الثلاثاء، سبتمبر 12، 2017

علياء المهدي مجنونة البيت بقلم عصام زكريا في مختارات سينما إيزيس


مختارات سينما إيزيس




علياء المهدي مجنونة البيت


بقلم

عصام زكريا





أثارت واقعة قيام الناشطة علياء المهدى بالجلوس عارية على علم تنظيم «داعش» الإرهابى، والذى يحمل الشهادتين، ردود فعل غاضبة فى مختلف أنحاء العالم، فيما اعتبره البعض إساءة للمسلمين فى المقام الأول. 
وكانت مهدى قد نشرت صورة عارية لها مع ناشطة أخرى كانت تدير ظهرها لعدسة الكاميرا، فوق العلم فى الصورة التى قامت مواقع التواصل الاجتماعى بحذفها لاحتوائها على «مادة مسيئة»، وتظهر مهدى وهى تنزف من منطقة حساسة فوق العلم الذى يحمل شعارات دينية إسلامية. 


علياء تتحدى داعش

الاحتجاجات المثيرة للجدل والتى تتزعمها علياء دفعت «الصباح» لمحاولة تحليلها من الناحية النفسية للتوصل للأسباب التى قد تدفع بآخرين لهذا المسلك. 

فى الرواية الشهيرة «جين اير»، للأديبة الإنجليزية تشارلوت برونتى، يقع الأرستقراطى الوسيم فى حب شابة جميلة رقيقة يبهرها بشهامته ورجولته، ولكنها تكتشف أن هناك سرًا غامضًا فى حياته يريد أن يخفيه عنها بكل وسيلة، لتتبين بعد ذلك أن هذا السر هو زوجته المجنونة التى يخفيها عن العالم فى العلية، تلك الغرفة السرية بالدور العلوى، التى تشبه «السندرة»، ولا يعرف معظم الناس بأمر الزوجة، إلا عندما تنتابها إحدى نوبات جنونها ذات يوم فتقوم بحرق نفسها والبيت كله. 
المصريون يعرفون هذه المرأة المجنونة من خلال الدور الشهير المرعب الذى أدته نجمة إبراهيم فى النسخة السينمائية المقتبسة من الرواية بعنوان «هذا الرجل أحبه»، والذى لعب بطولته يحيى شاهين وماجدة وأخرجه حسين حلمى المهندس عام 1962. 
يقال إن لكل بيت مجنونته، وأن البيت السليم هو الذى لا يحاول سكانه إخفاء مجنونتهم فى السندرة... والمعنى أن المجتمع الذى لا يستوعب كلمات «مجانينه» ويمنعهم من العيش والتعبير عن أنفسهم بحرية، فغالبًا سوف يستيقظ ذات ليلة على حريق مدمر. 
لعل القارئ قد بدأ يسأل بالفعل: وما علاقة علياء المهدى بهذه الكلمات؟ هل تقصد أن تدافع عن هذه الفتاة الملحدة وتبرر أفعالها المنحلة؟ هل تريد من مجتمعنا المحافظ أن يسمح لأمثالها بالتعرى وإهانة الدين...إلى آخر هذه الممارسات المجنونة التى اشتهرت بها، بداية من نشرها لصورها عارية على صفحتها على الـ«فيسبوك» فى أكتوبر 2011، وصولًا إلى صورها الأخيرة وهى تقضى حاجتها فوق علم «داعش»، مرورًا بصورها العارية العديدة فى أوروبا واستبدالها لعبارات الأذان بكلمات تجديف وكفر؟ 
حسنًا! يبدو أننى سأحتاج إلى تكرار قصة «مجنونة البيت» كل بضعة أسطر. 
على مستوى الأفراد أو الجماعات لا ينشأ الجنون من الفراغ. هناك دائمًا أسباب ومقدمات وأناس يتجاهلون المرض وأعراضه حتى يتفاقم ولا يعد يصلح معه دواء. 
علياء المهدى خرجت من رحم الجنون الذى اجتاح مصر عقب الإحباط المتنامى الذى أصاب المؤمنين بثورة يناير على مدار الشهور التالية لتنحى مبارك، نتيجة تحايل الدولة القديمة وتآمر الإخوان والسلفيين على الثورة. هذا التآمر الذى تجلت ملامحه فى «جمعة قندهار» – 29 يوليو 2011- حيث تم استدعاء الإسلاميين بأطيافهم للسيطرة على ميدان «التحرير»، رمز الثورة، ورفرف فيه لأول مرة علم الخلافة الأسود الذى استخدمته «القاعدة» ثم «داعش»، كما رفرف يومها فوق سيناء أيضًا معلنًا ظهور أول إمارة إسلامية على أرض مصر. 

وقد تواصلت أبعاد المؤامرة على الثورة سياسيًا عبر عمليات الاستفتاء على التعديلات الدستورية التى استخدم فيها التحريض والتخويف الدينى وتقسيم الوطن إلى مؤمنين وعلمانيين، ثم خلال الانتخابات التشريعية التى سادتها المخالفات المالية وشراء الأصوات والتزوير بالإضافة إلى استخدام الشعارات الدينية. 
الإحباط الذى منيت به القوى الثورية أدى إلى مواجهات دامية وصلت ذروتها فى مذبحتى «ماسبيرو» و«محمد محمود» فى أكتوبر ونوفمبر، وهى نفس الفترة التى شهدت ظهور علياء المهدى عارية لأول مرة! 
ووفقا لأرشيفى تظهر علياء المهدى كفتاة عادية خجولة للغاية فى مقاطع فيديو مصورة يوم الثامن من مارس 2011، الذى شهد احتفالًا باليوم العالمى للمرأة فى ميدان التحرير، لم يعكر صفوه سوى عصابات المتحرشين الذين تم إرسالهم لإرهاب المتظاهرات لأول مرة بعد الثورة. 
يقول المفكر الفرنسى الكبير ميشيل فوكو ما معناه: لكل فعل قهر رد فعل للقهر مساوٍ له فى القوة ومضاد له فى الاتجاه. لطالما اعتقد الطغاة والفاشيون وقوى التزمت الدينى أنهم يستطيعون حقا إخراس أصوات المعارضة فى الشوارع، وإسكات أصوات الشك فى الرءوس، ولطالما أثبتت وقائع التاريخ والحياة اليومية وحقائق علم النفس الفردى والجماعى أنه بقدر العنف والتطرف الذى يتسم به القمع والكبت بقدر ما يكون رد الفعل عنيفًا ومتطرفًا وتخريبيًا. 
اعتاد المذيع تامر أمين أن يدلو بدلوه فى مثل هذا النوع من القضايا معتبرًا أنه الناطق بصوت الطبقة الوسطى المحافظة، وهو بعد أن كان خلال حكم الإخوان يستضيف يوميا إرهابيين من نوعية طارق الزمر وهانى صلاح الدين، يحاول اليوم أيضًا أن يكون «محايدًا» و«وسطيًا»، ويضع ما فعلته علياء المهدى جنبًا إلى جنب مع ما تفعله داعش، كما أفعل أنا أيضا فى هذا المقال، ولكن بصيغة وهدف مختلف. قال تامر: «كلاهما تطرف، وكلاهما شذوذ، وكلاهما إرهاب»! 
يعنى الأخ تامر، مثل ملايين المحافظين داعشو القلب والفكر، يساوى بين سفاحين مسلحين يقتلون ويغتصبون ويحرقون الأخضر واليابس بوحشية تعود بالجنس البشرى إلى ما قبل مرحلة الحيوانات، وبين فتاة تتعرى وتتفوه بكلمات نابية غير لائقة وتتبول فوق قطعة قماش مرسوم عليها علم! 
تامر أمين ليس وحده، وأعتذر له إذا كان يفهم من كلامى أننى أهاجمه. هو فقط نموذج لتفكير سائد ستجد مثله آلاف التعليقات على الأخبار المتعلقة بعلياء المهدى. 
مرة أخرى سأعود إلى مقدمة هذا المقال حول «مجنونة البيت». فى كتابه الأشهر «تاريخ الجنون فى العصر الكلاسيكى» يبين ميشيل فوكو الكيفية التى كان يتعامل بها المجتمع الأوروبى المحافظ والمتخلف مع «المجانين» باعتبارهم مجرمين يجب عزلهم ووضعهم فى سفينة فى عرض البحر لا ترسو أبدًا. 
واستلهامًا من شخصية «بيرتا» المجنونة فى رواية «جين اير» كتبت كل من ساندرا جيلبرت وسوزان جوبار مقالًا شهيرًا بعنوان «مجنونة العلية» شرحتا فيه تعامل المجتمع الأوروبى فى القرن التاسع عشر مع الهيستيريا النسائية والمرأة المبدعة عامة باعتبارهن مجنونات يجب حبسهن بعيدًا عن غرفة الضيوف! 
هذه المساواة بين الإجرام والذهان والعصاب والهيستيريا والتمرد، باعتبار أن أحمد مثل الحاج أحمد، وكله عند العرب صابون، وجنون، لا يمكن أن تؤدى إلى تشخيص دقيق أو صحيح وإنما إلى مزيد من الفوضى والمرض. 
لا يمكن تفسير سلوك علياء المهدى بدون فهم أعراض الهيستيريا ودوافعها، والاختلاف بينها وبين الأمراض النفسية والعقلية الأخرى. 
الهيستيريا فى أبسط تعريفاتها هى نوع من تحويل الانفعالات والصراعات المكبوتة إلى أعراض جسمية كرد فعل للقهر الواقع على النفس التى لا تستطيع المقاومة بشكل طبيعى. 
إن التحرش واستهداف ومحاصرة جسد الأنثى بشكل هوسى وممنهج ومتواصل لا بد أن يؤدى إلى حالة التعرى الهيستيرى التى يمكن أن تعثر عليها فى كل حارة وبيت فى مصر، وأتذكر شخصيًا تلك الجارة التى كانت تفتعل الشجار مع الجيران وتخلع كل ملابسها وترتمى على قارعة الطريق وهى تعبث فى أعضائها وتتفوه بأقذر الألفاظ. 
على المستوى الجماعى يختلف الأمر. قد تكون الحركات الاحتجاجية نوعًا من التعبير عن هذه الهيستيريا باعتبارها الوسيلة الوحيدة الملائمة للرد على القهر الذى تمارسه السلطة أو القوى الاجتماعية المحافظة.
الحركة السياسية التى انضمت إليها علياء المهدى ليست أوروبية كما يعتقد الكثيرون. المرأة فى أوروبا باتت تعبر عن تمردها بأشكال أقل هيستيرية وعصابية. علياء عضوة فى منظمة اسمها «فيمين» نشأت فى أوكرانيا، التى تتشابه أحوالها السياسية مع مصر فى أشياء كثيرة، وهى حركة سياسية نسوية تهدف إلى التعبيرعن معارضتها للحكومات والسياسات والتقاليد بالتعرى، باعتباره أبسط أنواع الاعتراض كما كانت تفعل جارتنا الهيستيرية! 
جنون علياء المهدى ليس فرديًا، ولكنه نوع من الاحتجاج المنظم على كبت وقهر واضطهاد منظم يمارس على النساء والقوى المدنية منذ عقود. علم داعش ليس إلا رمزًا، ومثير نفسي، لهذا العنف المجنون، وإهانته ليست إلا تعبيرًا عن الرفض لمن يرفعون هذا العلم، والرموز المماثلة له، التى باتت تثير الهيستيريا لدى قطاع كبير جدًا من الشباب.

عن بوابة 
الصباح
بتاريخ 30 اغسطس 2017
 

ليست هناك تعليقات: