الثلاثاء، أكتوبر 03، 2017

جراند أوتيل قصة قصيرة لحسناء رجب في مختارات سينما إيزيس . إبداع



مختارات سينما إيزيس
إبداع


قصة قصيرة

***

جراد أوتيل بعدسة حسناء رجب

جراند أوتيل ..

قصة قصيرة لـ


حسناء رجب


لا أدري كيف وجدتني في شارع رمسيس، ومنه إلي شارع التوفيقية، أتلاعب بخطواتي الناعسة علي الرصيف، في إحدي المقاهي الأصيلة المقابلة "لجراند أوتيل" وكل ما أشعر به أنني اغرم بالمكان. هناك كان كل شيء يتحسس نبضه القوي والرقيق ، كل شيء عذب، ولكن ليس كما كان دائما ..فوضي وهدير السيارات وزعيق الباعة و إلحاح المتسولين ! كل يريد أن يقاسمك الوقت ، والوقت هو الشيء الوحيد الذي تملكه. عدد غير قليل من رواد المقهي تشعر أنهم أشخاص أصليين لذاتهم ، والذين يخصصون بعض الوقت للشعور بالحياة ، عكس سكان القاهرة الذين يتقلبون في هوة النسيان ، تراهم في كل مرة تماما مثلما كنت قد غادرتهم - عجزة أو مذعورين، ومقيدين بكل ضيق الدنيا، لكن ومع ذلك، قد تلمح أن رواد المقهي في الحقيقة مضجرين قليلا، وعلاوة علي ذلك يمكنك أن تتخيل أنه لا يمكن مشاركتهم سوي التحيات والمجاملات ،في المناسبات فقط، لكن يجب أن نأخذ بعين الأعتبار أيضا أن هذا ربما يكون انطباعي فقط ، وبالتالي فإن هذا كله مقضي عليه بالفناء ..فأنا أصبحت أفقد كثيرا ما تبقي لدي من قرون استشعار للحكم علي الناس، فالوضع ليس بهذه السهولة بالتأكيد ! حزمت أمري أخيرا ..واخترت كرسي بجانب سيدة خمسينية تغض البصر عن الشارع وعن الناس إلا من جريدة تهيمن علي انتباهها تماما وقد تشبثت بمسند الكرسي البوص واليد الأخري بالجريدة ، إني جالسة الآن علي هذه الطاولة ذاتها المشتركة بيني وبين السيدة ، المقاعد كلها انتصبت جنبا إلي جنب بحيث اجتاحت الرصيف، وغرقت حتي الخصر لتشاهد المدينة ..تتفحص حرم التاريخ، ليشرق يوم آخر شاحب، أو مبهج ربما ! حاولت بيني وبين نفسي أن أحلل الأمر من منطلق آخر ، الأمر الذي سيجعلني حتما منزعجة، إذ سيتعين علي كل دقيقة أن أجلس بطريقة ملتوية، لأتحدث مع الصديق المرافق، ولكني ما لبثت أن أدركت أن ذلك بالطبع حجة سخيفة، ومنافية لهارموني المكان ..الشيخوخة قبل الجمال ! بل الشيخوخة هي الجمال ، هرول " الجارسون " بعد أن أيقظني من هذه العشر دقائق ورائي - و لعله ابتسم أو هكذا خيل لي ثم سألني : ماذا تشربين ؟! - شاي لو سمحت؟ ..ولكن لم يكن هذا كل شيء ..أعاد السؤال - شاي فتلة ولا كشري؟ - فتلة ..تمام، إلا أنه زعق من جديد ناظرا في قلب المقهي : " و عندك شاي سوبر لوكس وصلحه"! 
بعد قليل ..دنت السيدة بجانبي من كوب المياه أمامها الذي صعب الوصول إليه..فانداح الماء علي الطاولة بعد اهتزازها، ثم ارتبكت قليلا وهي تجفف الماء بالمناديل الورقية مع الاعتذار بكلمة " باردون" متفادية سقوط الماء علي ملابسي ..- لا داعي للأسف ..سارعت بتجفيف الماء معها في سكون وصمت ..ألقت برأسها للخلف مرة أخري ولم تنقطع عن قراءة جريدتها ..الساعة العاشرة صباحا، والضوء يسطع، وريح ناعمة تهز المظلة الخضراء فوق رأسينا ..ويختلط كل شيء مرة أخري ..الوجوه والأفواه ، الجرسون وملاعق تلبي نداء ذوبان السكر في الشاي . مبنيان يحيطان بك بتناسق وجمال مثاليين ..يشيران بدقة إلي بؤرة هندسية مضبوطة لراحة العين ..والكثير من الهواء هنا ونصف متأملة كل دقيقة للفندق قدامي " جراند أوتيل " ثم أحث ذهني علي التفكير ..إلام يتوق الناس ، وما يحلمون به ؟ ولماذا نتألم بشدة، كأننا خلقنا من جدران زجاجية، لا فولاذية صامدة ، لنار الفراق والغربات الكثيرة ؟! أو ..أو ما هي السعادة ؟ ربما تكون هي تلك السيدة التي بلغت تلك اللحظة لتنسلخ من يوم عصيب وتجلس علي المقهي وهي تمسك بجريدتها وتدخن سيجارتها الرشيقة ثم تفلت منها بعض النظرات من خلف نظاراتها الطبية للناس وللمباني العتيقة ، لجراند أوتيل - ما أبسط هذا كله، كم هو بسيط فعلا وجليل ! سحبت السيدة نفسا عميقا من سيجارتها ، ابتلعت الدخان بنهم تماما كما ابتلعت أنا الماء، 
ثانية واحدة ، اثنان 
ومن ثم سألتني : - " هل أنت مصورة فوتوغرافية"؟! رأيتك تصورين ..

 - صحيح أنا أحب التصوير دون إنقطاع وبشكل سخيف 
ضحكت لكلماتي وأشاحت بيدها في يأس ومرح في الوقت نفسه ، وتابعت - هذا يذكرني طول الوقت، بالمجيء إلي هذا المكان ، بشكل سخيف أيضا! ابتسمت ابتسامة خفيفة ،وابتسمت هي الأخري، وراحت تقلب صفحات الجريدة لأول مرة منذ جلست ..في الواقع الصمت له ألوان مختلفة تسبح في هذا المقهي ..قد يكون أزرقا بلون السماء في هذا اليوم ..أو ذهبيا مثل شعاع الشمس ، أو متطايرا مبعثرا مثل كل الروائح التي أشمها في هذا المكان ..أو بطعم الشاي 
الصمت ! إنه حي مثلي ،ويميل برأسه مثل تلك السيدة، ويزحف مثل بائعة الخضروات والفواكه التي تدلل علي بضاعتها ذات اليمين وذات الشمال ، تغرز عينيها السوداوين في كل وجه تراه ، ويهل عليها زبائن المقهي من الرجال الميسورين الحال وهم يتلهفون على بضاعتها الجيدة والنادرة في غير مواسمها .. ألوانها تفقع العين، ويستحيل أن ترد لها بضاعة ! إنها البائعة الوحيدة ربما التي رأيتها تزعق بصوت مكتوم حتي لا تزعج رواد المقهي ..
وماذا ؟ 
أدرت وجههي، وأطبقت بعيني مرة أخري علي الفندق المرهق شديد الجمال، والذي يقع علي بعد خطوات قليلة ..وإذا ببريق ستائر مخملية زرقاء مضلعة ، ركزت نظري علي الشراشف البيضاء كالثلج ، والملاءات النظيفة بملمس القطن المخملي وهي تتلمس طريقها الى حكايات عشاق كثيرة ! 
ومرة أخري يقرع جرس الغداء، ويمضي الجميع إلي المطعم في قداسة ورقي ..في الأسفل موسيقي لا تخطأ مرماها إلي الوجدان ..هدوء وسكون ، وفي الهواء خيوط رقيقة من عطور تسبح علي مهل ..كل شيء يلتصق بك ..الممرات التي تشق طريقها ،وتنشر وقارها عليك ..الخطوات القصيرة العجولة ورائك ..أحد يلحق بك ، بي ، تري نفسك آنذاك هناك ..وتتذكر علي الفور كيف كنت تعيش هنا ! ..وفجأة ليس هذا سوي حلم

 جارسون : الحساب لو سمحت ؟

ليست هناك تعليقات: