فرنسا، ويحكي عن عصره وكيف تغيرت العادات والمواقف والقيم ، أما الفيلم الآخر فيحكي تقريبا عن نفس الشيء ، ويعرض أيضا لقصة حب..
فيسأل راعي البقر إن كان هناك حيوانات تظهر في أي من الفيلمين ! ، فيقول المسئول ان هناك أرنبا يظهر في نزهة صيد في فيلم " قانون اللعبة " لجان رينوار! ، ويتردد راعي البقر في اختيار أي فيلم يشاهد ، ثم يختار في النهاية الفيلم التركي ، ويدلف إلي قاعة العرض ، وعندما ينتهي الفيلم يعبر للمسئول في القاعة عن امتنانه وشكره، فقد أعجبه الفيلم التركي كثيرا جدا..
ويكشف هنا الأخوين كوين عن نظرتهما للسينما ، فهي اكتشاف لثقافة وحضارة ، وضرورية لكي نلتقي مع الآخر ونتعرف علي حياته، وهي أشبه ما تكون ب " رحلة سفر" إلي تلك العوالم التي لم نسمع بها من قبل ، فنتواصل من خلالها مع ذواتنا ، ونتصالح من خلال المعرفة السينمائية مع أنفسنا والعالم، ونمد يدا الي الجار، حتي تبدو الحاجة إلي معرفة السينما والتعرف إلي أفلامها ، مثل حاجتنا الي الهواء الذي نستنشقه ، حين تساهم في تشكيل عواطفنا ووجداننا ، مثل قصيدة لطاغور، أو رواية لمحفوظ، او قصة قصيرة لفرانز كافكا..
الغربة في فلسطين
ويبرز أيضا من بين الأفلام فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، ويحكي فيه كما عودنا في أفلامه الروائية الطويلة مثل " يد إلهية " و" وقائع اختفاء " وغيرها عن حاله، لا ليمجد إيليا سليمان السينمائي، ويشيد بموهبته وفنه كما فعل شاهين، بل ليحكي عن ارتباكه وبلبلته وغربته، وكنوع من " الاستبطان الذاتي " وهو من خلال طرح سؤال " الهوية " دوما في أفلامه، حيث تبدأ السينما من طرح ذلك السؤال، ليعمم بشكل أو آخر علي " الوضع الفلسطيني " لشعب محتل ومشرد في بقاع الأرض، ويبدو كما لو كان أنسانا سقط من المريخ في التو، فيروح يسأل من أنا وأين أكون وماذا جري ، وهو بالتالي، ومن خلال هذا " الطرح "، الذي صار وثيق الصلة بفن ايليا سليمان، ويظهر دوما بشخصيته الحقيقية في أفلامه ويمثل أيضا ، فيحيلنا بتمثيله إلي شخصية الممثل الأمريكي الفكاهي بستر كيتون، معاصر شارلي شابلن ، الذي مثل وأخرج أيضا في الأربعينيات، ويظهر مذهولا ومرتبكا دوما في أفلامه ،ولا يضحك أبدا في أي لقطة من الأفلام التي مثلها وأخرجها ، وقد استعان به الأديب صامويل بيكيت ليمثل في احد الأفلام التي أخرجها للسينما، حيث يبدو كما لو كان تجسيدا لمسرح العبث واللامعقول والسقوط في العالم، وبمجرد ظهور ايليا سليمان في أفلامه تحس بأنك في حضرة " بستر كيتون " عربي، ولايجد مايفعله سوي السخرية والتهكم علي نفسه ووضعه وحاله/ مثل جحا ..
وعندما يبدأ الفيلم نجد السيد ايليا " كيتون " سليمان ، نجده ينتظر في احدي قاعات السينما في فلسطين قبل أن تبدأ ندوة يتناقش فيها مع الجمهور، وأثناء الانتظار، لحين الانتهاء من عرض الفيلم يتسلل إلي دورة المياه في القاعة ، ويسقط منه تليفونه المحمول في البالوعة، فينحني ليفتش عنه، وإذا بشخصين يتسللان إلي دورة المياه، فيحسبانه بسبب وضعه المائل والمنحني علي البالوعة شاذ جنسيا ! ويرتبك ايليا حين يكتشف أمرهما ، لكنه يواصل البحث عن تليفونه، وأخيرا يجده وقد تلوث بالبول، وفجأة يرن جرس التليفون، فيقربه من أذنه بحركة عفوية ، ثم يبعده بسرعة حتي لا يوسخ إذنه بالبول ، ويجعلنا نضحك من ارتباكه، ومحاولته التزام الرزانة والجدية ..
ثم يظهر الجمهور في القاعة الذي ينتظر أن تبدأ الندوة، و يسخط و يتململ، اللعنة أين مخرج الفيلم ، وأخيرا وبعد أن طال الانتظار ، يظهر إيليا وهو يجلس علي خشبة مسرح القاعة الي طاولة ، وقبل ان يقدمه مدير الندوة الذي يجلس الي جواره للجمهور، يظهر احد الأشخاص ويهمس في اذنه، فيعلن مدير الندوة في الميكروفون، أن ثمة سيارة خارج القاعة تعوق حركة المرور، وعلي صاحبها ان يسارع بالخروج لإزاحة السيارة المركونة علي الرصيف،..
وفي اللقطة التالية نضحك حين نكتشف ان السيارة المعنية هي سيارة ايليا سليمان، المرتبك دوما كما في جل أفلامه ، وهو ينتقد دوما ايليا سليمان ، ويسخر من نفسه، وقد أراد ايليا بهذا الفيلم " ارتباك " كما يقول في ملف فيلم " لكل سينماه " أراد أن يحكي عن حالة " البارانويا " التي يستشعرها كمخرج، عندما ينتهي من صنع فيلم ما ، وقد أعجبنا فيلم ايليا سليمان كثيرا، فقد كان كما عودنا يحكي دائما عن أشياء وتجارب حياتية واقعية خبرها وعاشها بنفسه، وعاني منها، قبل أن يحمل أفلامه، كما في جل الأفلام النضالية الفلسطينية ، يحملها بالكلام وبالحكم والمواعظ والشعارات والثرثرات الفارغة، ويحكي عن تجربة إنسان " آخر " لم يعشها هو بنفسه ، وقبل أن يطرح اولا السؤال الضروري والوجودي: تري من أكون/ وفي أي زمان نحن نعيش، وأين الأرض والوطن والناس يا ألهي ..؟
يحكي ايليا دوما كفلسطيني عن " غربته " في فيلم " ارتباك " ليحكي في الواقع عن " غربة الفلسطينيين " علي رصيف العالم، وحتي داخل جلودهم ، ويكتفي في الفيلم بالهمس ، ليكون " تحية " الي منجزات السينما الصامتة العظيمة التي لا تحكي الا بالصورة..
كما أعجبنا في " لكل سينماه " من بين الثلاثة وثلاثين فيلما عدة أفلام أخري ، للصيني زانج يومي والبرتغالي ايمانويل دو فييرا والصيني شين كيج، حيث يحكي الأخير مثلا عن تظاهرة الاحتفال بالسينما حين تظهر دار العرض المتنقلة داخل احدي الفري الصينية البعيدة القاصية في الجبال ، فيبتهج الأطفال لحضورها ، ويسارعون للاحتفال بموكبها في فرح ، كما كنا نحتفي نحن الصغار الأشقياء في قلعة الكبش بموكب صعود التاكسيات الي حينا العريق علي طريقتنا، ونحن نصيح هيه هيه هيه ونحثه من أول الدحديرة علي الصعود ،ولا نكف عن الصياح وإزعاج أهل الحي ، وحين كان يصعد احد التاكسيات " الد حديرة " التل الذي شيدت عليه " قطائع " بن طولون الشهيرة في حينا العريق من أعمال السيدة زينب، كنا نسارع نحن الأطفال الأشقياء ونتشعبط في التاكسي، ونصحبه الي وجهته داخل الحي في مظاهرة، كما يفعل الأطفال في الفيلم الصيني ، ونحيي جسارة وشجاعة صاحبه في الصعود إلي ذلك الحي " المخيف " رغم علمه بكم من مرة صعدت تاكسيات ثم اختفت فجأة ..
فقد كان يكفي فقط مجرد لحظة، ينشغل فيها السائق بأمر ما عن تاكسييه، لكي يسرق في لمح البصر.في حين عندما كان يبدأ العرض في ذلك الفيلم الصيني ، يكون الأطفال قد استسلموا للنعاس بعدما هبط الليل، وكانت احدي السيدات القرويات كما في لقطة من الفيلم، أطلقت دجاجة لتطيرها في الهواء ليظهر ظلها علي الشاشة كما في أفلام الفانوس السحري، والجمهور يضحك، ويصفق ويصفر ويصيح.. وأعتبر مشهد تلك القروية التي أطلقت دجاجتها من أجمل مشاهد أفلام " لكل سينماه " ، بل وكل الأفلام التي شاهدتها في المهرجان الكبير، وقد تذكرت مع تلك الدجاجة التي طارت وحلقت في الهواء في ذلك الفيلم الصغير ، اللقطة التي يخبط فيها الإنسان البدائي في عصور ما قبل التاريخ قطعة عظم ، فإذا بها تطير وترتفع في السماء كما في فيلم " أوديسة الفضاء " للأمريكي ستانلي كوبريك، وتصبح أول مركبة صاروخ ينطلق بنا الي القمر، وتظهر بعدها تلك المركبة في الفيلم المذكور وهي تسبح في حلم الفضاء اللانهائي مع موسيقي فالس لشتراوس.. ونكتفي هنا بهذا القدر " الخطف " من حصاد كان " السينمائي الستين.
تميزت دورة مهرجان " كان " الستون، التي عقدت في الفترة من 16 إلي 27 مايو في مدينة " كان " الفرنسية في جنوب فرنسا علي حافة البحر،بتنوع وقوة وديناميكية وحيوية فائقة، فقد احتفل فيها المهرجان بمرور ستين عاما علي تأسيسه، ولم ينظم للاحتفال بتلك المناسبة أفراح وليالي ملاح مكلفة وصاخبة ومن دون لزوم، كما تفعل جل مهرجاناتنا العربية السينمائية " الاستعراضية " التي تهتم بالمنظرة والبهرجة . بل تفتق ذهن إدارته عن فكرة رائعة، الا وهي دعوة 33 مخرجا من أنحاء العالم لصنع فيلم يحكي عن علاقة كل واحد منهم بالسينما من خلال صالة العرض، وبشرط أن لا تتجاوز مدة الفيلم ثلاث دقائق ، وأشرف جيل جاكوب رئيس المهرجان بنفسه علي أنتاج الفيلم والقيام بعمل مونتاجه، حتي يعرض بعد اكتماله في ما بعد علي شكل فيلم طويل في يوم الاحتفال بعيد ميلاد المهرجان، وقد كان. وعرض فيلم CHACUN SON CINEMA " لكل سينماه " بالفعل بمشاركة مخرجين عربيين هما المصري يوسف شاهين، والفلسطيني الشاب إيليا سليمان، وأعتبر هذا الفيلم" لكل سينماه " أيقونة مهرجان كان التاريخية في دورته الستين..
حيث يحكي المخرجان يوسف شاهين وايليا سليمان مع مجموعة من أشهر المخرجين في العالم، وبعضهم حصل علي سعفة كان الذهبية أي أهم وأرفع جائزة في المهرجان في دورات سابقة، ومن ضمن اليوناني أنجلو بولوس والأمريكي جوس فان سانت، والفرنسي كلود ليلوش وآخرون..
يحكون عن السينما، ماذا تعني بالنسبة لهم، وكيف كانت تأثيراتها علي حياتهم، وأعز ذكرياتهم عنها ، والجميل أن الفيلم يبدأ من بلدنا مصر " أم الدنيا " وتحديدا من مدينة الإسكندرية..
حيث يقوم الفرنسي ريمون دوباردون – احد أهم مخرجي الأفلام التسجيلية في فرنسا ، بتصوير دور العرض الصيفية فوق أسطح بيوتات الإسكندرية في فيلمه القصير بعنوان " ليالي الصيف " وهو فيلم من أفلام ال" خطف " كما أحب أن أسميها، التي تحاول الإمساك كما في قصة قصيرة لتشيكوف او موباسان، بتوهج الحياة ذاتها في لحظة، لكنها تشحن هذه اللحظة بكل معاني ودلالات الحياة ، تلك التي تجعل حياتنا جديرة بأن تعاش، ومن دون مط وتطويل وثرثرة فارغة كما في جل أفلامنا المصرية العقيمة الركيكة التافهة..
أي أنها تطرح هنا " خطف "، تطرح فكرة ذلك "الوميض" الخفي، الذي يبرق بحب ومجد الحياة في نهاية النفق المظلم لواقعنا ، وبكل مافيه من تناقضات وأزمات وتشوهات وتلوث وحروب..
وقد نجح دوباردون من خلال فيلمه أن يسرق لحظات من الماضي الذي عاشه في الثغر الجميل وهو يصور حاضر تلك السينمات علي "شط إسكندرية " كما تنشد فيروز في الهواء الطلق، وتلك الحميمية التي ارتبطت في أذهاننا بفكرة السينما او القاعة التي توحدنا مع الأصدقاء والصحاب وتجمعنا من خلال عملية مشاهدة الفيلم الجماعية بالسماء، وآه كم شهدت تلك القاعات من قصص حب وقبلات مختلسة في ظلام القاعة، وتسمعنا فيها إلي تنهدات وآهات وذرف دموع لحبيب..
لكن يبدو أن مخرجنا الكبير يوسف شاهين للأسف لم يفهم المقصود ، فذهب في فيلمه مذهب بعض المخرجين، الذين شاركوا في صنع " لكل سينماه " واستغلوها معه فرصة للحديث عن ذواتهم بشكل نرجسي مقرف ومقيت ومعيب..
حيث يحكي شاهين في فيلمه ، يافرحتي ، عن مجد شاهين وعظمة شاهين، فيظهر لنا في فيلمه القصير بعنوان " بعدها بسبعة وأربعين عاما " في صورة شاب ينتظر في قاعة العرض في كان منذ 47 عاما، ينتظر أن تحضر إليه زوجته، وتخبره إن كانت الصحافة الفرنسية التي تتابع أفلام المهرجان كتبت شيئا عن فيلمه، ويتحسر بالطبع في تلك اللقطة التمثيلية، عندما تخبره زوجته بأنها كتبت فقط أنه سيعرض في برنامج المهرجان بعد فيلم مكسيكي ، ولم تكتب أي شيء آخر عن الفيلم ! ...
وفي اللقطة التالية – لقطة تسجيلية - تظهر النجمة الفرنسية إيزابيل أدجاني ، لتعلن فوز شاهين بجائزة مهرجان " كان " الخمسين لمجمل أعماله التي عبرت عن التسامح، ويظهر شاهين في تلك اللقطة التسجيلية لكي يحيي جمهور القاعة، ويلوح بيديه منتصرا، وقد جعل هذا الفيلم جمهور مهرجان " كان " في دورته الستين يضحك علي شاهين وتخريفه..
كما استغلها المخرج الإسرائيلي آموس جيتاي فرصة هو أيضا، ليقول لنا من خلال فيلمه القصير أن جمهور إسرائيل يعيش كما في أي قاعة للسينما في حيفا او تل أبيب تحت خطر القصف ، حيث يعرض في فيلمه للجمهور الذي ينتظر عرض الفيلم ، حين يصعد ضابط ويعلن أن علي الجمهور مغادرة القاعة ، وقبل أن يهبط من علي خشبة المسرح، إذا بقنبلة تنفجر في القاعة لينتهي ذاك الفيلم الصهيوني السخيف، الذي يروج لفكرة أن إسرائيل ستكون " ضحية " دوما لتفجيرات الإرهابيين الفلسطينيين العرب، وستكون دوما بحاجة إلي دعم وحماية سلامتها وأمنها..
ويتواصل هنا الفيلم الصهيوني مع فكرة الهولوكوست، المحرقة ، التي صارت تجارة تتكسب من ورائها إسرائيل واليهود، ولا يغرب نهار يوم هنا في فرنسا والغرب، إلا ويعرض فيه فيلم تسجيلي او روائي عن " هلاك " اليهود ، وتلك المحرقة، ما ذنبنا ، التي نصبت لهم ، ويجب أن يتذكرها العالم في كل لحظة ، لكي تعيش إسرائيل الدولة العنصرية، علي قفا العالم، وتنشل جيوبه..
كما عرض أيضا ضمن أفلام " لكل سينماه " القصيرة فيلم يصور فيه المخرج الكندي دافيد كروننبيرغ نفسه، وهو يستعد لكونه يهوديا للانتحار، ويحمل الفيلم عنوانا دعائيا مقرفا كما في فيلم آموس جيتاي : " انتحار آخر إنسان يهودي في آخر قاعة للسينما في العالم " ، تصوروا، وفي قلب المهرجان الكبير ويكون بمثابة دعاية فجة مرة أخري لليهود..
في حين توهجت السينما كحب من أول لقطة، وكذلك من أول " نظرة "، وكعناق مع الحياة والأمل والحب في العديد من أفلام " لكل سينماه "، كما في فيلم الأمريكي جوس فان سانت الذي حصل من فبل علي سعفة " كان " الذهبية بفيلمه الأثير " فيل " عن مذبحة كولومباين وتصاعد العنف بين الشباب في أمريكا ومعاهدها..
إذ يحكي فيه عن شاب عارض داخل كابينة العرض، يقوم داخل قاعة " بغداد " في ولاية بورتلاند الأمريكية بوضع الفيلم في ماكينة العرض، ومن خلال فتحة في الكابينة، يطل علي تجربة العرض، وتظهر بالفعل أول لقطة في الفيلم علي الشاشة، وهو يتطلع إليها من فتحة الكابينة..
ويظهر في اللقطة بحر صاف رائق في جزيرة / كتلك الجزر في تاهيتي وسيشل التي تخطف روحك بجمالها ، وهو يدعوك من فرط جماله إلي الدخول فورا في المياه لتغطس، وتستمتع باللعب مع الأسماك . لكن فجأة تظهر بنت شقراء يذهب جمالها بالعقل، فتخرج من البحر مثل حورية ، فإذا بذلك الشاب يسارع إلي مغادرة الكابينة، ويخرج إلي القاعة، ثم يصعد إلي خشبة المسرح..
وتدعوه الفتاة من قلب الشاشة إن تعال يا بلبل ، فيدلف مسحورا إلي داخل الشاشة ، ويظهر بعد ان يكون اخترقها، بجوار تلك الحسناء التي يعانقها وتعانقه، وينتهي الفيلم بتوحدهما الشاطر حسن وهيلين طروادة، ويحثنا علي التفكير..
التفكير في أن القيمة الأساسية للسينما يقينا تكمن كما يصور هذا الفيلم في قدرتها علي تشكيل الحلم ولا حلم يشبه حلم السينما كما يقول الشاعر الفرنسي فاليري، كما تكمن قيمتها أيضا في قدرتها من خلال الابتكار والاختراع في ورشة " الإبداع " السينمائي علي تطوير فن السينما من داخله ، ليس بغرض التسلية والإمتاع اللحظي الاستهلاكي علي الفاضي، بل لتكون السينما من خلال الأفكار والمشاعر الإنسانية التي تروج لها بأفلامها ، تكون أداة تفكير في مشاكل عصرنا وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، وهي خلال هذا المنظور، تنظر إلي كل فيلم علي انه فيلم " سياسي " في المحل الأول ، لأنه ومهما كان، يكشف في النهاية عن رؤية ، وموقف من قضايا عصرنا،وعلي اعتبار إن بلدا بلا سينما مثل بيت بلا مرآة..
السينما اكتشاف
وكما فعل شاهين في فيلمه ، واستغله للدعاية لنفسه مثل طفل نزق أخرق ، وكما فعل آموس جيتاي في الدعاية عبر فيلمه لإسرائيل المهددة في كل لحظة كما يقول بقنابل الإرهاب..
يحكي كلود ليلوش في فيلمه القصير عن السينما، فيقول انه شاهد أفلام الأربعينيات والواقعية الشعرية الفرنسية في بطن أمه ، بعدما كان والده أعجب بأمه، وتعقبها من الشارع الي صالة سينما ، شاهدا فيها فيلم لفريد أستير ويغني فيه أغنيته الشهيرة " انا في الجنة " I AM IN HEAVEN فيروح الوالد يرددها علي أمه ويتغزل في محاسنها ، وتكون نتيجة هذا اللقاء أن يتزوج الاثنان بعدما تعرفا علي بعضهما داخل القاعة المظلمة، ومن بعدها يترددان علي ذات القاعة، وقد صار كلود ليلوش جنينا في بطن أمه ، ويتفرج علي الأفلام في صحبتهما، والطريف أن فريد أستير الذي استمع كلود ليلوش الي أغنيته الشهيرة تلك في بطن أمه، هو الذي سلمه جائزة أحسن فيلم أجنبي في حفل توزيع أوسكارات هوليوود الشهير بعدها بسنوات طويلة ، والتي نال فيها كلود ليلوش تلك الجائزة عن فيلمه " رجل وامرأة " وكان قبلها حصد به سعفة " كان " الذهبية كما هو معروف..
وتظهر قيمة السينما ك " معرفة " وتنوير واكتشاف، في فيلم بديع من إخراج الأخوين كوين من أمريكا ، وسبق لهما أيضا الحصول علي سعفة " كان " الذهبية بفيلمهما " بارتون فينك " إذ يصوران راعي بقر أمريكي (كاوبوي ) من تكساس، يظهر بقبعته الشهيرة داخل قاعة عرض في الغرب الأمريكي وسط الصحراء ، ويسأل بسذاجة وحب استطلاع وبراءة ماذا تعرض من أفلام ! كما لوكان أكتشف القاعة في التو في براري أمريكا ويعرف من المسئول عن القاعة إنها تعرض فيلمين : فيلم " قانون اللعبة " LES REGLES DU JEUللفرنسي جان رينوار، الذي يعد أحد أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما ، وفيلم آخر بعنوان" مناخات " CLIMATS لمخرج تركي، فيسأل راعي البقر عن موضوع كل فيلم ، وعما يحكي ، فيبلغه المسئول أن الفيلم الأول يحكي عن علاقات بين أفراد يجتمعون داخل مكان في فرنسا، ويحكي عن عصره وكيف تغيرت العادات والمواقف والقيم ، أما الفيلم الآخر فيحكي تقريبا عن نفس الشيء ، ويعرض أيضا لقصة حب..
فيسأل راعي البقر إن كان هناك حيوانات تظهر في أي من الفيلمين ! ، فيقول المسئول ان هناك أرنبا يظهر في نزهة صيد في فيلم " قانون اللعبة " لجان رينوار! ، ويتردد راعي البقر في اختيار أي فيلم يشاهد ، ثم يختار في النهاية الفيلم التركي ، ويدلف إلي قاعة العرض ، وعندما ينتهي الفيلم يعبر للمسئول في القاعة عن امتنانه وشكره، فقد أعجبه الفيلم التركي كثيرا جدا..
ويكشف هنا الأخوين كوين عن نظرتهما للسينما ، فهي اكتشاف لثقافة وحضارة ، وضرورية لكي نلتقي مع الآخر ونتعرف علي حياته، وهي أشبه ما تكون ب " رحلة سفر" إلي تلك العوالم التي لم نسمع بها من قبل ، فنتواصل من خلالها مع ذواتنا ، ونتصالح من خلال المعرفة السينمائية مع أنفسنا والعالم، ونمد يدا الي الجار، حتي تبدو الحاجة إلي معرفة السينما والتعرف إلي أفلامها ، مثل حاجتنا الي الهواء الذي نستنشقه ، حين تساهم في تشكيل عواطفنا ووجداننا ، مثل قصيدة لطاغور، أو رواية لمحفوظ، او قصة قصيرة لفرانز كافكا..
الغربة في فلسطين
ويبرز أيضا من بين الأفلام فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، ويحكي فيه كما عودنا في أفلامه الروائية الطويلة مثل " يد إلهية " و" وقائع اختفاء " وغيرها عن حاله، لا ليمجد إيليا سليمان السينمائي، ويشيد بموهبته وفنه كما فعل شاهين، بل ليحكي عن ارتباكه وبلبلته وغربته، وكنوع من " الاستبطان الذاتي " وهو من خلال طرح سؤال " الهوية " دوما في أفلامه، حيث تبدأ السينما من طرح ذلك السؤال، ليعمم بشكل أو آخر علي " الوضع الفلسطيني " لشعب محتل ومشرد في بقاع الأرض، ويبدو كما لو كان أنسانا سقط من المريخ في التو، فيروح يسأل من أنا وأين أكون وماذا جري ، وهو بالتالي، ومن خلال هذا " الطرح "، الذي صار وثيق الصلة بفن ايليا سليمان، ويظهر دوما بشخصيته الحقيقية في أفلامه ويمثل أيضا ، فيحيلنا بتمثيله إلي شخصية الممثل الأمريكي الفكاهي بستر كيتون، معاصر شارلي شابلن ، الذي مثل وأخرج أيضا في الأربعينيات، ويظهر مذهولا ومرتبكا دوما في أفلامه ،ولا يضحك أبدا في أي لقطة من الأفلام التي مثلها وأخرجها ، وقد استعان به الأديب صامويل بيكيت ليمثل في احد الأفلام التي أخرجها للسينما، حيث يبدو كما لو كان تجسيدا لمسرح العبث واللامعقول والسقوط في العالم، وبمجرد ظهور ايليا سليمان في أفلامه تحس بأنك في حضرة " بستر كيتون " عربي، ولايجد مايفعله سوي السخرية والتهكم علي نفسه ووضعه وحاله/ مثل جحا ..
وعندما يبدأ الفيلم نجد السيد ايليا " كيتون " سليمان ، نجده ينتظر في احدي قاعات السينما في فلسطين قبل أن تبدأ ندوة يتناقش فيها مع الجمهور، وأثناء الانتظار، لحين الانتهاء من عرض الفيلم يتسلل إلي دورة المياه في القاعة ، ويسقط منه تليفونه المحمول في البالوعة، فينحني ليفتش عنه، وإذا بشخصين يتسللان إلي دورة المياه، فيحسبانه بسبب وضعه المائل والمنحني علي البالوعة شاذ جنسيا ! ويرتبك ايليا حين يكتشف أمرهما ، لكنه يواصل البحث عن تليفونه، وأخيرا يجده وقد تلوث بالبول، وفجأة يرن جرس التليفون، فيقربه من أذنه بحركة عفوية ، ثم يبعده بسرعة حتي لا يوسخ إذنه بالبول ، ويجعلنا نضحك من ارتباكه، ومحاولته التزام الرزانة والجدية ..
ثم يظهر الجمهور في القاعة الذي ينتظر أن تبدأ الندوة، و يسخط و يتململ، اللعنة أين مخرج الفيلم ، وأخيرا وبعد أن طال الانتظار ، يظهر إيليا وهو يجلس علي خشبة مسرح القاعة الي طاولة ، وقبل ان يقدمه مدير الندوة الذي يجلس الي جواره للجمهور، يظهر احد الأشخاص ويهمس في اذنه، فيعلن مدير الندوة في الميكروفون، أن ثمة سيارة خارج القاعة تعوق حركة المرور، وعلي صاحبها ان يسارع بالخروج لإزاحة السيارة المركونة علي الرصيف،..
وفي اللقطة التالية نضحك حين نكتشف ان السيارة المعنية هي سيارة ايليا سليمان، المرتبك دوما كما في جل أفلامه ، وهو ينتقد دوما ايليا سليمان ، ويسخر من نفسه، وقد أراد ايليا بهذا الفيلم " ارتباك " كما يقول في ملف فيلم " لكل سينماه " أراد أن يحكي عن حالة " البارانويا " التي يستشعرها كمخرج، عندما ينتهي من صنع فيلم ما ، وقد أعجبنا فيلم ايليا سليمان كثيرا، فقد كان كما عودنا يحكي دائما عن أشياء وتجارب حياتية واقعية خبرها وعاشها بنفسه، وعاني منها، قبل أن يحمل أفلامه، كما في جل الأفلام النضالية الفلسطينية ، يحملها بالكلام وبالحكم والمواعظ والشعارات والثرثرات الفارغة، ويحكي عن تجربة إنسان " آخر " لم يعشها هو بنفسه ، وقبل أن يطرح اولا السؤال الضروري والوجودي: تري من أكون/ وفي أي زمان نحن نعيش، وأين الأرض والوطن والناس يا ألهي ..؟
يحكي ايليا دوما كفلسطيني عن " غربته " في فيلم " ارتباك " ليحكي في الواقع عن " غربة الفلسطينيين " علي رصيف العالم، وحتي داخل جلودهم ، ويكتفي في الفيلم بالهمس ، ليكون " تحية " الي منجزات السينما الصامتة العظيمة التي لا تحكي الا بالصورة..
كما أعجبنا في " لكل سينماه " من بين الثلاثة وثلاثين فيلما عدة أفلام أخري ، للصيني زانج يومي والبرتغالي ايمانويل دو فييرا والصيني شين كيج، حيث يحكي الأخير مثلا عن تظاهرة الاحتفال بالسينما حين تظهر دار العرض المتنقلة داخل احدي الفري الصينية البعيدة القاصية في الجبال ، فيبتهج الأطفال لحضورها ، ويسارعون للاحتفال بموكبها في فرح ، كما كنا نحتفي نحن الصغار الأشقياء في قلعة الكبش بموكب صعود التاكسيات الي حينا العريق علي طريقتنا، ونحن نصيح هيه هيه هيه ونحثه من أول الدحديرة علي الصعود ،ولا نكف عن الصياح وإزعاج أهل الحي ، وحين كان يصعد احد التاكسيات " الد حديرة " التل الذي شيدت عليه " قطائع " بن طولون الشهيرة في حينا العريق من أعمال السيدة زينب، كنا نسارع نحن الأطفال الأشقياء ونتشعبط في التاكسي، ونصحبه الي وجهته داخل الحي في مظاهرة، كما يفعل الأطفال في الفيلم الصيني ، ونحيي جسارة وشجاعة صاحبه في الصعود إلي ذلك الحي " المخيف " رغم علمه بكم من مرة صعدت تاكسيات ثم اختفت فجأة ..
فقد كان يكفي فقط مجرد لحظة، ينشغل فيها السائق بأمر ما عن تاكسييه، لكي يسرق في لمح البصر.في حين عندما كان يبدأ العرض في ذلك الفيلم الصيني ، يكون الأطفال قد استسلموا للنعاس بعدما هبط الليل، وكانت احدي السيدات القرويات كما في لقطة من الفيلم، أطلقت دجاجة لتطيرها في الهواء ليظهر ظلها علي الشاشة كما في أفلام الفانوس السحري، والجمهور يضحك، ويصفق ويصفر ويصيح.. وأعتبر مشهد تلك القروية التي أطلقت دجاجتها من أجمل مشاهد أفلام " لكل سينماه " ، بل وكل الأفلام التي شاهدتها في المهرجان الكبير، وقد تذكرت مع تلك الدجاجة التي طارت وحلقت في الهواء في ذلك الفيلم الصغير ، اللقطة التي يخبط فيها الإنسان البدائي في عصور ما قبل التاريخ قطعة عظم ، فإذا بها تطير وترتفع في السماء كما في فيلم " أوديسة الفضاء " للأمريكي ستانلي كوبريك، وتصبح أول مركبة صاروخ ينطلق بنا الي القمر، وتظهر بعدها تلك المركبة في الفيلم المذكور وهي تسبح في حلم الفضاء اللانهائي مع موسيقي فالس لشتراوس.. ونكتفي هنا بهذا القدر " الخطف " من حصاد كان " السينمائي الستين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق