السبت، ديسمبر 12، 2009

فيلم حين ميسرة: يا أهلا بالحواوشي بقلم سعد القرش


السينما المصرية الي أين ؟



فيلم " حين ميسرة " : يا أهلا بالحواوشي



بقلم سعد القرش


فعلا: «استوى» عمرو عبد الجليل ونضجت موهبته بعيدا عن القيد الشاهيني، حتى إنه يظل من الحسنات القليلة في فيلم «حين ميسرة» الذي شاهدته مصادفة قبل الأوان؛ فقد عودت نفسي أن أنتظر أفلام خالد يوسف حتى تعرض على شاشة التليفزيون التي تليق بها. والحكاية أنني أبتعد عن أي فيلم أو رواية مثيرة للجدل غير الفني، حتى يهدأ ما حولها من غبار، وتتضح الملامح الحقيقية التي تقول إن هذا العمل سطحي عابر، أو فني حقيقي قادر على أن يجتاز اختبار الزمن، ويمكن أن يخاطب جيلا لم يولد بعد.

في هذه الفترة، فترة الابتعاد والإعراض، أتجنب قراءة كل ما يخص العمل، ولهذا لم أشغل نفسي بكل الهرتك الذي أثاره «حين ميسرة»، انتظارا لمشاهدة الفيلم بعد عام أو أكثر، فلست في عجلة، وأثق أن شيئا كبيرا لن يفوت؛ فمنذ سنوات دعاني صديق لمشاهدة فيلم «العاصفة» باكورة الابن الأخير ليوسف شاهين، وكتبت عن الفيلم بدافع التعاطف مع تجربة أولى، وأنا واثق بأن أفضل تلامذة يوسف شاهين هم الذين نجحوا في من الفكاك من أسره.. يسري نصر الله ورضوان الكاشف مثلا.

وحين شارك فيلمه «انت عمري» في مهرجان القاهرة الدولي، فضلت مشاهدة فيلم آخر يعرض في الوقت نفسه، وقلت إن روتانا بكل فروعها لن تعتقنا، ذات يوم ستبثه وتعيد عرضه، حتى نمل بحلقات ونهنهات البطل.

والحق أنني ذهبت هذه المرة لمشاهدة واحد من فيلمين آخرين، وفوجئت بالحفلين كاملي العدد، وكان علي أن أنتظر الحفل التالي، ولم أكن وحدي فدخلت «حين ميسرة» مضطرا. توقعت أن أشاهد عملا أكثر عمقا من الشعارات الزاعقة في مشاهده الأولى التي حملت أرقاما وإحصائيات عن ملايين المصريين ضحايا الفقر والجوع ونقص من الأموال والثمرات وبشر الصابرين.

لكن «المشاهدة» انقلبت إلى حالة «فرجة» سياحية شارك فيها صناع الفيلم. فرجة لم تتجاوز السطح، في حين ظل العمق بعيدا عن روح الفيلم، رغم ذكاء كاميرا رمسيس مرزوق. لا يعيب الكاميرا أن تبرع في تصوير رغيف حواوشي، لكنه يظل رغيف حواوشي، لذيذا مثيرا للشهية، ومحدود الفائدة، وغير صحي في كثير من الأحوال.

بنظرة خاطفة لأبرز كلاسيكيات السينما المصرية نجد معظمها عن المهمشين والفقراء ومكسوري الجناح، من «بداية ونهاية» حتى «أحلام هند وكاميليا» و«ليه يا بنفسج». كانت أفلاما حانية على أبطالها، ومحبة لهم، لا تتناول بفجاجة آثار الفقر، ولا تتاجر بمثل هذا الاستعراض «الاستشراقي». ولست ضد أن يتناول العمل الفني أي شيء، المهم: كيف يقول، وليس: ماذا يقول. فما علاقة هذا بفيلم «حين ميسرة» الذي تبدأ أحداثه عام 1990، وتنتهي بعد عام 2003؟

قبل أن أصفه بأنه فيلم سياحي، سأقول إنه أشبه بمقال جامع مانع ساحق ماحق، قفل اللعبة، و«قطع» الطريق الفني على أي مخرج أو سيناريست، حيث تناول كل شيء: الفقر، والجهل، والإرهاب الديني وتنظيم القاعدة، والمخدرات، والدعارة، والمثلية، والقتل المجاني، والفساد، وحياة أطفال الشوراع، ووحشية الشرطة في تعذيب الأبرياء. وفوق البيعة هناك بعض الخناقات التي تتحول أحيانا إلى مجزرة، لزوم التفوق على تراث فريد شوقي.

الذي لم يشاهد «حين ميسرة» يتخيل أنه غول بعشرة رؤوس، لكنه في النهاية عشرة أفلام ضربت في خلاط، وخلت النتيجة من أي طعم لأي منها.

هناك افتعال مواقف وحوارات حتى تبدو كوميدية أو ساخرة، وأحيانا اصطناع الجدية في غير موضعها، لكن المشهد الحواري الذي يلخص الفيلم باقتدار وبدون تكلف، هو الذي يجمع عمرو سعد وعمرو عبد الجليل وهو يصطاد السمك، ويحكي عن تمرد الأمن المركزي عام 1986، حين تجول في شوارع القاهرة، مع صديقه خالد صالح «جودو الموجود أو المختفي في العراق» ولم يعترضهم أحد، وهذا آذاه نفسيا لأن أحدا لا يشعر بهم. وتساءل: لماذا يحزن على عدم الإنجاب من زوجتيه، إذا كان أولاده سيعيشون ويموتون من دون أن يشعر بهم أحد؟

حتى هذا المشهد الجميل، يبدو حواره غير مبرر، إذ نسي المخرج-المؤلف أن بطل الفيلم «عمرو سعد» ظهر كميكانيكي في بداية الفيلم عام 1990، فكيف يكون صغيرا لا يعي حين تمرد جنود الشرطة قبل أربع سنوات؟. انس هذا كله، ولا تفكر كيف لا يكبر أبناء هالة فاخر وأحفادها، وهم «كوم لحم» في غرفة واحدة طوال 14 عاما، كانت كفيلة بأن ينجب البطل ابنا غير شرعي، يمشي في البلاد «سواح»، من بنها إلى عشوائيات القاهرة، حيث يفاجأ الابن مثل أطفال الشوارع بأنه صار رجلا، في وسط تختلط فيه الأنساب، ويحق للشلة أن تنسب طفلا لغير أبيه. ثم يقفز ثلاثة متشردين إلى سطح قطار سريع، طامعين في امرأة-طفلة تحمل ابنها، غير مبالين بتوسل زوجها-الصبي والد الطفل، ويتحول «حين ميسرة» إلى فيلم هندي، لا يبالي فيه أحد المتشردين بمصرع زميليه من فوق القطار، ورغم تناثر أشلاء صاحبيه يصر على أن ينال الأم-الطفلة، فيقتله زوجها، والدوام لله.

ستخرج بعد مشاهدة «الفيلم الهندي» وأنت غير متعاطف مع هؤلاء الذين زعم المخرج في قوسين كبيرين (في بداية الفيلم ونهايته) أنه حاول الاقتراب من عالمهم الأكثر بشاعة مما صوره.. مجرد تصوير.

ستقول إنهم أولاد كلب يستحقون ما يحدث لهم، فهم متواكلون، كسالى، ينتظرون جودو من العراق، بعد خراب بصرة وبغداد.

أثق أن لديك رصيدا من تجربة شخصية مع الشرطة، يجعلك لا تستريح لها، أو تكرهها، كأن تتمنى أن يصفع مواطن، ولو غير مظلوم، ضابطا فاسدا، أو يركل مواطن مظلوم شرطيا يتطاوس كأنه دروجبا بعد أن يسجل هدفا. هذا الرصيد «الكاره» تغذيه أفلام أبطالها ضباط في «الكرنك» و«ليل وقضبان» و«زوجة رجل مهم»، لكني أقسم لك أنك ستتعاطف مع الشرطة المغلوبة على أمرها، في هذا الفيلم الذي يبدو كأن وزارة الداخلية شاركت في إنتاجه، في مواجهة أولاد الكلب، الحشاشين، القدريين، أعداء الحضارة، الذين لا يعملون ولا يحبون الوطن، ويضايقهم أن يقبض عليهم الضباط الوطنيون.

قلت إنك ستمارس «الفرجة»، لا المشاهدة، لأن الفيلم ليس تجاريا فقط، (لا مانع من أن تستمتع بأفلام مثل «اللمبي» و«إسماعيل ياسين في قناة بنما» لأنها لا تزايد عليك) وإنما لأن «حين ميسرة» سياحي استشراقي، بمعنى قربه المفكر إدوارد سعيد (1935-2003) حين قال إن الشرق شبه اختراع أوروبي، وإن الاستشراق خيال أوروبي متوهم عن الشرق.

العين الاستشراقية التي كتبت وأخرجت «حين ميسرة» لم تتعاطف مع هؤلاء، بل استباحتهم تجاريا. هناك أفلام مهمة واعية تتناول قضايا أكثر بشاعة وترويعا، ولكن بعين غير سياحية، بوعي يجيد التعامل مع مفردات الفقر والقهر تلك التي فرح المخرج بالعثور عليها، كأنه نيوتن في صيحته الشهيرة: «وجدتها»، ولم يتردد في أن يرصها في استعراض أفقي، لتخرج من الفيلم «الأفقي» وأنت ساخط عليهم، وتنتظر من الشرطة أن تنسف الحي، وتزيله بالكامل لأنهم لا يستحقون الحياة.

لا حرج على أي مخرج أن يقدم عملا تجاريا، ولكن بدون ادعاء. وكان على يوسف شاهين أن يذكر تلميذه بأنه يحتاج إلى وقت أطول، وجهد أكبر، لكي يرضي الله والشيطان في آن واحد.

ليست هناك تعليقات: