الجمعة، ديسمبر 22، 2006

مخلوف ..العابر.. يعود الي القفص

لوحة ياهذي المدينة بريشة محمد مخلوف

محمد مخلوف.. عابر فقط من هنا.. ويعود الآن الي قفصه





دعوة لحضور فيلم " القفص " لمحمد مخلوف











يوميات عابر .. مّر من هنا
لندن – القاهرة – لندن


العودةإلي القفص


بقلم محمد مخلوف *

- لندن : يوليو 2005
أحزم حقائبي وأشيائي .. في طريقي إلي القاهرة
قبلها ، بيومين فقط ، أتممت تصوير فيلمي القصير " القفص"
الاصدقاء يتساءلون ، علي نحو موصول : ما الذي تعنيه بـ "ا لقفص" ؟
وأتمتم بعفوية : القفص هو ذلك المكان الذي يسمي "المنفى" ! .. هو أن تكون حراً في هذا العالم الكبير .. ولا يمكنك العودة إلى موطنك
ثم أقول بخبرة العارف : المنفي هو نوع من الأرق الطويل .. المنفي قاتم يا أصدقائي
قاتم ... ؟
نعم ، المنفي أبيض وأسود ، لا لون ولا طعم له ! .. أما الألوان فهي الوطن .. ألوان السماء ، الوجوه ، الروائح ، الأغاني ، الشوارع

ولكن ، يتساءل الأصدقاء ببراءة الذي لا يعرف ، بالإمكان أن يعيش المرء منفياً .. في وطنه ؟
وأرد بثقة المجرب : هذه فلسفة عبيطة ، من لم يعش ويعفس في نار المنفي ، والبعاد عن الوطن والأحبة لا يمكن أن يحس و يشعر بمذاق البرد القارص والغياب .. والشجن
أنا في القاهرة .. المدينة التي وطئتها ، أول مرة ، فتيً يافعاً أيام عبد الناصر
صديقتي في الحياة ، أو أختي المصرية "المُرهقة" كما أطلق عليها : أمل ، تنتظرني في مطار القاهرة ، مع صديق (سابق) ، خان العشرة لأنه " لازم يكسب " ! كسب مؤقتاً أحلام واهية ومصطنعة ، ولكنه خسر صداقة رجل .. وصداقة عمر لن يرجع
· هاهي القاهرة .. الضجيج .. الأصوات العالية .. زعيق منبهات السيارات المستعجلة هو أول ما تسمعه .. الجو الخانق .. الأتربة وروائح التلوث .. زحام الأمكنة .. الأرصفة المكتضة والصاخبة .. الأرواح الهائمة .. عزّة النفس العربية المرسومة في العيون .. المحجبات ببنطلونات الجينز يتمخطرن بدلال ويمشين الهوينى .. حيوات متنوعة وبشر يواصلون صيرورة الرحلة الأبدية وسط الزحام .. وكأن هؤلاء المصريين يستخفون بالحياة والتعب .. سلاحهم الصبر والنكتة اللاذعة .. والأمل .. يخترقون حواجز الزمن والصوت بإيقاعات الحنان والحميمية
" ميدان المساحة " بالدقي .. وطني ومرفأي الجديد .. المؤقت
الصديق قبل الطريق " هكذا يقول المثل ، و " قد " تجد الصديق مع الأيام ، ولكنك ستظل حتما وأبداً تبحث عن الطريق

رؤيتي وحساباتي في الصداقة تبدو ، دائما ً ، صعبة ومثالية وقاسية
تقول لي صديقتي – أختي : " أمل "..حتماً .. ليس كل الناس محمد مخلوف" . أبتلع النقد القاسي بألم لا يضاهيه إلاّ صقيع المنفي ! أغضب وأحزن بعنف لعدة أيام ، ولكن روحي العطشى للحنان عادة ما تغفر زلات أصدقائي .. وأواصل الرحلة ، رغم أنهم – أصدقائي- لا يعرفون ولا يحسون بالأم الكلمات والأفعال عندما تنغرس في قلب عاني كثيرا من وحشة الطريق .. وقهر الرجال .. فهم لا يدرون أن " الفرح ليس مهنتي
آه يا محمد عبد الحليم عبد الله !.. ما من كلمات تضاهي عبقريتك وإنسانيتك .. أنت الوحيد والأوحد الذي استطعت " أنسنة " هذا المجتمع .. رعشات أيدي المحبين ، همسات العشاق ، حفيف أشجار الشتاء ، أحلام الفقراء , دفء الغرف المعتمة ، نبضات الأرواح المشرقة
كيف تتجاهلك هذه الأجيال أيها الكاتب المصري الجميل ؟ .. وكيف ينساق هذا الجيل القفر مع غثاء روبي ، و "حريم كريم " و "عوكل" وسعد الصغير .. والكبير والقبيح ؟! . كيف يهملون عبقريتك ورومانسيتك العذبة ، كيف لا يعرفون " شجرة اللبلاب" ، " الوشاح الأبيض" ، " سكون العاصفة" ، " أسطورة من كتاب الحب "،
الماضي لا يعود".. وغيرها .. وغيرها من الروائع
آه من هذا الجيل ! .. جيل هيفاء والواوا أح .. المعذرة أيها المصري الجميل .. فهذا زمن الهوان ، زمن الوشم الشيطاني والزواج العرفي .. وزمن " نوادي العراة " في مارينا ! .. انه زمن القبح .. المعذرة ، فلا مكان لروحك الهائمة مثل نسائم ندوف الثلج .. هذا زمن متوحش أيها الجميل .. ولكنني ، حتماً ، سوف أحوّل ترنيمتك المضّمخة برحيق القمر وانفاس الفقراء ، حكايتك الجميلة " العازف" إلي فيلم سينمائي .. هدية إلي عبقرتيك الإنسانية.
تقرأ كلمات صديقك "سالم" بلهفة العطشان وتسبح بين السطور
" كل شيء يا صديقي إذا لم تكن وراءه معاناة حقيقية صادقة ، وإذا لم يصدر من أعماق الأعماق دونما زيف ، فإنه يظل بارداً مثل العيون الميتة ، والآخرون يهجرونه منذ البداية ، لا يعانقونه معانقة حارة ورائعة ، يتركونه يعاني الفراغ ، أعني كل شيء لم تكن وراءه معاناة ، "وكل شيء "هذه تشمل أعمالنا .. وتصرفاتنا .. وكلماتنا ، وألف شيء لانهتم بجوانبه وأبعاده
المعاناة تعكس صدق كل واحد منا ، وتعكس ما في دواخلنا ، ما يتحرك بشدة وسطها نتيجة نهائية لذلك كله ، نتيجة كبري وواضحة تخرج إلي الجميع في خاتمة المشوار لتحكي روعة صدقنا أو تفاهة أكاذيبنا ، نبل أحاسيسنا .. أو زيفها
يا صديقي .. دائما في نهاية المعاناة النبيلة المتدفقة ، يبدو الصدق شامخا .. وتبدو متعة (المُعاني الصادق) واضحة كالشمس .. كالنهار ، يعانقه الكل بلا حدود
تبلل كلمات صديقي الأعماق ، وتغسل بعض أدران الغربة
أرتمي علي فراشي الصامت وأحاول التسلل إلي .. النوم الجميل
أقول بلهجة ليبية – بنغازية خالصة
" أضرب الناقص" ! .. يضحك صديقي القبطي : عماد ، الذي يذّكرني محياه بلوحات (وجوه من الفيوم) . هذا الصديق القديم _ الجديد ، الذي بعث في روحي شحنات من الدفء تساوي مئات من السنوات الضوئية
أقول " أضرب الناقص في الحياة " أي " توقع الأسوأ " .. ثم أردف : " كيف ما تجيك تعاللها مثل ليبي – بنغازي أخر , يترك عماد في يّم من الألغاز .. ولا أشرح ، فيقسم أنه سوف يزور مدينتي بنغازي ليحل لغز هذا المثل – الطلسم .. وأضحك بحميمية ، ريثما ترسم أخته "هناء"، من بعيد ، ابتسامة مصرية تماهي الورود المعطرة والسماء الربيعية الصافية
الأستاذ : رؤوف توفيق " الجنتلمان المصري "، كما أطلق عليه ، يحثني علي كتابة يومياتي ونشرها . هذا الرجل الأتي من الزمن الجميل جعلني أحب مصر كما أحب ليبيا .. بل ودفعني بدماثته وصدقه وعفويته أن أحب الحياة والأنسان .. وأحب العرب
آه من هؤلاء العرب كم أعشقهم .. المغربي واللبناني والمصري والليبي والكويتي والجزائري والسوداني .. كلهم .. أحبهم كلهم ، والأستاذ رؤوف علي رأسهم .. يحرضّني علي حبهم .. وحبه

القاهرة .. تلك المدينة التي تجمع بين الحنان والوجع ، المدينة التي تأتي ولا تأتي
ألملم ذكرياتي القاهرية وانقش في عقلي وقلبي بقايا الوجوه المعجونة بالحب والألم .. الغضب والحيرة .. العفوية والقلق .. الصدق و الزيف ، والتي حتماً ستبقي عالقة في الذاكرة إلي حين
- محمود : عاشق السينما الذي لا يعرف حجم عبقريته .. المؤجلة
- هالة : المرأة التي باعت صداقتي من أجل حفنة من الدولارات
- جابر : "اللتّات" الذي يغرس في الروح مشاتل وقناديل .. من المحبة

- سعد : الرفيق الذي أعطيته بحراً من الصداقة .. وباعني ريحاً للمراكب

- عايدة : المرأة البريئة الطالعة من وجع جنوب لبنان .. وصقيع سويسرا


- مني : "ملكة الحنان" .. وأميرة الصداقة العفوية
- عصام : الرجل الذي نضب بئر صداقته .. فتحول , فجأة , إلي ألواح من الثلج

- محسن : الليبي ذو الجذور الملكية .. إبن الأصل و الأصالة

- إدريس : المثقف الذي يعشق ليبيا .. ويعشق الصعلكة في دروب القاهرة .. ليلاً
- ليبيا : الطفلة الليبية .. التي تذكرني بالوطن .. الإسم والأمل
ولا أنسي الذي لمسوا روحي مثل أغنية لفيروز أو موال لأم كلثوم: حسونة ، داليا ، عادل المحامي ، اروي ، عبد الرؤوف ، مروه ، اشرف ، كريم ، عبد المنعم ، إيناس ، عبير، موفي ، بسنت .. وبالطبع ملاك (الحلم المؤجل) ..
كلهم إيقاعات إنسانية بريئة وجميلة .. كانوا ونساً لي في سياحتي بـ " صحراء الحزن
أكتب كلمات وداع أخيرة للقاهرة ، المدينة التي عرفتها .. ولم أعرفها .. كلمات كتبها صديق شاعر من خلف قضبان زنزانته الليبية ، وهو يرنو إلى بنغازي
" فيا هذي المدينة .. طهّري بالحب .. قلبك مرة ً .. ولتحضُنينا ".
قبل الرحيل أرسم لوحة بالأبيض والأسود ، أهديها إلي صديقتي – أختي "أمل" ، التي طلبت منها أن تغير اسمها إلي "حنان" , وزوجها ، صديقي – أخي "علاء" أو " التفكيكي الهادئ " .. كما أسميته

أكتب علي حاشية اللوحة ،ٍ بصدق يضاهي صدق دموع أمي ساعة رحيلي إلي المنفي (منذ أكثر من 30 عاما) .. وأودعهما .. دون أن أنسى حنانهما المتدفق مثل نهر الأمازون
" إلي الصديقة والصديق .. اللذين خففا وحشة الطريق
آهٍ من وحشة الطريق وأشواكها
وداعاً القاهرة . .المدينة الحانية .. والقاسية .. الدافئة والباردة .. حزمة الضوء .. سيدة الليالي الموحشة .. سجاّنة الأرواح المجهدة .. فضاءات الحرية وصحوة الأسرار و الأحلام المعلقة

غنّي .. فالوحشة مُرة


- أغسطس 2006 ..
أحزم حقائبي في طريقي إلي لندن .. إلي قدري .. إلي المنفي .. إلي "القفص
من جديد ! وأتمتم بحزن أبدي كلمات فيكتور هوجو الخالدة : " المنفي ذلك الآرق الطويل


* محمد مخلوف: سينمائي وصحافي من ليبيا , مقيم في بريطانيا

ليست هناك تعليقات: