الجمعة، ديسمبر 02، 2016

ابحاث حلقة حال النقد السينمائي في العالم العربي. كلمة الناقد ابراهيم العريس


أبحات حلقة
حال النقد السينمائي في العالم العربي

ورقة الناقد ابراهيم العريس . من لبنان


كلمة الأستاذ إبراهيم العريس

عندما نتكلم عن النقد عموما وعن النقد السينمائي في المشرق العربي خصوصا – أي كما يقترح علي منظمو هذه الندوة – عن أي شيء ترانا نتكلم؟ في الحقيقة انني كثيرا ما أطرح على نفسي هذا السؤال، وربما قبل أن يطرحه عليّ آخرون. فأنا في واحد من وجوهي نشاطاتي الكتابية غالبا ما أُقدّم كناقد سينمائي. لكنني دائما في الوقت الذي أُقدّم فيه أحس بشيء من التوتر، وربما بشيء من اللاجدوى، ولو لثوان فيما أسأل نفسي ما معنى أن أكون ناقدا. وهنا إذ يتوسع المجال تبعا لموضوعي في هذه الندوة أجدني ميالا إلى مساءلة نفسي بشكل فيه شيء من الإستنكار: ما معنى النقد السينمائي في المشرق؟ ومن الواضح أن سؤال المعنى هنا من شأنه أن يشمل جانبي المسألة: ما هي تلك الكتابة التي تسمى النقد؟ ومن هو ذاك الذي يكتبها وبالناتج من هو ذاك الذي تتوجه إليه؟
وإذا كان هذا السؤال المزدوج أو المثلث إذا شئتم يحمل فائدة ما، أجدني مستطردا: هل ثمة إذا نقد وجدوى من هذا النقد؟ هل ثمة تاريخ ما لهذا النقد يتزامن مع تاريخ العرض السينمائي نفسه، وبالتالي مع تاريخ ما يعرض لجمهور الأنواع السينمائية العربية على مدى نحو نصف قرن من الزمن، من منطلق أن مفهوم الفعل النقدي نفسه يفترض وجود فاعلية ما يكون التلقي مجالها؟ بكلمات أبسط: هل لما يسمى النقد السينمائي في المشرق العربي أثر ما في تشكيل ذائقة المتلقين؟ وهل هو وُجد أصلا من أجل هؤلاء ما يفترض أنه يصل اليهم من طريق ما؟
لعلها أسئلة كثيرة ومن النوع الذي لا يمكن لأي جواب قاطع أن يحيط به. ومع هذا سأحاول هنا أن أصيغ ولو تخطيطا أوليا لبعض إجابات هي في عرفي مجرد إقتراحات آمل أن تؤدي إلى نقاشات مثمرة. لكني سأبادر أولا إلى إقتراح قد يجده البعض صادما فيه نوع من التأكيد على أن ليس ثمة في المشرق العربي ما يمكن حقا أن نسميه نقدا سينمائيا بالمعنى
العلمي للكلمة. أو بالأحرى، ليس ثمة ما من شأنه أن يشكل مدرسة نقدية أو عدة مدارس جزئية في هذا المجال، على الأقل بالمعنى الذي يفترض بعض ممارسي "الكتابة عن السينما" وجوده. وها أنتم تلاحظون كيف انتقلت هنا، ودون إنذار مسبق، من الإشارة إلى "النقد" ولو بين معقوفتين، إلى الحديث عما أسميته "الكتابة" عن السينما. وأصارحكم بأن هذا مقصود ويشكل جوهر ما أريد قوله هنا. لأن هذا التعبير يبدو لي أكثر حيادية في الحديث عن مسألة شائكة وغائمة ومليئة بالمطبات والأفخاخ كتلك المقترحة عليّ.
طبعا لن أطيل عليكم هنا في الإسهاب الأكاديمي المعهود حول النقد ومعناه وإشاراته واستراتيجياته وأهدافه وجمهوره المستهدف و...موضوعه قبل أي شيء آخر. لكني سأشير إليه سلبيا وأقول: النقد الحقيقي والعلمي، هو تماما غير ما نجده في كل ذلك "التراث" "النقدي" الذي يمكننا تصفحه في المطبوعات المختلفة وفي الكتب وصفحات الصحف والندوات والمهرجانات. وليعذرني كل أولئك الأصدقاء والزملاء الذين أمضوا عقودا من حياتهم معتقدين أن ما يكتبونه هو "عين النقد" وليعذرني كل أولئك القراء الطيبون الذين إعتقدوا ولا زالوا، أن كل ما يقرأونه، ولا سيما على صفحات الصحف والمجلات وحتى المواقع غير المتخصصة، نقدا سينمائيا. أولئك يكتبون وهؤلاء يقرأون بالتأكيد سطورا وصفحات وربما مطولات عن الأفلام، وتطالعهم آراء وتعليقات حول ما يستجدّ في عالم السينما. وهو كلام يبدو عادة جميلا وأنيقا ومحبذا وحاثا على حب السينما والإمعان في حبها. كلام عن المخرجين وأحيانا عن الممثلين والمنتجين، وبشكل أكثر ندرة، عن المصورين وكتاب السيناريو وما شابه ذلك. ولا سيما لمناسبة عرض فيلم ما أو إقامة عروض معينة أو حضور مهرجان عالمي. وربما بشكل
منتظم. وقد يحدث لهؤلاء إن وفقوا أن يجمعوا ما كتبوه في ملفات أو حتى في كتب يعطونها عناوين فخمة جامعة مانعة تشير الى تبحّر في المعرفة وتعمق في الفهم وفي العلاقة مع الفن السابع. لكننا في الحقيقة، إن قارنّا بين فخامة العنوان وفصاحته، وبين صفحات الكتاب نفسه سنرى البون شاسعا. وكل هذا وكتابنا الرفاق يعتقدون أنهم إنما يكتبون نقدا.
طبعا لا تحاولوا أن تتوقعوا مني أسماء صريحة هنا. فليس هذا ما أرمي إليه. بل إنني لا أتوخى أن أهين أحدا. فأنا مثلا إن قلت عن فلان أنه لا يتقن اللغة الصينية، لن يكون معنى هذا أنني أحاول أن أشتمه أو أن أقلل من شأنه. إنني فقط أوصّف وضعا. فلا يعيب المرء ألا يتقن الصينية إلا حين يكون معتقدا إتقانها دون أن يفعل. وهنا تكمن المشكلة. المشكلة التي قد يكون من الظلم اعتبارها هنا مشكلة أخلاقية. فهي فقط مشكلة نابعة من سوء تفاهم دائم يطلع أساسا من كون الكتابة عن السينما في المشرق العربي أُعطيت منذ البداية إسم نقد في وقت لم يكن أحد عندنا قد حدد بعد ماهية النقد. فكما أن السينما فن جديد دخل الحياة الإجتماعية العربية في أزمان حديثة نسبيا، وأحدث كثيرا من تاريخ ظهور أي فن آخر، وربما أيضا بوصف السينما، أول الأمر على الأقل، مجرد إمتداد تقني للمسرح والرواية، كان من الطبيعي أن تكون الكتابة عنها أول الأمر مجرد امتداد للكتابة عن المسرح والأدب. وهكذا رأينا الصحافيين، ولا سيما منهم "الميالون إلى الكتابة عن المسرح والفنون الإجتماعية" يكونون جمهرة كتّاب السينما على صفحات الصحف وعلى موجات الأثير الإذاعي، قبل أن تتضاءل أهمية المذياع في الحياة الإجتماعية، فينصرفون إلى التعليق على أفلام سينمائية محبذين نجاحاتها الجماهيرية. ولن نظلم هذا النوع من الكتابة إن قلنا أنه كان دائما مجرد متابعة إنطباعية تحاول أن تصف "ما يحدث" في الفيلم لتخلص الى أن تمثيل البطلة فلانة كان مدهشا، وأداء البطل يذكر بكلارك غيبل. مع التعريج في بعض الأحيان على جمال الصورة أو رداءة الصوت أو الضجيج الذ يحدثه المتفرجون في الصالة، أو على "زقزقة اللب" وما شابه ذلك... ونعرف وتعرفون أن هذه الكتابة وسمت أولى المقالات السينمائية لسنوات طويلة قبل أن تتطور نظرة الكتاب إلى الأفلام، وربما أيضا بتطور الأفلام نفسها. أما إذا كان الكاتب تواقا لإعطاء كتاباته طابعا أكثر ثقافية أو جدية، فكان يتوقف مثلا عند "هوليوود من دون رتوش" أو "هوليوود من ثقب الباب" أو " الظلم الذي يحيق بفريد الأطرش لاضطراره، إجتماعيا ولعدم تخييب أمل متفرجاته إلى عدم الزواج لا في الأفلام ولا في الحياة العامة".... أو ما يشبه ذلك.
طبعا قد يكون في هذا شيء من الكاريكاتورية. وقد يكون ثمة كتاب أوغلوا في شيء من الجدية في التعاطي مع النظرة إلى السينما، على خطى شيخنا يحيى حقي في مصر، أو الرائد فريد جبر في لبنان أو صلاح دهني في سوريا، أو الراحل حديثا، يوسف العاني في العراق أو حتى الأديب الضرير عبد الرزاق البصير في الكويت والذي كان ضريرا رغم إسمه وكاتبا عن السينما رغم عماه – وللمناسبة عرف كيف يكتب في الوقت نفسه مقالات جيدة عن أفلام كان يجلس إلى جانبه في الصالات من يصفها له حتى تكتمل كتاباته....
كانوا روادا جيدين في بلدان المشرق ولا سيما مع ترابطهم بما كانت تتطور اليه الأمور في مصر على يد عدد من الرواد ممن كانوا يعملون بصمت في الإسكندرية أو يتحلقون من حول "ندوة الفيلم المختار" في القاهرة أو حتى من حول المركز الكاثوليكي الذي ابتكر التصنيف والنقد الأخلاقيين في المحروسة من حول فريد المزاوي وبات مرجعا في هذا المجال.
ولكن هل كان كل ذلك نقدا؟
على رغم استعدادي لتوجيه الف تحية في اليوم إلى هؤلاء الرواد، وعلى المقلب الآخر الى رواد أكثر تأدلجا واحتفاء بمضمون الأفلام إنطلاقا من مواقع نضالية سياسية. فإن هذا كله لم يكن، أو أنني أنا لن أجد أية مبررات لاعتباره، نقدا.    بهذا المعنى، قد أقول أنه في الوقت الذي كان فيه نقاد السينما ومنظروها وبخاصة في باريس وروما، وإلى حد ما في موسكو ولندن والشاطيء الشرقي الأميركي يمعنون بحثا عن تأسيس تيارات نقدية نظرية إجتماعية للنقد السينمائي، كان التطور في المشرق العربي بطيئا. ولأن لم يكن من وظيفتي هنا، ضمن إطار الحدود التي رُسمت لمداخلتي، أن أُدخل مصر وتطور "الكتابة السينمائية" إلى نقد فيها في سياق حديثي "المشرقيّ" حصريا، فإنني سأشير فقط إلى أن من الصعوبة الفصل بين التطورين: المصري والمشرقي. وبالتحديد لأن الجيل التالي من النقاد، في القاهرة وبيروت ودمشق، كان مختلطا ببعضه البعض أشخاصا وأفكارا واستراتيجيات. أو على الأقل ينطبق هذا الكلام على نحو دزينة أو أكثر من أولئك الذين بدأوا الكتابة السينمائية في أوقات واحدة تقريبا، في وقت كانت فيه صحف ومجلات أكثر جدية – ولكن للأسف أكثر استبدادا إيديولوجيا أيضا – تخلي حيزا متزايدا فيها لما كان قد بدأ يسمى "نقدا سينمائيا" وهذه المرة أتى الكتاب من نوادي السينما والتجمعات اليسارية أو المبادرات الفردية العصامية. وأحيانا من السينما نفسها حيث راح يخوض غمار الكتابة نقاد أرادوا أن يتمرنوا ويزجوا الوقت ريثما تتاح لهم الفرصة للتحول الى مخرجينبين مهن سينمائية أخرى.
صحيح أن ثمة نقادا في مصر درسوا النقد في المعاهد في ذلك الحين وتحديدا في معهد السينما، ولكن في المقابل لم يدرس معظم المشارقة النقد في أي مكان على الإطلاق. أتوا من الصحافة الفنية، من الفهلوة، من الرغبة في الكتابة عن أي شيء والسلام. وأحيانا من شيء من العصامية. ومرة أخرى أرجو منكم أن تعفوني هنا من ذكر الأسماء فهم رفاقنا وأهلنا يحيطون بنا ونحيط بهم. ولكن من الصعب أن يفهموا اننا لسنا هنا لننتقص من قيمتهم وجهودهم الطويلة، بل لكي نوصّف وننصف نوعا كتابيا له خصائصه وحياته التي لا بد من تكرار أنها شيء آخر غير تلك الممارسات الإنطباعية.
وهو أمر فصلته في مقال نشرته قبل أسابيع في صحيفة "الحياة" حيث أكتب ولا أريد أن أزحمكم هنا بالعودة إليه لكني سأختصره في سطور قليلة: فالنقد الذي أعنيه، والذي درسته من ناحيتي في "معهد الفيلم البريطاني" في لندن بداية سبعينات القرن العشرين في ما كان يسمى "الجامعة الحرة، محاضرات جون بلايرز"، يفهم الفيلم كفاعلية إجتماعية تعبر عن نظرة فنان سينمائي إلى مجتمعه، لا عن نظرة جماعية ولا عن واقع خارجي محدد. النقد بالنسبة إلى هذا الفهم هو نوع من "قول على قول" أي تماما كما أن المخرج – المؤلف السينمائي في حالتنا هذا بالمعنى الذي أعاد أقطاب الموجة الجديدة الفرنسية، ولا سيما فرانسوا تروفو وجاك ريفيت... إختراعه تحت مسمى "سياسة المؤلف" – يرسم في فيلمه خطوط نظرته إلى الحياه مستخدما الصورة والصوت والتوليف الحر والتشكيل الجمالي وسيكولوجيا الأفراد والجماعات حتى أحيانا ناهيك بتبحّره في تاريخ الموسيقى والأدب والفن التشكيلي. ومستعينا بحركات الأجساد وتعابير الوجوه بشكل لا يجعل السينما مجرد فن سابع كما نظّر الإيطالي/الفرنسي ريتشيوتو كانودو، بل جامعا للفنون ينطلق منها ويتجاوزها، كذلك فإن النقد – بدون معقوفتين هذه المرة – يكتب عن الفيلم أم عن متن أعمال مخرج ما، أو عن تيار جامع، بشكل يعيد خلق هذه الأعمال كتابةً. فما الذي يفترضه هذا؟ ببساطة يفترض أن النقد هو إبداع على الإبداع وليس وصفا له أو رأيا فيه أو مجرد إنطباع عنه. باختصار شديد: النقد إبداع آخر. لكنه إبداع من نوع شديد الخصوصية يفترض بممارسه أن يكون ملما بكل الأصناف الفنية والفكرية التي تتجمع تحت إسم فيلم سينمائي أو تيار ما أو متن مبدع معين. ومن هنا لئن كانت السينما فنا وصناعة وتجارة في آن معا، فإن النقد فن وعلم في الوقت نفسه، هذا إن تجاوزنا مسألة اللغة الأدبية التي يُفترض أن تكون العمود الفقري للكتابة، لأن الأمر تحصيل حاصل.
والآن إذا كنتم توافقون معي على هذا كله، وآمل أنكم تفعلون! سأتساءل أين هذا مما يكتب في الصحافة المشرقية من نصوص حول السينما؟ أطرح هذا السؤال من دون أن أحاول الدنو مما يكتب في مصر. ولكن مع نظرة إلى التطور اللافت الذي عرفته كتابة النقد السينمائي في المغرب العربي خلال ربع القرن الأخير حيث أن حركة نوادي السينما التي انتشرت كنوع من فاعلية سياسية/نضالية/ جمالية منذ بدايات السبعينات، ناهيك بالقرب الجغرافي والثقافي مع ما كان يحدث في فرنسا على هذا الصعيد، خلقا نقدا سينمائيا تحليليا كان من شأنه أن يكون بالغ الأهمية لولا مشكلة اللغة العربية والتفكير بالفرنسية والترجمة الذهنية منها الى لغتنا العربية الجميلة مع وهن في ابتكار المصطلحات. فالحقيقة – وهذا على هامش كلامي هنا – يدرك من يعرف الفرنسية ويقرأ دراسات نقدية تحليلية مغربية، بشكل دقيق ما يريد أولئك الرفاق قوله وهو عادة كلام جميل وتحليل بالغ الحداثة، غير أن مشكلته تكمن في أن الوهن اللغوي لن يوصل منه شيئا الى قاريء العربية. أما قاريء الفرنسية فليس في حاجة إليه!
فليسامحني رفاقنا المغاربة ولنعد الى سؤالنا الأساسي: ترى هل ثمة شيء من هذا في المتن النقدي "المشرقي"؟ أحيانا نعم لدى البعض,,, لكنه قليل جدا. أما الباقي فهو كتابات صحفية تبدو ممتازة أحيانا. وكان رائدها في لبنان المصري سمير نصري، الذي رغم أن استراتيجية عمله في لبنان كانت تدفعه إلى خوض مهنة الإخراج حيث حقق فيلمين لم يحققا نجاحا كبيرا، إبتكر في الصحافة اللبنانية لونا مميزا من الصحافة السينمائية يقوم على الحوارات "الحدثية" و"المعلوماتية" مع المبدعين وعلى إستعراض أفلامهم، ولكن دائما من منطلق لا يأبه كثيرا بالتحليل الإجتماعي وأقل من ذلك بربط الأعمال بالمتن الإنتاجي لأصحابها. سمير نصري أبدع في مجالاته المفضلة: التعليق والحوار والغوص في وصف ما يشاهد. لكنه لم يترك متنا تحليليا معمقا كذاك الذي يطالعنا لدى الكتاب المغاربة. ولا يعود ذلك الى عجزه عن خوض "التحليل السينمائي" بل إلى نوعية الميدان العملي الذي خاضه. ولكن أيضا الى نوعية الإرتباطات والمصالح الترويجية التي كانت ضمن إستراتيجياته. والحقيقة أن هذا ما أورثه سمير نصري، الذي رحل مأسوفا عليه باكرا، إلى نحو نصف دزينة من صحافيين/نقاد يملأون اليوم الساحة النقدية في لبنان. لكن المشكلة هي أن الجانب الترويجي في عمل سمير نصري – وهو جانب عرف كيف يقيم بينه وبين الجانب الجدي توازنا ما – تحول إلى فعل طاغ لدى الورثة, بحيث أن كثيرا من المقالات التي نقرأها بأقلامهم تبدو ترويجية حتى لدى أكثرهم موهبة. ولا سيما منذ انتشرت المهرجانات السينمائية التي راحت "تستأجر" خدمات "النقاد" محولة كتاباتهم الى سلع ذات ثمن.
طبعا لن أغوص أكثر في هذا السياق لكنني سأعود إلى موضوعي الأساسي لأقول أن الحركة "النقدية" المشرقية تتسم اليوم بنوعين من التوجه: إما النوع الترويجي/المهرجاني، وإما النوع الأيديولوجي الموروث من اهتمامات سينمائية تكونت في بلدان أوروبا الإشتراكية – إقرأ: الستالينية – (كما الحال الغالبة في الكتابات السورية والعراقية بشكل عام حيث لا يزال الغالب يتسم بالبحث في الفيلم عن الرسالة والمعنى والبعد الإجتماعي مع غلبة إهمال الجماليات والإستراتيجيات الإبداعية). غير أن هذا كله لا يمنع كثير من هذه النصوص من أن تتسم بمتعة القراءة وحب السينما والحث على الإهتمام بها. كل هذا صحيح وجميل وصحّي في وقت تعاني فيه السينما ما تعاني. ولكن كل هذه النوايا الطيبة لم تصنع بعد نقدا حقيقيا ولا نقادا متعمقين. ولكن هل ثمة أصلا من هو في حاجة الى هؤلاء وإلى ذاك؟
لست أدري. ومع ذلك فإن هذا يحيلنا إلى المسألة الأخرى: مسألة التلقي التي لن أخوض فيها هنا. فقط أود أن أعيد أمام أسماعكم حكايتي البسيطة عن ذاك المسؤول في مجلة جديدة الذي استدعى ناقدا معروفا عارضا عليه أن يكتب في مجلته مقابل مبلغ شهري لا بأس به وحين سأله الناقد: ماذا تريد مني أن أكتب؟ أجابه: كل شيء إلا النقد فهذا لا يقرأه أحد!
أما في الختام فأود أن أقول لكم كاستطراد للحديث عن مسألة التلقي أنني إذا كنت قد استعرضت هنا أمامكم المسألة النقدية في نحو ألفي كلمة، فإن مسألة التلقي ستحتاج مني إلى ألفي صفحة كي أفيها حقها في موسوعتي النقدية حول "السينما والمجتمع" التي أشتغل عليها حاليا وصدر جزؤها الأول... وأرجو ألا تفهموا من هذا أنني أعمل دعاية لعمل انتجه منذ سنوات وسيستغرق مني شهورا أخرى،
وأشكر لكم إصغاءكم.

ليست هناك تعليقات: