الجمعة، مايو 10، 2013

مختارات إيزيس : وقائع الثورة على منير . مقال نقدي بقلم محمد المصري



محمد منير
                                   
وقائع الثورة على محمد منير
( مقال نقدي )
بقلم محمد المصري




النّصف الأمامي من جمهور الحفل الأخير لمحمد منير، والذي أقيم الأحد بالعين السُّخنة، أصيب فيه العديدين بإغماءات واختناقات نَتيجة التدافع والازدحام والتحرُّش والدَّخان الكَثيف، سواء من الشماريخ والألعاب الناريَّة أو من الحَشِيش والسجائر، أما النّصف الخلفي من الجمهور الواقف في الساحة الكبيرة.. فلم يَكن يَسمع ما يغنيه المطرب الذي قطعوا لأجله قرابة الـ100 كليو من القاهرة وحتى مَكان الحَفل بسبب سوء هَندسة الصوت وضعفه الشديد، قبل أن يَجتمع النّصفين على الطَّريق السَّريع، ويقفوا في ازدحام السيارات الواقفة على الأسفلت لعدم وجود أماكن مخصصة للرَّكن لقرابة الخمس ساعات، في صورة بدت أقرب للتخيُّلات الكابوسية عن نهاية العالم: طوابير لا تنتهي من الناس والسيارات في ظلامٍ تام وازدحام مُمتد لـ8 كيلو.
تِلك الصُّورة المأساوية، بداخل الحفل وخارجه، لم تَكُن وَليدة تلك الليلة فقط، فهي نتاج وقائع انحدار مُستمر على مدار سنوات عديدة، وهو الأمر الذي انتهى بثورة هؤلاء الذين حضروا بالأمس واعترضوا بصوتٍ عالٍ ومستمر، وبالسّباب أحياناً، على سوء كل شيء فيه، فيرد «منير»، تماماً كسلوكِ الملوك حينما يواجهون الثورة، «هناك قلَّة تحاول منعنا من الغناء»، قبل أن تتصاعد الأصوات المُعترضة ويُكْمِل هو دون أن يَسْمَع، تماماً كـ«الملوكِ حين يَغْفَلون».
ولكي نَفهم –تحديداً- ما حَدث، عن «مُنير» وعن الجيل الذي ثارَ عليه، يَجب أن نستعيد «الحَدُّوتة» من بدايتها..

(1)

في تِلك الأيام، منذ منتصف الثمانينيات حتى نهاية التسعينيات ربما، كان كل شيء يَصنع معنى «الوطن» في انحدارٍ مُستمر، لم يعد هناك ما يُشكل «الهوية»، والجِيل الذي عاشَ حينها، وَوُلِد مع الأحلام الكبرى قبل أن يُعايش فتورها ومواتها ببطء وصولاً إلى «لا شيء»، لم يكن هناكَ ما يُعرّفه أو يميزه، لا أفكار هنا ولا انحيازات أو مواقف، في بلدٍ رتيب لا يتغيّر فيه شيئاً، فقط كان هناك تِلك المحبة التي تحوَّلت مع الوقت إلى «انتماء» يُشعر صاحبه أنه «مُختلف» عن البقية، وأنه مازال يُبقي للأحلام والأسئلة الكبرى مكاناً في قلبه، كان هؤلاء الناس في ذلك الوقت يُعَرّفون أنفسم بـ«المنايرة».
بعدها ببضع سنوات، تحديداً عام 2003، ومع انتشار الإنترنت في مصر، قامَ بضع شباب بعَمَل «مُنتدى» إلكتروني يحمل اسم «محمد منير»، كان واحداً من أشهر المنتديات المصرية في ذلك الوقت، وكان «منير» هو نُقطة الالتقاء التي بدأ منها كل شيء، لتتفرع الأمور بعد ذلك لمناقشات وأفكار أبعد، يزداد الوعي وتتعدد الاهتمامات، السياسية والاجتماعية والثقافية، أناس يُقابلون أشباها لَهم فلا يَكونون غرباء للمرة الأولى، ومع بدء مُجتمع المدونات المصري في التشكُّل عام 2005، متزامناً مع الحراك السياسي الأضخم في مصر منذ قرابة الثلاثين عاماً، كان عدد كبير من شباب منتدى «منير» هذا في مقدمة كل شيء.
بضع سنوات أخرى، حين قامِت الثورة عام 2011، لَم يَكُن «مُنير» هُناك، والشباب الذين بدأوا كل شيء من عنده انتهوا بثورةٍ أخرى عليه.

(2)

يُمكن أن نبدأ «الحدوتة» أيضاً بشكلٍ آخر..

«مُنير» كان المشروع الغنائي الثاني الذي لا تَصنعه أو ترعاه الدولة، أم كلثوم أو عبدالوهاب أو عبدالحليم، أسماء ارتبطت بشكل أساسي، وفي مراحلها الأهم، بالمشروع الوطني في عَهد عبدالناصر، وإن كان هُناكَ سِمَة فنية واضحة فهي، أسوة بالمشروع الناصري كاملاً، هو سَحق ذاتية الفرد أمام هوية الدولة، حتى في أكثر مَراحل الانكسار بعد النّكسة.. كانت الأغاني عن الفداء والبندقية والوطن والنهار الذي سيأتي حَتماً، لا حديث هنا عن «الفرد» ومشاعر الاغتراب والخذلان أو حتى انتماء خاص يبرز ذاتيته.
 مع نهاية كل هذا، بوفاة رموز مرحلةٍ تاريخية كاملة وبدء مرحلة جديدة، لم يكن الشاب النوبي الأسمر الذي يتخرج لتوه من كلية الفنون التطبيقية في العشرين من عمره يعلم أنه سيحمل على كَتفه ثلاثة أجيال مُقبلة ومشروعاً غنائياً شعبياً هو الأول منذ الشيخ سيد درويش، ولكن الأمر صار كذلك مع وجود عبدالرحيم منصور وأحمد مُنيب وهاني شنودة ، أسَّسوا معه كل شيء، ثم كانت ملامحه السمراء غير الوسيمة.. شعره الأشعث.. براءته الواضحة.. الذين خلقوا صورة مختلفة تماماً عن أي نجم غنائي آخر جاء قبله، ومع صوت كالذي يَملكه بدا كل شيء مُكتملاً لبدء «ثورة» سبعينات موسيقية بكل ما تحمله الكلمة، تِلك التي انضم لها لاحقاً يحيى خليل ومجدي نجيب وفؤاد حداد وسيد حجاب.

«منير» كان يعبر حينها عن جيلٍ كامل، ويَضعوا سوياً أسسا مُختلفة لعلاقتهم بالوَطَن أو الحب أو المشاعر التي لم تتطرق إليها الأغنية مصرية من قبله، يكبر ويكبرون معه، يتطوّر وعيهم ووعيه، 10 سنوات وستة ألبومات أولى، بدءًا من «علموني عينيكِ» حتى «وسط الدايرة»، كانت كافية لأن يُصبح ما هو أكبر من مُطرب مُفضّل، صار اسماً يُعرّف به محبوه أنفسهم، مع الألبوم السابع، والذي حَمَل اسم «الملك هو الملك»، تَوّج كل هذا بلقبه الأول بالنسبة لهم، صار «مَلِكَاً».
 ومع تغيُّر الأسماء حوله، بقي المشروع قائماً، أثبت «منير» حينها أنه الأساس الذي يقوم عليه كل شيء، ليضم إلى جواره من لم يقلوا موهبة عن سابقيهم، عصام عبدالله وكوثر مصطفى ووجيه عزيز، مع مساحة أكبر في المشروع لرفيقي دَرب كـ«رومان بونكا» و«مجدي نجيب»، وغيرها من الأسماء التي أبقت «الملك» في مكانه، وجعلت الناس يستمرون في تعريف أنفسهم بـ«المنايرة».

(3)

لماذا بدأ كل شيء في الانحدار بدءًا من نصف التسعينات الثاني؟، ربما بسبب محاولة المنافسة التجارية مع نجوم «السوق» حينها؟ أو الاعتماد على أسماء أقل موهبة من سابقيها؟، صار «منير» أقرب كثيراً من قاعدة أعرض من الجمهور مع أغنيات من قبيل «سو يا سو» أو «لما النسيم»، وأبعد عن هؤلاء الذين بدأوا معهم وتربى بعضهم على يديه، لم يعد كل ألبوم يشكل «مشروعاً» موسيقياً كذي قبل، باستثناء مشروع «الأرض.. السلام» عام 2003، صار هناك أغنية جيدة هنا وأخرى مَعقولة هناك، ويَندر كل شيء مع مرور الوقت.
 الأهم من ذلك كانت المواقف أو الانحيازات الغنائية والإنسانية التي بدت واضحة من قبل وصارت أكثر ضبابية في تلك المرحلة، مثلاً.. هناك سؤال أو أكثر أمام أغنية من قبيل «يا حبيبتي يا أم الدنيا» وعلاقتها بحزبٍ سيصبح منحلاً ورئيس سيصير مخلوعاً في مرحلةٍ لاحقة، النسيان المتكرر، وفي كافة الحفلات، لكلمات أغنياته، مشاكل الألبومات المتتالية عن حقوق الكلمات أو الألحان.
 كان التاريخ القديم يَبْتَعد، يصبح فقط إرثاً يحمله «منير» على كتفه، غير قادراً على حمايته أو جعله مُمتداً بواقع أقل فتوراً.

(4)

أغلبية من سَمعوا ألبوم منير «الملك هو الملك» لم يشاهدوا العرض المسرحي الذي قام فيه بغناءه، والذي أخرجه مراد منير، ولم يقرأوا النّص الأصلي الذي كتبه المَسرحي السوري سعدالله ونوس، كان عملاً هاماً، في الكِتاب أو على الخشبة، دار في قصةٍ نصف فانتازية، عن المَلِك الذي يريد أن يلهو في أحد الليالي، فيحضر أحد العوام ويُلبسه ملابسه، ويجعله مَلكاً، في انتظار الطرائف التي ستحدث حينما يستيقظ الجميع ويراه بهذا الشكل، ولكن كل شيء جرى بشكلٍ عادي، تعامل الجميع بآلية دون أن ينظروا للملامِح، فالمُهم هو ملابس المَلك ولَقبه.
 في الواقع، كان الأمر مُختلفاً، لا يكفي أن تحمل لقب الملك كي تظل مَلِكاً إن ابتعدت عن الناس، لذلك فمع قيام الثورة، بدأ شبابها، الذين نَشأ أغلبهم على صوتِ «منير»، في البحث عما يعبر عنهم بشكل حقيقي، أغاني الفرق المستقلة، هتافات الألتراس التي عُبّئت على سيديهات غنائية، الغناء للميدان وللثورة ويناير ومحمد محمود، هكذا بشكل مباشر ودون مداراة، دون حسابات للمواقف، وحين يدفع هؤلاء «حنين قتّال» للعودة إلى منير.. فإنهم لا يردّدون أغنيته «إزاي» التي بدأ تحضيرها قبل شهور من الثورة وطُرحت أثناء الثمانية عشر يوماً دون أن تحمل موقفاً واضحاً، ولا الأغنية المجهولة والفلولية بامتياز «غنوا لمصر» التي عرضت بكثافة في أيامِ الثورة الأولى قبل أن تُسْحَب حين تغيَّر الجانب المُنتصر، ولا حتى أغنيات ألبومه الجديد الذي صدر لاحقاً، كان الناس فقط حين يغلبهم الحَنين يعودون لهذا الإرث والتاريخ القديم الذي عبر عنهم لسنوات طويلة.
 ظَلَّت الذكريات باقية في مكانِها.. فالذكريات لا تَذْهَب.. ولكن المَلَك لم يَعُد مَلِكاً.

الفَصل الأخير من وَقائع الثورة

بالأمسِ وفي حفل «منير» الأخير، تُوج كل هذا الذي بُنِيَ لسنواتٍ.. لأولِ مرة يَهتف جمهور «مُنير» ضدّه في حفلٍ، ولأولِ مرة يَنسحب الكثيرين في المُنتصف، ولأولِ مرة يخرج الأغلبية غاضبين فعلاً من المستوى وسوء التنظيم وهندسة الصوت، ويندمون على تلك المسافة التي قطعوها، لتبدو «الحَدُّوتة المصريَّة» عن «الجيل» الذي أصبح قادراً على الثورة على أي شيء، حتى الآباءِ والملوك.

ليست هناك تعليقات: