الأحد، ديسمبر 31، 2006

مهرجان القاهرة الثلاثون : الحياة معجزة

صلاح هاشم






مهرجان القاهرة السينمائي الثلاثون



عرض ب " بركة الدكتور زيفاجو" أكثر من 247 فيلما من 57 دولة



مهرجان القاهرة السينمائي الثلاثون






ألحياة معجزة


بقلم : صلاح هاشم مصطفي


نستطيع ان نقول ان مهرجان القاهرة السينمائي الثلاثين، الذي تابعنا فعالياته، ورصدنا افلامه، وحضرنا بعضا من ندواته, وأتينا من باريس خصيصا لكي نشارك في احتفالات هذه الدورة بمناسبة مرور 30 عاما علي تأسيس المهرجان، نجح الي حد كبير خلال دورته المنصرمة التي انعقدت في الفترة من 28 نوفمبر الي 8 ديسمبر 2006، وعلي الرغم مما تخللها من أخطاء ونواقص، لايمكن ان تغيب عن بال البعض من المتابعين لحركية وتطور المهرجان منذ زمن

نجح المهرجان علي العديد من المستويات، غير انه من الضروري قبل الحديث عن تلك الانجازات التي تحققت، التأكيد علي ان الاهمية القصوي لمهرجان القاهرة، لاتكمن في عروض الافلام التي يعرضها علي شاشته من انحاء بلدان القارات الخمس ، بل تكمن في الصلة التي يعقدها المهرجان مع ذلك الكيان الحضاري الانساني الروحاني الشامخ، الذي يستند ويرتكز ويحيل اليه, ونعني به تلك المدينة الرائعة قاهرة المعز التي يتفاخر المهرجان ويزهو بأسمها، ليكون دعوة التقاء وعناق قبل اي شييء مع المدينة، والاختلاط في ازدحام الشوارع بألفة وغبطة اهلها الطيبين، والتجوال في شوارع المدينة وأسواقها وميادينها الكبري للتعرف علي والتقرب الي أناسها، في توهج وخليط الحشد الانساني
بمعني ان "فيلم القاهرة 30 " – مع الاعتذار لصلاح ابوسيف، الذي اخرج فيلما بهذا الاسم وتألقت فيه سعاد حسني في دور أثير. هذا الفيلم المدلوق بالعشرات من لمناظر والمشاهد علي ارصفة وارضية المدينة، والذي يبسط نفسه من خلال الوقائع والاحداث التي تصادفك وانت تقطع المسافة من فندق "حياة " حيث يهبط الضيوف، مرورا بساحة الكورنيش، وعبورا لكوبري قصر النيل للوصول الي قاعة الاوبرا الصغيرة، حيث كانت افلام المهرجان تعرض علي الصحفيين
في تلك المساحة الصغيرة التي يمكنك ان تقطعها سيرا علي الاقدام، لمشاهدة فيلم " بركات " الجزائري المشارك في مسابقة الافلام العربية، قد يكون الفيلم او الافلام التي تشاهدها، وتتفرج علي أحداثها في تلك البقعة الصغيرة، أهم ألف مرة من تلك الافلام الجديدة التي يأتي بها المهرجان الي جمهور القاهرة من كل حدب وصوب..
اذ انه يتجاوزها بمصداقيته وعفويته وبساطته.
هنا في "فيلم القاهرة " الذي يتيحه لك المهرجان، سوف تتفرج علي معجزة الحياة ذاتها، فعلي الرغم من المشاكل والظروف والمعاناة اليومية للانسان المصري في الزحام، تتوهج روح الحياة ذاتها، ضد السكون والفناء والموت والعدم

الاحتفاء بمدينة

ولعل درس القاهرة- بأمنها وسلامها وتسامحها- الذي يمنحنا المهرجان، من خلال العلاقة التي يبنيها مع المدينة ، تشكل بالنسبة لكل زائر العامود الفقري لرحلته، وهي المراد وقصد السبيل في نهاية المطاف. كل شيئ يسير هنا علي مهل في الداخل ، علي الرغم تلك السرعات الجنونية التي تنطلق بها السيارات والمركبات في الخارج في الزحام وحركة الناس. لكن في الداخل، تمضي الحياة. ولاعجب فالمصريون فلسفوا حياتهم منذ القدم، و كانوا علي ضفاف نيل مصر العظيم وتحت الشمس الافريقية التي تتألق بالنور ، كانوا اول من اخترع الابدية

قيمة مهرجان القاهرة قبل الافلام التي يعرضها علي شاشته، وبعدما صار " ضرورة " هي في اكتشاف أسلوب حياة المدينة وفلسفة ونظام, والتعرف علي ذلك الاسلوب وتلك الحياة هو المدخل الاساسي لكل قادم جديد، ومن غير التوغل من خلال الشارع في روح المدينة، يصبح حضور المهرجان عبثا وبلا جدوي. مهرجان القاهرة فبل ان يكون عروضا للافلام، هو احتفاء بمدينة، أحتفاء بتراثها وتاريخها وفنونها ومعمارها،لحظة التقاء يوفرها المهرجان للدخول في نخاشيشها والمشاركة في ذلك الطقس ، طقس العناق الروحاني، الذي لايغيب عن بال البعض من النقاد الذين حضروا الي المهرجان لأول مرة خلال الدورة 30 ، ومن ضمنهم الناقد السينمائي الفرنسي الكبير الآن ماسون الذي يحضر لأول مرة وكان يدرس السينما في جاممعة باريس 3 ، ويكتب في مجلة " بوزيتيف " الشهيرة ومازال ، فقد رأيته يتجول مع زوجته في سوق خضار باب اللوق، ويتفرج علي الناس ، ويريد ان يدخن شيشة، ويسأل عن مطعم شعبي وهو يتفرج علي فيلم القاهرة- في اوقات الفراغ مابين عرض فيلم في الصباح وآخر في المساء- ويقول لي ان من يحضر الي المهرجان السينمائي، ولايشاهد ذلك الفيلم، بل تلك الافلام المدلوقة في شوارع القاهرة، فكأنه لم يذهب ولم يتعرف علي المهرجان، ولم يزر المدينة ، ولم يحضر الي مصر قط ..
وقد جعلتني كلماته افكر- قبل الحديث عن انجازات المهرجان- في تلك القيمة التي يعليها المهرجان من خلال " المشاركة " ، اذ انه يبسط ساحته ليكون فضاءات للتعارف والالتقاء مع النقاد والنجوم والسينمائيين، وهو بذلك يحقق حاجة معرفية وقيمة تواصلية في مد يد الي " الآخر " – الجار – بسحر الضوء والسينما الفن..
وقيمة التعرف علي الآخر، والانفتاح علي ثقافات الشعوب المغايرة من خلال مرأةالسينما، ربما تكون أهم قيمة في المهرجان، بعد الدخول في لحم المدينة، والتواصل معها في عناق أبدي، والتعرف علي مناخاتها الثقافية والحضارية والروحانية، وهنا حيث تسكب القاهرة في القلوب المولعة والمفتونة بمصر أم الدنيا ، تسكب عسلها وتشمخ، حين تعلي من قيمة " الفضول "- درس السينما الاساسي - وتزهو بلا هوادة

بركة الدكتور زيفاجو

تري ماذا حقق مهرجان القاهرة في دورته الثلاثين.؟ يقينا لقد حقق الكثير في ظرف ثلاثة شهور فقط بعد ان تولي رئاسة المهرجان الفنان الممثل المصري عزت أبو عوف، مدعوما بالخبرة التظيمية التي اكتسبتها سهير عبد القادر نائبة الرئيس من خلال عملها مع رؤؤساء المهرجان السابقين، من امثال الكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبة والفنان حسين فهمي،والاعلامي الصحافي الكاتب شريف الشوباشي، وبالدعم المالي الكبير الذي حظي به المهرجان من رجل الاعمال المصري نجيب سويرس، الذي وافق علي رعاية المهرجان بالكامل، مع تولي الفنان المصري الكبير عمر الشريف " دكتور زيفاجو " رئاسة المهرجان الشرفية، والواقع ان الكثير من تألق المهرجان خلال الدورة الثلاثين المنصرمة يعود الي " حضور " نجم الدكتور عمر الشريف الساحق في حفل الافتتاح، الذي استقطب الي المهرجان محبيه وعشاق فنه واصدقائه من نجوم العالم ، مثل المغني الفرنسي شارل ايزنافور ايقونة الغناء في فرنسا والعالم، و الممثلة الانجليزية جاكلين بيسيه بطلة فيلم " اللقطة الامريكية " للفرنسي فرانسوا تروفو ، ولاشك ان انضمامه الي المهرجان كان مكسبا كبيرا ويحسب الي ادارة المهرجان نجاحها في اقناعه بأن يلعب دوراكان مرشحا له بنجوميته منذ زمن طويل
عرض مهرجان القاهرة السينمائي خلال فترة 11 يوما أكثر من 246 فيلما من 57 دولة واستضاف اكثر من 200 شخصا و250 محترفا ، كما نظم اكثر من عشرين ندوة، من ضمنها ندوة مهمة عن قرصنة الافلام، وندوة اخري عن الانتاج المشترك شارك فيها المخرج الجزائري رشيد بن حاج " الخبز الحافي " ، ونبه فيها الي أشياء في غاية الاهمية، من بينها ان عيون السينمائيين العرب تتطلع دوما الي سينما القاهرة، وتجارب السينمائيين المصريين لأن مصر بتراثها السينمائي الكبير، الذي لاينتمي الي مصر وحدها، بل الي كل العرب والانسانية جمعاء .

هذا التراث الذي شكل وجداننا ووعينا، جعلها تحتل المركز وموقع الصدارة ومن هنا انطلق التجديد لتحديث السينما العربية من خلال اختراع " النظرة " علي يد عمالقة الاخراج من أمثال صلاح أبو سيف – الذي يعتبر رشيد بن حاج انه ومجموعة من المخرجين العرب الذين يصنعون افلامهم علي شاكلته وبأسلوبه، كما التونسي نوري أبو زيد " صفائح من ذهب " و" رجل الرماد " هم في الحقيقة امتداد لتلك السينما الواقعية التي ارسها دعائمها كمال سليم في فيلم " العزيمة " في الثلاثينات، ثم رسخت لها التقاليد التي ابتدعها صلاح ابو سيف في افلامه التي لاتنسي مثل " الفتوة " و" بداية ونهاية " و" السقامات " وغيرها..
كما نظم المهرجان تظاهرة للسينما في امريكا اللاتينية، وشارك في لجان تحكيمه مجموعة كبيرة من نجوم السينما العربية مثل السوري دريد لحام والمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي والممثلة التونسية النجمة هند صبري والمخرج المصري الكيبير داود عبد السيد، ولم يكن المهرجان مجرد حفل افتتاح فقط تألق فيه بصحبة عمر الشريف مجموعة كبيرة من النجوم

بل كان استكشافا ايضا لجديد السينما العالمية، من خلال اختياراته للعديد من الافلام الجيدة والمهمة التي شاركت في مسابقته الرسمية بالاضافة الي مشاركة بعضها في مسابقتين جديدتين استحدثهما المهرجان لأول مرة : مسابقة للافلالم العربية ومسابقة جديدة لافلام الديجيتال، وربما كانت المسابقة الاخيرة ، تستحق ان يفرد لها مهرجانا بأكمله لسينما الديجيتال، بنوعيها الروائي والتسجيلي
ولأول مرة لايعاني المهرجان في ايجاد والبحث عن فيلم مصري للمشاركة في مسابقته كما كان يحدث في السنوات الخمس او الاكثر الاخيرة، وذلك بمشاركة أربعة افلام مصرية جديدة دفعة واحدة في المهرجان، هي فيلم " مفيش غير كده " بطولة النجمة نبيلة عبيد واخراج المصري خالد الحجر وفيلم " استغماية " لعماد البهات وفيلم " آخر الدنيا " لأمير رمسيس وفيلم " قص ولزق " للمخرجة المصرية المتميزة هالة خليل وكان الفيلم الاخير شارك في المسابقة الرسمية وحصل علي جائزتين

المثلث الذهبي

وبرز من ضمن مجموعة الافلام الجديدة التي عرضها المهرجان ثلاثة افلام مهمة، شكلت مايمكن أن نطلق عليه بالمثلث الذهبي في المهرجان، هي فيلم " الطريق " اخراج زانج جياروي من الصين، وفيلم " السكان الاصليون " لرشيد بوشارب من فرنسا ، وفيلم " بركات " للجزائرية جميلة صحراوي
فيلم الطريق يحكي عن قصة حب، تمتد من عصر الثورة الثقافية في عهد ماو في بداية الستينيات من القرن الماضي، الي عصر انفتاح الصين علي النظام الرأسمالي وحضارات الاستهلاك الكبري في التسعينيات، وهو يأخذنا مع بطلته خلال تلك العهود التي مرت بها الصين، ليحكي عن " تحولات " المجتمع الصيني وتبدلاته، ويوثق لها، وهو يستفيد هنا من اسلوب السينما الهوليوودية، لكي يحكي بسرد سلسل عذب لذيذ، مقنع وممتع في آن، حكاية حب مسنودة في الخلفية علي تاريخ أمة، ويبدو اقرب مايكون الي الافلام التسجيلية، ليكون درسا ووثيقة للاجيال القادمة، ويقربنا أكثر من أنسانيتنا
فيما يحكي " السكان الاصليون " عن مشاركة الجنود العرب من بلدان شمال افريقيا، التي كانت مستعمرات فرنسية، مشاركتهم في تخليص فرنسا في الحرب العالمية الثانية من جحيم النازية وتحرير البلاد، وكان الفيلم قد نبه بشكل غير مسبوق من خلال قصته التي اعتمدت علي وقائع وشخصيات حقيقية، نبه الي انكار فرنسا لفترة طويلة الي جزء من تاريخها الاستعماري، فقد حرر الجنود العرب البلاد، وخلصوا رقاب العباد من المواطنين الفرنسيين، ولم يحصدوا في مقابل ذلك غير الظلم والغبن والفاقة
وهنا يكشف الفيلم عن المسكوت عنه في التاريخ الرسمي الفرنسي، كما يفتح عيون ابناء المهاجرين العرب في فرنسا علي اسهامات وانجازات اجدادهم الذين قاتلوا في صفوف الجيش التحرير الفرنسي، وضحوا بحياتهم، لكن علي الرغم من كل مامنحوه وبذلوه من عرقهم واعصابهم ودمائهم
مازال احفادهم وللأسف يعانون في فرنسا من التمييز العنصري ، ويقطنون ضواحي العزلة والبطالة والبؤس، علي هامش العاصمة باريس، والمدن الفرنسية العملاقة في ليون ومارسيليا وبوردو وغيرها، ويعانون من ذلك التمييز العنصري في العمل والسكن ، بسبب اسمائهم العربية
ومازال صحيحا مايقال، من انه من الافضل ان تسمي ابنك بجاك او كلود او فرانسوا في بلاد الغال الجميلة ، من ان تطلق عليه اسم محمد او مصطفي او عبد الرحمن، ومازالت العنصرية البغيضة تطارد هؤلاء الاحفاد ، وينبذهم المجتمع الفرنسي الجبان، الذي يتشدق بقيم الجمهورية من مساواة واخوة وعدالة، ويلوح بها في كل مناسبة، في بلد حقوق الانسان
اما فيلم " بركات " الجزائري فقد أسرنا ببساطته وجماله وعمقه ، حيث يبرز دور تلك الطبيبة التي لاتخشي الصعود الي الجبل لمواجهة الارهابيين الدمويين الجزائريين بعد ان اختفي زوجها الصحفي، وكانوا اختطفوه وعذبوه ، ويصور الفيلم محاولتها البحث عنه لاطلاق سراحه، ومهما كانت التضحيات، في اجواء يخيم عليها شبح الرعب، وعنف المجازر الدموية، ويعاني فيها المرء من غربته داخل وطنه، وحتي تحت جلده ، وينتهي الفيلم بالقاء بطلته الطبيبة سلاحها – مسدس الوالد – في البحر، و هي تطلق صرخة في عموم الجزائر ان كفانا ارهابا، فالارهاب لايحارب بسلاح الارهاب، أو ارهاب الدولة، بل من خلال النقاش والحوار والجدل, وربما كان هذا أحد أهم الدروس المستفادة من افلام المهرجان الكبير، الذي تميز في الدورة الثلاثين يقينا بمسحة من التفاؤل والأمل
الأمل في أن يستعيد في الدورات القادمة، وعلي الرغم من كافة الاخطاء والنواقص والعيوب التي برزت خلال الدورة الثلاثين
يستعيد مكانته ورونقه وعافيته، كأكبر واضخم تجمع سينمائي في منطقة الشرق الاوسط ، ويرتفع اكثر بمستواه في السنوات القادمات، لكي يليق بأسم بلدنا ومصرنا، و يرقي الي مستوي "حضارة السلوك الكبري" التي عكستها و خلقتها السينما المصرية بأفلامها الروائع التي دخلت تاريخ السينما العالمية من أوسع باب

جوائز المهرجان

الجائزة الكبري " الهرم الذهبي " : ذهبت للفيلم الصيني " الطريق



جائزة الابداع " الهرم الفضي " : فاز بها فيلم البريطاني " كل شييء علي مايرام



جائزة أحسن أخراج : ذهبت للفيلم الايراني " في مكان قصي جدا



جائزة أحسن سيناريو : حصل عليها فيلم المجري " اليوم الثامن في الاسبوع



جائزة نجيب محفوظ لأفضل عمل اول او ثان : فازت بها المخرجة المصرية هالة خليل بفيلمها " قص ولزق "
جائزة لجنة التحكيم الخاصة : ذهبت للفيلم الصيني " الطريسق



جائزة النقاد الدوليين : ذهبت لفيلم " حياة المقاومة " المكسيكي
جائزة افضل فيلم عربي : حصل عليها الفيلم الجزائري " بركات " مناصفة مع فيلم " قص ولزق " لهالة خليل



جائزة احسن فيلم ديجيتال: ذهبت لفيلم " تحت ذات القمر " من ايطاليا

ليست هناك تعليقات: