الثلاثاء، سبتمبر 20، 2016

كارثة تدريس تاريخ مصر في مدارسها وتشويه وطن بقلم سامح سامي



مختارات سينما إيزيس

كارثة تدريس تاريخ مصر في مدارسها

التاريخ في المناهج الدراسية : بناء هوية أم تشويه وطن ؟

بقلم

سامح سامي


كتب عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فى خمسينيات القرن الماضى مقدمة لمنهج تاريخ الثانوية العامة قال فيها: «يعرض عليك أستاذك فى درس التاريخ حادثة من حوادث الماضى القريب أو البعيد، فتستقر من هذه الحادثة صورة فى نفسك تألفها وتطمئن إليها، ثم تقرأ كتابا من كتب التاريخ فترى صورة لهذه الحادثة نفسها مخالفة للصورة التى عرضها عليك الأستاذ، فيأخذك شىء من الحيرة بين ما سمعت وما قرأت، لهذا الاختلاف بين صورتين لحادثة واحدة معينة. وقد تقرأ كتابا آخر فترى فيه للحادثة نفسها صورة ثالثة تخالف مخالفة قليلة أو كثيرة للصورتين التى سمعت إحداهما وقرأت الأخرى فى ذلك الكتاب. فتشتد حيرتك وتوشك أن تدفع إلى الشك فى قيمة التاريخ نفسه وأن تسأل نفسك كيف السبيل إلى تعرف الحق الواضح».
ويبدو أن تلك المقدمة من طه حسين هى ما جعلت الدكتور خالد فهمى أستاذ التاريخ بجامعة نيويورك متحسرا على حال المناهج التاريخية فى المدارس قائلا: هل رأيت ما كتبه طه حسين وزير المعارف عام 1952، لم يكتب ذلك للأجانب وإنما كتبه للطلاب المصريين، أى أن هذا الكلام كان ضمن مناهج التعليم المصرية، وأشار إلى أنها مقدمة ثورية من الصعب أن نطالب بتطبيقها الآن فى القرن الواحد والعشرين، وهذا أمر عجيب.
ونخرج من هذه المقدمة وذلك التحسر بعدة أسئلة عن مناهج التاريخ التى تقدم الآن فى المدارس المصرية، وما التغيير الذى حدث فى صياغة المناهج الدراسية ما بين عام 1952والوقت الراهن.
معروف أن التاريخ يحمل إشكاليات عديدة وجدلا واسعا، فالحادثة الواحدة تحتمل أكثر من قراءة مما أوجد اختلافات فى سرد الأحداث التاريخية التى تشكل الأساس لأى مجتمع فلا يمكن أن ننكر أهمية التاريخ فى رسم حاضرنا ومستقبلنا. ولنا أن نعرف أن علم المستقبليات لا يستطيع الوقوف دون دراسة التاريخ،
فسيناريوهات المستقبل التى يضعها العلماء لابد أن تقرأ التاريخ وتهضمه وتضعه فى مقارنة مع الحاضر حتى تخرج لتشكل صورة المستقبل وتنبؤاته.
وبالطبع لا تكتمل الأجوبة على أسئلة هذا التحقيق والتى تتمثل فى الكشف عن خلل مناهج التاريخ الدراسية إلا بالحديث عن المنظومة التعليمية نفسها التى أفقدت الطالب الحث النقدى والتفكير الإبداعى فلا يهم الطالب إلا الحفظ والاستذكار، وهذه قضية أخرى مهمة لا تقل أهمية عن موضوع تحقيقنا ولكن لها موضع آخر، فلا تكفى هذه السطور لمناقشة كل مشاكل التعليم فهى تحتاج إلى صفحات كثيرة،
ولكننا نركز هنا جهودنا فى نقطة واحدة هى التاريخ أو مادة الدراسات الاجتماعية فى المناهج الدراسية فى مراحل التعليم المختلفة من الابتدائية إلى الإعدادية وصولا إلى الثانوية، والتى للحقيقة تتطور عاما بعد عام فتختفى الأخطاء البسيطة، ولكن تبقى الرؤية واحدة لا تتغير.
ولكن السؤال الذى يطرح نفسه لماذا نهتم بالتاريخ الذى يُقدم فى المناهج الدراسية؟ الإجابة ــ حسب رأى الدكتور شريف يونس ــ تكمن فى أن التاريخ هو المقرر الدراسى المختص أكثر من غيره ببناء هوية مشتركة معينة لمواطنى الدولة، باعتباره جزءا من رؤية النظام الحاكم لكيفية صياغة هوية مواطنيه؛ لأنه بطريقة غير مباشرة يضع الفرد داخل انتماء معين ويحدد له «إحداثيات» موقعه فى مسار ما للتاريخ، وبالتالى يمنحه اتجاها ورؤية.
كوارث ومافيا
الدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذة التاريخ بجامعة الزقازيق أكدت أن المناهج الدراسية كارثة حقيقية. وذكرت أنها أثناء إعدادها تقريرا عن مناهج التاريخ، اكتشفت كوارث، فمعظمها يحتوى على أخطاء فادحة، وتعمل على «تطفيش» الطلاب، فضلا عن وجود «مافيا» من التربويين تسيطر على الكتاب المدرسى، ولا تسمح بالتدخل لإصلاح المناهج الدراسية، وإضافة إلى ذلك أنهم جعلوا التاريخ مادة اختيارية يكرهها التلاميذ؛ لأنها مملة وثقيلة فى الوقت نفسه.
ورأت لطيفة سالم أن مشكلة مناهج التاريخ لا تكمن فى المعلومات الخاطئة فقط بل فى إغفال حقبة مهمة من حقب التاريخ المصرى، وهى حقبة التاريخ القبطى فضلا عن وصف مصر كثيرا أنها كانت بيزنطية وهذا غير صحيح؛ لأنها كانت تحت الحكم البيزنطى لا بيزنطية، وكذلك ما تقوله المناهج إن مصر عثمانية رغم أنها كانت تحت الحكم العثمانى لا عثمانية.
وتعانى المناهج أيضا من التركيز على تاريخ السلطة متجاهلة تاريخ البشر أنفسهم، ولذلك أكدت سالم أن المناهج لم تذكر عيوب الحكام أو محاباة بعضهم لطبقة عن طبقة أخرى، فضلا عن افتقاد المناهج لميزة طرح الأسئلة فى موضوعات جدلية وكأن الهدف من التاريخ هو حفظ التواريخ وأسباب الأحداث فقط لا التفكير فيها ومن ثم لا يخرج الطالب من ذلك بدروس مستفادة لحاضره ومستقبله.
أما المدارس الأجنبية فى مصر من وجهة نظر سالم فهى تدّرس معلومات خاطئة عن تاريخ مصر فضلا عن أن تلك المدارس تركز كل طاقتها فى دراسة تاريخ الشعوب الأخرى وتهمل تاريخ مصر. وترجع سالم السبب فى ذلك إلى أن واضعى المناهج لا يعرفون ماذا يريدون فلا خطة ولا استراتيجية واضحة فى صياغة وترتيب المناهج.
أين الاستراتيجية؟!
نفس الرأى أكده الدكتور محمد عفيفى رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة حيث رأى أن من ينظر إلى المناهج الدراسية يجدها عشوائية غير محددة الهدف، فلا توجد استراتيجية واضحة للمناهج. ورأى عفيفى أن تلك المناهج كارثية، مضيفا أنه نال أسوأ الدرجات فى مادة التاريخ فى المرحلة الثانوية العامة وهو الآن أستاذا للتاريخ، ويرجع ذلك لأن ما يقدم فى مناهج التاريخ ممل ويكّره الطالب فيما يدرسه.
وأضاف عفيفى أن المناهج التاريخية مليئة بالمعلومات الخاطئة والمشوهة، ففى كتاب التاريخ للمرحلة الابتدائية ــ يقصد منهج مادة الدراسات الاجتماعية للصف الخامس الابتدائى والذى تغير هذا العام وتم حذف هذه الأخطاء منه ــ وجد صورة لأحمد مظهر على أنه «صلاح الدين الأيوبى»، أى أن كاتب المنهج اعتمد على الفيلم لا على الكتابات التاريخية. ورأى عفيفى أن المناهج تصور مثلا التاريخ الإسلامى وكأنه فقط هو الحروب والسيوف و«الوشوش المكشرة» بالإضافة إلى الحشو الزائد على الحد وكأن الهدف من دراسة التاريخ حفظ التواريخ فقط لا معرفة مغزى دراسة التاريخ.
مقدمة ثورية
أما الدكتور خالد فهمى فرأى أن مقدمة طه حسين المذكورة سابقا تجىء من أستاذ أدب لا مؤرخ، وهى مقدمة ثورية كأنه ينبهنا إلى السؤال البديهى: ما مدى جدوى التخصص فى كتابة التاريخ؟ موضحا أنه كان يريد تحطيم الحدود بين التخصصات وأن جزءا من التاريخ هو سرد أدبى. وتوقف كثيرا خالد فهمى أمام مقدمة طه حسين والتى رأها فهمى بداية لحث الطلاب على التفكير النقدى أى إعمال لعقل فى كيفية الكتابة التاريخية مما يعنى تشكيل تيار بالغ الخطورة على النظام السياسى؛ لأنه ببساطة يرى أن النصوص التاريخية غير مقدسة وبالتالى فأية رواية تعرض عليه معرضة للتفكير والشك فيها.
وشدد خالد فهمى أن الكتابة التاريخية فى العالم كله تعانى من المحافظة الشديدة وهذا راجع لعدة أسباب أهمها أن التاريخ هو الذى يشكل هوية المجتمعات ويحفاظ على توازنها لذلك يجب أن يحيط بالتاريخ تيارات المحافظين، وهذا فى العالم كله لا مصر فقط، ولكن الأمل يجىء أن مقدمة طه حسين تم تدريسها فى مصر عام 1952 أى من الممكن تدريسها مرة أخرى، ولكنه تحدٍ كبير.
وتساءل فهمى لماذا نصف مقدمة طه حسين بالثورية؟ فأجاب لأنها تحث الطلاب على التشكيك فى الأحداث التاريخية؛ لأن من يكتب التاريخ هو إنسان لا يملك الحقيقة المطلقة كما أنه يميل بدون قصد إلى روايات ويتحمس لها ويترك أخرى فهو فى النهاية بشر أما الفيصل فى القراءة فهو القارئ نفسه أى الطالب. وأكد فهمى أن التعليم بهذا الأسلوب هو بداية ممارسة الديمقراطية، لأن وقتها سيكون الطالب قادرا على طرح الأسئلة والتشكيك فى الروايات المقدمة له وإعمال عقله ومن ثم سيطرح أسئلة عميقة ترتبط بشكل من الأشكال بالسياسة التى من شأنها زعزعة الأنظمة السياسية.
المشكلة فى الذهنية
«المشكلة ليست فى المعلومات بل فى ذهنية واضعى المناهج التى تعمل على تشويه الإنسان وهويته».. هكذا لخص الدكتور شريف يونس أستاذ التاريخ بجامعة حلوان المشكلة قائلا: «إن النظام الحاكم هو الذى يضع مناهج التاريخ ويشرف على تدريسها. وبالتالى لا تعكس هذه المناهج بالضرورة الرؤى الاجتماعية السائدة، خاصة فى مسألة الهوية، بقدر ما تعكس استراتيجية نظام الحكم إزاءها.
والدولة الحديثة بصفة عامة، فى مصر وفى غير مصر، حريصة دائما على تدعيم هوية موحدة لسكانها بأدوات عديدة، على رأسها التعليم العام، ولكنها تشمل أيضا التجنيد والتحكم الإدارى المركزى وإدماج الثقافات الفرعية (توطين البدو، و«تمدين» الفلاحين).
وكان قد كتب د.شريف دارسة تحت عنوان «رؤية التاريخ وتحديات المستقبل دراسة فى قضية الهوية فى مناهج التاريخ المصرية وأبعادها»، قال فيها إنه بالنسبة للتاريخ القديم، تتناول المرحلة الإعدادية التاريخ الفرعونى أساسا، وما يمكن أن نسميه تذييلا أو ملحقا للعصرين البطلمى والرومانى، ويأتى تناول المرحلة القبطية ضمن هذا التاريخ الأخير. وفى المرحلة الثانوية يتسع النطاق قليلا ليشمل حضارات الشام والعراق القديمة، بحجم أقل. أما التاريخ الحديث فيتركز، سواء فى المرحلة الإعدادية أو الثانوية، على دراسة مصر، ثم العالم العربى والقضايا العربية، خصوصا قضية فلسطين.
على هذا النحو تستبعد المناهج أصلا تاريخ آسيا وأفريقيا وأوروبا والأمريكتين، سواء فى العصر القديم أو الوسيط أو الحديث (باستثناء فصل عن انتشار الإسلام فى مناطق أخرى فى منهج الثانوية العامة). ولم تستبق من الحضارات الأخرى سوى تناول سريع للحضارتين الإغريقية والرومانية فى دروس تسبق مباشرة دراسة تاريخ مصر فى العصرين البطلمى والرومانى، أى كنوع من التمهيد لتاريخ مصر فى حقبة معينة.
وهذا يعنى، فى وجهة نظر د. شريف يونس ــ الذى رجع فى ورقته الدراسية إلى كتب وزارة التربية والتعليم لمادة «الدراسات الاجتماعية» لعام 2008 ــ 2009، للصفوف الإعدادية، بواقع كتابين لكل صف دراسى (للفصل الدراسى الأول والفصل الدراسى الثانى)، عدا الصف الثانى الإعدادى، حيث توفرت له طبعة 2007 ــ 2008. ومن هذه الكتب: «مصر وحضارات العالم القديم» للصف الأول الثانوى، و«الحضارة الإسلامية وتاريخ العرب الحديث» للثانوية العامة ــ أن هذا التاريخ المطروح للحفظ على التلاميذ ليست له أية رؤية، سلبية أو إيجابية، أية رؤية من أى نوع، فقيرة أو غنية.
وأشار يونس إلى أنه بالنسبة لتاريخ العالم، فالمنهج متقوقع بالكامل على الذات، قرر بنفسه أن يفقأ عينيه وعيون ضحاياه من التلاميذ، مضيفا أن هذا الطابع المحلى الضيق لا نستطيع أن نفهم مغزاه بغير ملاحظة ما يرافقه من فخر متواصل بالذات وإدانة موازية للغير. فالغرض كما تشير معظم دروس التاريخ فى المرحلة الإعدادية هو الاعتزاز بتاريخ مصر.
وفى هذا الصدد يقرر مؤلفو كتاب الصف الأول الثانوى عن مصر وحضارات العالم القديم أن الهدف منه أن يلمس الطالب: «مدى عظمة أجدادك المصريين القدماء»، وتذكيره بأنه «مسئول عن مواصلة أعمال أجدادك العظيمة حتى تكون جديرا بالانتساب إليهم». وعليه أيضا أن يحافظ على تراثهم فى انعزال كامل عن العالم ومؤثراته على مدى القرون.
وأكد يونس أنه أول ما يتبدى فى كتب التاريخ إلغاء تاريخ أوروبا الحديث من المناهج، ولو كمدخل إلى دراسة التاريخ المصرى والعربى الحديث، أسوة بالنبذتين عن التاريخ الرومانى والإغريقى (قبل تاريخ مصر فى عصر البطالمة ومصر فى العصر الرومانى)، على الأقل باعتبار ما للاستعمار من تأثير كبير على مجريات هذا التاريخ، وما للحداثة التى نشأت فى أوروبا من تأثير متشعب ومستمر عليه حتى وقتنا هذا.
وذكر شريف أنه كان قد درس هذا التاريخ حين كان تلميذا، بما يدل على أن تصور التاريخ الذى تقدمه المناهج يميل إلى مزيد من التقوقع على الذات، ودفن الرءوس فى الرمال.
ولكن المناهج الحديثة لا تستبعد فقط تاريخ الحداثة الأوروبية والأمريكية واليابانية المتقدمة حاليا، كما أكد يونس وإنما تستبعد تاريخ الشعوب المستعمرة الأخرى، وذلك للتركيز فقط على الذات الجريحة كما كانت منفردة فى عظمتها أيضا من قبل.
ولاحظ يونس أن مناهج التاريخ تحتفى بفتوحات «الذات» المقدسة المحلية، حيث يفتخر كتاب الثانوية العامة بأحدث إمبراطورية مصرية، تلك التى بُنيت فى السودان فى عهد محمد على وإسماعيل، ويبررها بمنطق استعمارى معروف، هو، بنص كتاب الثانوية: «المجال الحيوى» لمصر، حيث تقوم سياسة مصر فى عهد محمد على وبعده على «الموقع والمجال الحيوى والرابطة العربية فى مواجهة الرابطة العثمانية» وتتعلق أهداف التوسع فى السودان «جميعا بفكرة المجال الحيوى لمصر والامتداد الطبيعى لها من ناحية الجنوب».
وأكد يونس أن المناهج تقرر أن مصر لها «حقوق» فى السودان، تبيح لها التوسع، أما بريطانيا فلا. ولا يذكر الكتاب شيئا عن معاناة السودانيين تحت الحكم المصرى، ولا بالطبع ثورة المهدى ضد الحكم المصرى فى السودان فى 1881. وغنى عن البيان أن الشام، حين احتلها محمد على كانت فى رأى المقرر «تمثل بدورها المجال الحيوى الشمالى، فقام محمد على بالإجراءات المناسبة لتوطيد الأمن وفرض النظام وإقرار سلطة الحكومة المركزية فى مصر (على الشام) وإخضاع الأمراء الإقطاعيين ونزع السلاح منهم، وتنشيط التجارة والزراعة وفرض نظام التجنيد»، وهو ما لا يختلف كثيرا عما ذكره اللورد كرومر فى كتابه مصر الحديثة مشيدا بأيادى الاستعمار البريطانى البيضاء على مصر، بل أسوأ فى الواقع.
وعن مجمل المناهج الدراسية قال يونس إنها مناهج جبانة، تحرص أولا وأخيرا على عدم إثارة أية قضايا، وتجنب كل المشكلات التاريخية والصراعات والمنعطفات. ولعل الأكثر طرافة، أو مأسوية، فى هذا الصدد هو ما يقدمه منهج ثانوية عامة عن ثورة يوليو وما بعدها: فهو يذكر تمصير الشركات والمصالح الأجنبية باعتباره عملا وطنيا، ولكن لا ترد به كلمة واحدة عن التأميمات أو الميثاق أو شعار الاشتراكية. وبالمثل يتم اختصار عصر السادات فى إصدار الدستور الدائم وحرب أكتوبر، بغير أية إشارة إلى «ثورة التصحيح» فى 1971، ولا الانفتاح، ولا اغتيال السادات.
ورأى يونس أن السكوت عن هذه المسائل، الذى يرقى إلى مرتبة التزوير، يهدف إلى تقديم تاريخ ما يُعرف بثورة يوليو كتاريخ «هادئ»، لطيف، يخلو من الصراع والمنعطفات، أو بعبارة أخرى، تسويته بـ»وابور زلط» ثقيل. والتتمة المنطقية بالطبع هى تقديم عهد مبارك كـ»امتداد طبيعى لعصر ثورة يوليو فلقد تم تبنى مبادئ الثورة الستة وتحقيقها بأكملها فى عهده» كتتويج لتاريخ مسطح أبكم مقطوع اللسان والحنجرة لتربية تلميذ أو طالب مقطوع الأذن منزوع العقل.
وبنفس منهج دفن رءوس التلاميذ فى الرمال يستبعد التاريخ الحديث جميع الخلافات العربية، ولا يأتى على ذكر، مجرد ذكر، أى من التيارات السياسية العربية الأساسية، الوهابية أو حتى البعثية، برغم أنه يحتفى بـ«القومية العربية». وبالطبع لا توجد أية إشارة إلى الصراعات العربية المريرة فى الخمسينيات والستينيات التى اصطلح المؤرخون على تسميتها «الحرب العربية الباردة». وهكذا يقدم المنهج عروبة صافية نقية من الصراعات ومصفَّاة من أى تاريخ حقيقى، لا سند لها سوى الجهل ولا هدف سوى التجهيل، بما يحرم الطلاب من أى فهم لطبيعة المنطقة، سواء اعتبرناها انتماء أو اعتبرناها «مجالا حيويا» على الطريقة الاستعمارية.
تاريخ رسمى فقط
د.ناصر على محمد خبير مناهج الحاصل على دكتوراه مناهج وطرق تدريس التاريخ أكد أنه لاحظ أن مناهج التاريخ تقدم التاريخ الرسمى فضلا عن أنه تاريخ أحادى لا يقدم كل وجهات النظر المختلفة، ورأى أن الاختلاف يجىء من أن واضعى المناهج يعتمدون على كتابات المؤرخين ومن ثم يختارون الحادثة التاريخية الأقرب للصحة وهذا عيب لا ميزة إذ لابد أن يتم عرض كل وجهات النظر وعلى الطالب أن يجتهد ليأخذ بالواقعة الأقرب إلى عقله.
وأشار ناصر إلى أن ذلك صعب تنفيذه فى ظل المنظومة التعليمية الحالية التى لا تجعل الطالب يفكر أو يبدع بل عليه أن يحفظ فقط، خاصة وأن السؤال عن الدروس المستفادة أو إبداء رأى الطالب فقد اختفى من أسئلة الامتحانات فى كل المراحل التعليمية ولا نجدها إلا فيما ندر.
- 2-
اليومفنعرض لأهم التقارير التى كتبها أساتذة التاريخ حول مناهج التاريخ الدراسية، ولكن يجب أن نشير إلى أن هذه التقارير كُتبت فى عام 2007 أى منذ سنتين تقريبا.
وكما ذكرنا الأخطاء البسيطة يمكن أن تختفى ولكن الرؤية ومستوى المناهج نفسها تبقى كما هى، خاصة أن هناك سؤالا يطرح نفسه: ما ذنب تلاميذ السنة الدراسية 2006 ــ 2007، وكيف نصحح لهم ما درسوه خطأ فى المناهج التى بها أخطاء فى المعلومات وطريقة العرض ومن ثم الرؤية ككل؟!. وفى السطور التالية نعرض لهذه التقارير.
تشويه عقول
نبدأ بتقرير الدكتور القدير الراحل يونان لبيب رزق أستاذ التاريخ الحديث ومقرر لجنة مركز الدراسات التاريخية بدار الشروق الذى أكد أنه لو كان المقصود تشويه عقلية طلاب الإعدادية وإضعاف روح الانتماء الوطنى لديهم لما وجدنا أفضل من هذا العمل الذى بين أيدينا.
وكان يقصد بهذا «العمل الذى بين أيدينا» كتاب الدراسات الاجتماعية للصف الثالث الإعدادى والذى يحمل عنوان «جغرافية العالم ودراسات فى تاريخ مصر الحديث»، والذى رأى فيه د. يونان لبيب أنه «بعد مراجعة القسم التاريخى من هذا الكتاب خرجنا بنتيجة مفادها أن ما يتضمنه أقرب إلى قشور فى الدراسات التاريخية لمرحلة غاية فى الأهمية بالنسبة للتاريخ المصرى، فلم تزد صفحات القسم الخاص بالثورة العرابية، وكان أفضل لو سميت الثورة المصرية، ثم مقاومة الاحتلال وحتى قيام الثورة المصرية الثانية (1882 ــ 1919) والتى تصل إلى 37 سنة من أغنى فترات التاريخ المصرى عن 13 صفحة، وليس فيه أية نظرة جديدة يمكن أن تقوى روح الانتماء، هذا فضلا عن المعلومات المغلوطة».
وحاول د. يونان تفنيد ذلك المنهج فقال إن القسم الثانى الذى تناول الفترة بين ثورتى 1919 و1952 تم تقديمها فى عشر صفحات فحسب، وتم تجاهل الفترة بين المعاهدة وقيام ثورة 1952.
وكان من الطبيعى مع ذلك ألا يكون للطلاب علم بملك اسمه فاروق مما نتبينه بمناسبة عرض المسلسل العربى عن هذا الملك إلى الحد الذى يمكن القول معه كأن المقصود من الكتاب «تجهيل طلاب الإعدادية بتاريخهم الوطنى»، وأضاف أن القسم الثالث فقد جاء تحت عنوان «مصر منذ ثورة يوليو 1952» وتناول موضوعات متناثرة مؤكدا أنه باختصار لو كان المقصود تشويه عقول الطلاب لما وجدنا أفضل من هذا المنهج.
مصطلحات مغلوطة
وعن المادة الدراسية نفسها والخاصة بتاريخ الصف الثالث الإعدادى ولكن فى الفصل الدراسى الأول منها كتبت الدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذة التاريخ بجامعة بنها قائلة: «يقع الكتاب فى 120 صفحة، وينقسم إلى قسمين: الأول يشمل ثلاث وحدات ويخص الجغرافية، والثانى يتضمن وحدتين للتاريخ، وبينما الأول يشغل 72 صفحة، يشغل الثانى 41 صفحة وبذلك يتبين أن حجم القسم التاريخى أقل من زميله الجغرافى، رغم أن الخرائط والصور تكاد تكون متساوية، وإن وجد هامش لصالح الجغرافية».
وذكرت د. لطيفة سالم أن القسم التاريخى يبدأ من دخول مصر فى حوزة الدولة العثمانية إلى التدخل الأجنبى وعزل الخديو إسماعيل، ثم سألت د.لطيفة: هل هناك تكملة فى الفصل الدراسى الثانى؟ وذلك لأن المطروح أغفل موضوعات مهمة للغاية، تعبر عن نضال المصريين الوطنى وتتمثل فى: الثورة العرابية ــ الاحتلال البريطانى ثم ما يتعلق بالتاريخ المعاصر: صورة 1919 ــ مصر الملكية ــ أحوال مصر فى نهاية العصر الملكى ــ قيام ثورة 23 يوليو وإنجازاتها ــ مصر ما بين عبدالناصر ومبارك.
ويتبين من تقرير الدكتور يونان لبيب رزق أن الإجابة عن سؤال الدكتور لطيفة سالم هو النفى إذ ما يقدمه المنهج فى الفصل الدراسى الثانى هو قشور.
ولا يتوقف تقرير د. لطيفة عند ذلك فقط بل أكدت أنه من اللافت للنظر أن غلاف الكتاب يحمل صور سعد زغلول وأحمد عرابى (المفروض أن عرابى قبل سعد زغلول كما ذكرت لطيفة سالم) ومحمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات دون الإشارة إليهم بالداخل، وصورة محمد على هى الوحيدة التى جاء ذكر صاحبها بالداخل وهناك خلط فيها أيضا أى فى الصور الداخلية.
كما أن المنهج فى هذه المرحلة التعليمية يضم مصطلحات يجب التخلص عنها، كما أشارت د. لطيفة، مثل: الفتح العثمانى موضحة أن الواقع أنه ضم أو استيلاء وليس فتحا، فضلا عن القسطنطينية ويشير إليها باعتبارها عاصمة الدولة العثمانية بدلا من الاستانة أو استانبول، والاسم الأول هو الذى تستخدمه المراجع الأجنبية وله مدلول خاص لدى الأوروبيين، ويشير إلى الدولة العثمانية على أنها تركيا، فى حين أن الأخيرة هى مدلول جغرافى غير متطابق مع الدولة العثمانية.
إهمال جسيم
ويبقى تقرير آخر عن المرحلة الإعدادية كتبه الدكتور حمادة محمود إسماعيل أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر وعميد كلية الآداب بجامعة بنها، ويخص كتاب الدراسات الاجتماعية للصف الثانى الإعدادى والذى لا يختلفان كثيرا عن سابقه إذ أكد الدكتور حمادة أن الكتاب ــ والذى يتناول حياة العرب قبل الإسلام ثم البعثة النبوية وقيام الدولة الإسلامية فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصولا إلى الفتوحات الإسلامية فى عصر الخلفاء الراشدين وعصر الأيوبيين والعباسيين ــ يكاد ينعدم فيه الجانب الحضارى وهو أحد الجوانب المضيئة فى الحضارة الإسلامية والتى أفاضت كثيرا على الحضارات الأخرى خاصة أنها حضارة كان لها طبيعة خاصة فى التسامح الدينى وطابعها المعمارى الخاص هذا فضلا عن طبيعتها العلمية المتميزة.
ولا يكتفى الدكتور حمادة إسماعيل بذلك بل أشار إلى أن هناك بعض الموضوعات اقتحمت عمدا إلى الكتاب مثل «الوحدة الوطنية ومحاربة التطرف بجميع أشكاله»، وهى قضايا يراها د. إسماعيل موجودة أساسا فى تراث الحضارة الإسلامية. وأضاف د. حمادة أن الكتاب أهمل الدول المستقلة فى مصر فى العصور الإسلامية: الإخشدية، والطولونية، والفاطيمة، والأيوبية، ودولة المماليك والتى جعلت لمصر شخصية خاصة وسط العالم الإسلامى خاصة أن مصر تصدت للغزو المغولى فالصليبى.
ولا يمكن أن نغفل كتاب الصف الأول الإعدادى الذى أهمل إهمالا جسيما نظام الحكم فى مصر القديمة، والفكر السياسى المرتبط بهذا النظام حتى ولو فى صفحات قليلة، كما أنه تناول فى سطرين فقط (صفحة 69) المشروع المصرى فى فترة تحتمس الثالث فى بلاد سوريا والعراق، فضلا عن أن الكم المطروح فى الكتاب عن تاريخ مصر القديم لا يكفى مطلقا لتفهم الطالب تاريخ وطنه وعلاقته مع حضارات الجوار وحضارات العالم.
دلالات غريبة
أما الدكتور محمد عفيفى رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة فقرأ مادة التاريخ المقررة على الصف الخامس الابتدائى والتى تندرج تحت اسم «بيئات وشخصيات مصرية» ليكتشف أنه يوجد عدم تساوى بين عدد الصفحات المتاحة للتاريخ «شخصيات» وعدد الصفحات المتاحة للجغرافيا «بيئات».
بالإضافة إلى سوء اختيار الصور التى ترسخ دلالات غريبة فى ذهن الطفل. فعلى سبيل المثال، لاحظ الدكتور عفيفى كثرة «السيوف» فى الصور، فضلا عن صور المحاربين، مما يعطى انطباعا سيئا بانتشار الإسلام فى مصر بحد السيف (مثال ذلك صفحة 20). ورأى عفيفى أنه كان من الأفضل وضع لوحات تبرز تسامح وحضارة الإسلام.
ولم يخطأ المنهج فى ذلك فقط بل وقع فى أخطاء منهجية صارخة ترسخ فى ذهن الطفل مفاهيم سيئة ذكرها د. عفيفى فى تقريره ومنها على سبيل المثال ما ذكره المنهج فى صفحة 20 «كان الأقباط المصريون على مذهب مخالف لمذهب الدولة البيزنطية»، وتعليقا منه قال عفيفى إن المنهج فى هذه النقطة لا يفرق بين معنى قبطى ومسيحى ويحمل معنى قبطى أبعادا أخرى وكأن هناك أقباطا غير مصريين مع أن كلمة قبطى تعنى مصرى، وفى النهاية يرسخ فى ذهن الطالب معنى أن هناك أقباطا غير مصريين، مما يتعارض مع مفهوم القومية المصرية والوحدة الوطنية.
وفى نهاية تقريره العلمى أكد د.عفيفى أن الكتاب يرسخ قصصا وأساطير لا مكان لها فى التاريخ، بل ويرجع فى اثبات ذلك إلى أفلام سينمائية، فالكتاب يذكر أن «ريتشارد قلب الأسد» عندما أصيب بسهم مسموم وفشل فى علاجه أطباؤه، زاره صلاح الدين وأشرف على علاجه بنفسه حتى شفى، وهو ما لا تذكره كتب التاريخ ولكن مؤلف الكتاب الدراسى اعتمد على فيلم الناصر صلاح الدين حسب تأكيد د.محمد عفيفى.
فجوة معيبة
ونجىء للمرحلة الثانوية وتقرير الدكتور أحمد زكريا الشلق الذى قال فيه إنه رغم أن مقرر التاريخ فى الثانوية العامة يُفترض أن له أهمية خاصة بوصفه ختام المرحلة التعليمية قبل الجامعة وآخر مقرر يدرسه الطلبة قبل توجههم لتخصصات مختلفة إلا أنه بإلقاء نظرة على هذا المقرر نجد أن الكتاب يضم تاريخا للحضارة الإسلامية ثم ينتقل فجأة إلى دراسة التاريخ السياسى لمصر وعلاقتها بالعالم العربى.
ويعتبر هذا من وجهة نظر د. زكريا الشلق خلطا واضحا بالمنهج من تاريخ حضارى لعصر تاريخى إلى تاريخ سياسى لعصر آخر. وأشار إلى أنه رغم أن عنوان الكتاب «تاريخ العرب الحديث» إلا أنه ينصب على تاريخ مصر الحديث والمعاصر بشكل أساسى إذ يبلغ خمسة فصول من سبعة.
فضلا عن أن مؤلفى الكتاب لم يكتبون شيئا عن العالم العربى ومصر تحت الحكم العثمانى فتجاهلوا تاريخ ثلاثة قرون كاملة من السادس عشر حتى الثامن عشر، وهذا يشكل فجوة معيبة. وأكمل د. الشلق قائلا: «عصر محمد على طويل جدا لغير ضرورة ثم قفزة هائلة إلى عصر إسماعيل دون كتابة شىء عن عهدى عباس الأول وسعيد كما أن تاريخ إسماعيل مذكور فى صفحتين ونصف الصفحة، كما لم يسجل الكتاب شيئا عن التجربة الحزبية الثانية فى مصر (1919 ــ 1953)، رغم أنه سجل تاريخ التجربة الأولى (1907 ــ 1914) فضلا عن أن الكتاب لم يسجل شيئا عن محمد عبده أو أحمد لطفى السيد وكذلك محمد نجيب كأول رئيس للجمهورية وما تم إنجازه فى عهده».
وأوضح د. الشلق فى تقريره أنه كان من الممكن أن يكون الكتاب كله عن تاريخ العرب الحديث والمعاصر أو مصر والعالم العربى فى التاريخ الحديث والمعاصر دون تاريخ الحضارة الإسلامية. وفى النهاية أشار الشلق إلى أن عرض وطباعة وإخراج الكتاب سيئ للغاية ومنفر للطلاب.
إخراج سيئ وطباعة رديئة
ونختم الحلقة الثانية من تحقيقنا حول مناهج التاريخ الدراسية بكلمات من التقرير الجماعى لتلك التقارير والذى أكد أن مادة التاريخ تعتبر من أهم المقررات الدراسية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق. وتنبع تلك الأهمية من كون التاريخ أهم مرتكزات تشكيل هوية أى مجتمع، وهو العنصر الفاعل فى تشكيل وعى جميع الأمم. ويشترك التاريخ مع اللغة العربية فى كونهما أساس أى انتماء يتم غرسه وتنميته فى نفوس وعقول الناشئة.
ويزيد التقرير الجماعى على ذلك إذ أكد «أن نهضة أى مجتمع تقاس بمقدار وعيه بتاريخه، وإدراك نخبته وصانعى قراره بالصلة العضوية بينه وبين الواقع، وتأثيره الفاعل فى المستقبل، وإدراك أهميته فى العلاقات والصراعات بين الأمم والمجتمعات، وإدراك أن الصراعات فى العالم المعاصر هى فى الحقيقة صراع حول التاريخ وتفسيره.
ولعل الصراع العربى ــ الإسرائيلى أبرز مثال على ذلك. ورغم كل هذا فإنه يبدو أن وزارة التربية والتعليم فى مصر وواضعى مقررات مادة التاريخ لا يدركون مدى أهمية تلك المادة. ويمكن باستعراض سريع لتلك المقررات فى مختلف المراحل التعليمية تأكيد ذلك».
واختتم التقرير بتأكيد مهم لا يقل أهمية عن رصد الأخطاء وانعدام الرؤية فى تقديم التاريخ فى المناهج الدراسية إذ أكد: «وهناك سمة أساسية تشترك فيها كل هذه الكتب وهى الإخراج السيئ والطباعة الرديئة التى تنفر الطالب منها.
ولعل ما ذكرناه هنا، وهو غيض من فيض، يوضح الحاجة الملحة والضرورية لإعادة النظر فى مقررات مادة التاريخ فى مختلف المراحل التعليمية بما يتناسب مع أهمية هذه المادة ودورها فى تشكيل هوية ووعى ومستقبل هذه الأمة».
 
عن جريدة الشروق
بتاريخ 6 نوفمبر 2009

ليست هناك تعليقات: