الأربعاء، سبتمبر 13، 2017


مختارات سينما إيزيس



تطوير الفكر القانوني المصري

بقلم


نبيل عبد الفتاح




الدراسات القانونية الوضعية الحديثة والمعاصرة تشهد تغيرات عديدة، فى ضوء التحولات فى العلوم الاجتماعية، وفى ثورة الدراسات اللغوية التى أسهمت فى إحداث نقلات وتحولات نوعية فى هذه العلوم على اختلافها، لاسيما فى ظل التحولات العولمية وما بعدها، والثورات التكنولوجية الثانية والثالثة وما بعدها، والآن الزلازل الرقمية المستمرة والهادرة بالتحولات! الحالات المصرية والعربية تعانى مأزقا تاريخيا، فى انقطاع بعض الباحثين والمختصين عن متابعة هذه التحولات فى العلوم القانونية والاجتماعية فى عديد تخصصاتها، لاسيما فى أوروبا والولايات المتحدة واليابان والهند.. إلخ! من هنا تشكل هذه الفجوات المعرفية أحد عوائق تطورنا الاجتماعى والسياسى والثقافي، وذلك لعديد الأسباب على رأسها ما يلي: 

أن الهندسات القانونية الحديثة - فى الأنظمة التشريعية المختلفة، وفى مجال الإنتاج النظرى والتطبيقى للجماعة القانونية الأكاديمية والقضائية - شكلت أحد أهم ركائز بناء الدولة القومية المصرية الحديثة، من حيث الفلسفة القانونية الحديثة، وفى مجال بناء المؤسسات وأجهزة الدولة، وفى الفكر السياسى وتكوين بيروقراطية الدولة، وإنتاج الطبقة السياسية الحاكمة من محمد على إلى إسماعيل باشا، إلى نوبار باشا وباغوصيان باشا وشريف باشا، إلى بناء الأحزاب السياسية على اختلافها، وثورة 1919 الوطنية الكبرى، وقبل وبعد دستور 1923، واتفاقية 1936، وقادة الحياة السياسية شبه الليبرالية من سعد زغلول، والنحاس، ومكرم عبيد، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم كثيرين. من ناحية أخرى التكوين التاريخى للجماعتين الفقهية والقضائية المصرية رفيعى المقام والمكانة، من خلال إنتاجهم النظرى والتطبيقى فى مجال تطبيع وأقلمة التشريعيات الغربية على الواقع الاجتماعى والسياسى والإدارى المصري، وهى عملية تاريخية كبرى تحسب لهم ولمصر فى عالم القانون المقارن. هذا الإنجاز الكبير وتراكماته يعود للجسور المعرفية بين الجماعة القانونية، وبين القانون المقارن، وإطلاعهم المستمر على الجديد والمتغير فى الإنتاج القانونى الغربى فى الفقه والقضاء والتشريعات والاتجاهات النظرية الجديدة. من ناحية أخرى دور البعثات العلمية إلى الجامعات الأوروبية. الفرنسية والإيطالية لأعضاء هيئات التدريس فى كليات الحقوق لإعداد أطروحاتهم العلمية، أو لجمع بعض المواد والمراجع العلمية اللازمة لإعداد دراساتهم وبحوثهم فى فروع القانون المختلفة. 

عدم متابعة التحولات النظرية والتطبيقية التشريعية والقضائية فى الثقافات القانونية الكبرى، أو نقص المعرفة بها، أدى إلى إعادة إنتاج نظريات وأفكار أفُلت فى القانون المقارن، ويعاد تدريسها لطلاب المعرفة القانونية، ومن ثم يعيد المشرع - وخبراء القانون حوله - هذه المفاهيم والأفكار فى التشريعات التى يتقيد بها القضاة فى أحكامهم على النزاعات القانونية التى تطرح أمامهم، باستثناء بعض الأحكام الرائدة للمحكمة الدستورية العليا، ومحكمة النقض، والمحكمة الإدارية العليا، ومثالها أحكام الحريات العامة، وكذلك تخفيض وتقييد حالات أعمال السيادة التى تراجعت فى النظرية والتطبيق فى فرنسا، والتى أفرط بعضهم فى استعمالها منذ عقد الستينيات، حتى أوائل عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ولايزال بعضهم من الفقه ورجال القانون يرددون صدى هذه النظرية وتطبيقاتها القضائية فى تلك العقود الماضية. 

جمود الفكر القانونى نسبيًا، أدى ولايزال إلى وهن الحيوية الإبداعية للجماعة القانونية من حيث الإنتاج الفقهى والتطبيقي، وأنماط ممارسة المهنة القانونية، وهو ما يؤثر سلبيا على الثقافتين السياسية والقانونية على الاتصال والتمايز فيما بين بعضهما بعضًا، ومن ثم يشكل أحد العوائق البنائية لإمكانات واحتمالات تطور ديمقراطى مأمول، بل أسهم فى إعاقته، خاصة فى ظل هيمنة أفكار تسلطية حول القانون ورؤية أداتيه قمعية لدوره خاصة فى مجال الحريات العامة والشخصية، والميل إلى فرض القيود عليها، وعلى أنشطة المجتمع المدني، والجماعات السياسية والحزبية. 

أدت الفجوة المعرفية إلى تراجع قوتنا الناعمة فى مجال القانون عربيًا، على الرغم من الدور التاريخى لكبار فقهاء القانون المصريين فى وضع الدساتير والقوانين العربية الأساسية، فى حين أن البعثات العربية العلمية إلى الجامعات الفرنسية والإيطالية والبريطانية والأمريكية أدت إلى تطوير الجماعات الفقهية العربية فى عديد التخصصات فى مجال القانون العام والقانون الخاص، ومن ثم إلى إنتاج بعضهم لإعمال علمية معاصرة وفق أحدث النظريات القانونية. 

من هنا تبدو الأهمية الاستثنائية لضرورة إيلاء أهمية خاصة لتطوير الدراسات النظرية والتطبيقية فى كليات الحقوق بالجامعات المصرية التى شهدت تمددًا كبيرًا فى العقود الماضية على نحو مفرط فى ظل اتساع قاعدة الجماعات القانونية، وعدم احتياج سوق العمل لهؤلاء الخريجين، فضلاً عن الإفراط فى منح الدرجات العلمية ما بعد الجامعية فى موضوعات تقليدية، ومناهج شكلانية، ومستويات بعضها ليس على النحو المطلوب. من هنا أتصور أن استمرارية المناهج التقليدية فى الشرح على المتون، والطابع السردى والوقائعي، والنصوصى، يحتاج إلى المراجعة، ومن ثم يتعين على وزارة التعليم العالى ورؤساء الجامعات، وعمداء كليات الحقوق، تشكيل لجنة من أبرز الفقهاء وكبار القضاة لإعداد دراسة حول أسباب تراجع المستوى التكوينى لخريجى كليات الحقوق ومقارنة بين الوضع فى مصر، وفى فرنسا، وإيطاليا، وبلجيكا والولايات المتحدة والهند. ودراسة أخرى عن التطورات النظرية والتشريعية الجديدة فى الفقه والقانون المقارن، وما هى المراجع الأساسية المطلوب ترجمتها إلى اللغة العربية. 

دراسة ثالثة: حول التشريعات المصرية الأساسية، ومشكلاتها تشريعيًا وقضائيًا، وما هو المطلوب لتجاوزها، وتجديد النظام القانونى المصري. دراسة رابعة: حول المهنة القانونية ومشكلات مهنة المحاماة وكيفية تطويرها. دراسة خامسة: حول الجماعة القضائية ومشكلاتها على كل الصعد، وتطوير مركز الدراسات القضائية ويمكن لنادى القضاء الإعداد لمؤتمر دولى حول الأوضاع المختلفة للقضاة فى الأنظمة القضائية المقارنة، وكذلك المحكمة الدستورية العليا، والمحكمة الإدارية العليا. إن هذه الملفات المهمة ودراستها على نحو علمى وموضوعى ومحايد، يمكن للسيد رئيس الجمهورية أن يسند هذا الملف المهم لشخصية عامة من شيوخ الفقه والقضاء، ومعه لجنة علمية للقيام بهذه المهام، لأن تطوير القانون والجماعات الفقهية والقضائية والقانونية، هو جزء رئيس من تجديد الدولة، وأحد عناصر القوة الناعمة المصرية فى الإقليم التى تراجعت منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، ولاتزال مستمرة فى تآكلها، وفقدان قدرتنا على التأثير فى الإقليم العربى المضطرب. 

عن جريدة الاهرام 
بتاريخ7 سبتمبر 2017

ليست هناك تعليقات: