نظرة علي فيلم
خراطيش فرنسية
بقلم
محمد سيد عبد الباقي
كل واحد منا ربما يتذكر هذه اللحظة الأولى التى رأت فيها عيناه هذه الشاشة الكبيرة فى مبنى مشهور فى بلده ، ربما كان ممسكًا فى يد أبيه ، ولربما كانت يد حبيبته أو كان فى رفقة الأصحاب والرفاق .. هذه الشاشة التى لاتزل تشع كل صور الحياة بأداء فنانين وعظماء .. شاشة العرض أو السينما كما أريد أن أوجه الكلام .. نعم أوجه الكلام لك خصيصًا قبل أن أوجهه للسادة القراء ..
عزيزتى شكرًا لك فقد جددت فى الإحساس بالكون بداخلى ومن حولى .. شكرًا لك حقا لإتاحتك لنا الفرصة أن نرى الحياة من خلالك ونتعلم ونحب ، ونثور ونفرح ، ونبكى ونضحك ...
فكم من الأفلام شاهدنا ، ربما الكثير فى حياتنا .. فقد تربينا عليها ، ولطالما كان نجومها هم من علقوا فى أذهاننا فى كل مراحل عمرنا .. طفولتنا ، شبابنا ، وهرمنا .. ولكم من المشاعر توهجت عند رؤية أبطالنا وكم من دموعنا سالت عند فراقهم لدنيانا لتبقى أعمالهم ممتزجة فى دمانا..
ولكن رؤية الأبطال فى الأفلام وهم يقاتلون من أجل رسالة يحملونها ، ويجسدون الأبطال الآخرين ولا أسميهم الحقيقيون - فكل بطل فى نظرى - فهذا يستدعى قوة فى الأداء وموهبة وذكاء.. فهذا شىء مسلم به ، ولكن ما سحرنى حقًا من فترة قليلة هو انفعالى مع الفيلم الذى عرض فى مهرجان القاهرة السينمائى الحادى والثلاثون والذى استقبله المركز الفرنسى بالقاهرة فيلم (خراطيش فرنسية) درجة أننى كنت أموت عند موت ممثل كان يقاتل للدفاع عن وطنه وعن أهله وعائلته .. شرفه وعرضه .. بلده واسمه ، وكنت أحيا عند رؤية الطفل الصغير ممبتسمًا وهو يلعب الكرة مع رفاقه فى صحراء الجزائر رفاق بلدته من كل الأطفال ربما كان منهم الجزائرى والفرنسى فى آن واحد كل يلعب معرضًا ظهره عن هذه الأصوات المزعجة من رصاص وقنابل ، وكره وابتذال للذات الإنسانية .. وبعد أن حييت مرة أخرى فاجأنى المخرج بجعله بطولة الفيلم لهذا الطفل الصغير (على) الجزائرى ، ومعه أعز أصدقاء طفولته (نيكول) الفرنسى .. والذى جمعهما الحب وهذا الإحساس الذى أخاف أن يندثر.. إحساس أننا كلنا إنسان لا يفرقنا لون ولا لغة ، ولا حدود ولا عقيدة ..
وبغض النظر عن فنيات الفيلم وما يصحبه ذلك من نقد ورؤية ولجنة تحكيم إلى آخره فأنا لست بناقد ، ولكنى أريد أن أرسل هذه الرسالة إلى القراء ربما يشاركوننى رأيى .. لم يحدث لى من قبل أن أرجعتنى أحداث أى فيلم بكل تأثيراته الفنية إلى هذا الإحساس الغامض الذى افتقدناه – إحساس الطفولة – بهذه الدرحة الكبيرة ، لتنظر إلى دنياك من جديد وكأنك طفل صغير تربو على تلال الأرض العتيقة التى حملت على ظهرها غيرك من الأطفال الذين لن تعرف عددهم ، وكأن هؤلاء الناس الذين عرفتهم فى حياتك تعرفهم لأول مرة !!
وما زاد الإعجاب أكثرهو هذا الطفل (على) الذى كان يبكينا بصموده أمام الأحداث الدامية فى الجزائر بلد المليون شهيد .. ويضحكنا بمغامراته مع رفاقه .. طفل تربى على رؤية هؤلاء العسكر ، وسماع صوت رصاص رشاشاتهم وقنابل مدافعهم ودباباتهم .. وفى خضم هذه المعارك تراه يبيع الجرائد لكل الناس من العامة إلى ناظر محطة القطار إلى الغانيات فى النوادى الليلية إلى أصحاب المحلات حتى الرتبات العسكرية كان معروفًا عندهم وهو لم يزل غض صغير ..
يلف كل يوم على أهل البلدة موزعاً ما لديه من الجرائد ليكسب قوت يومه ليكفل أمه التى غاب عنها زوجها ليذهب ويبحث عنه فى أرجاء المدينة ليناديه وقت رؤيته له ملقى على أرضية الزنزانة تسيل منه الدماء جراء تعذيب قوات الاحتلال له مناديا : (بوى – بوى ) بهذه اللهجة الجزائرية ليأخذه هذا الجندى ويبكم فمه مخرجا إياه من مبنى الجيش الذى دخله موزعا جرائده حين رؤيته لأبيه .. ويا له من مشهد مروع عندما تمتزج دموع الهلع مع دموح الفرح ، هلع المنظر وفرح كون الأب لم يزل على قيد الحياة .. ويا لها من حياة !!!
يذهب إلى أمه وعلى وجهه مسحة تعجب مما رآه.. فقد طفق أن يمسك يد أبيه فى عربة الترحيلات لولا منع الجند له ، فهو لا يعلم .. أيعش أبوه أم ستناله رصاصة القوم ، وعلى أى حال فقد رآه وها هى الزوجة تستعد لاستقبال زوجها فتبلغ الجيران بالخبر السعيد !!
ولم تدم اللحظات طويلا فقد انقض الجند على بيت (على) ، ليسلبوا العرض من عقر الدار ، ويلهبوا النسل فى قلب النار ، وتدافع الأم عن ذريتها بعرض شرفها أمام أن لا تمس شعرة من حريم بيتها ويا لها من مبادلة قد عرضتها للموت ، فالجندى لا يريد إلا ما أرتأت إليه عيناه ، ومنته شهوته المبتذلة القاتلة .. إنك امرأة ليس مرغوب فيك .. لتغربى عنهم كى لا تكون جناياتان بدل واحدة .. هتك عرض وجريمة قتل !!
وتستمر المشاهد المروعة ، وتؤنسنا المشاهد الرائعة ، وفى كلتا الاثنتين ترى (على) ومعه كل الممثلين ، وكأنه محورهم اليومى والحياتى ، وكأن العلاقة بين على ونيكول لن تتأجج أبدًا ولن ينفصلان عن بعضهما مهما طالت أو قصرت مدة الاحتلال ، فالقلوب متآلفة على نغم الطفولة التى تسع العالم كله فى قلب طفل صغير
الطفل (على) ، أو أمو حمادة الذى ربما لن أتذكر اسمه غير أنه (على).. قد أخذت لبنا بأدائك العظيم ، وعيناك الصغيرتان التى تشد بلمعانها كل العقول لنفكر فى ماضينا ومستقبلنا ، وأما حاضرنا فلنحياه بالسلام ، لينمو على بذرته المستقبل المغيب .. ولكل بلد قد ذاق أهله مر العيش بسبب احتلال خارجى من قبل دولة أخرى ، أو احتلال داخلى من قبل حكومة مستبدة هاقد زال الاحتلال من الجزائر ومن صحراءها ، وإن لم يجد على صديقه نيكول فى يبته لإيابه مع أهله إلى فرنسا بعد طفولة قد ذاقوا حلوها بكرة نيكول البيضاء فها قد عادت الكرة إلى الأطفال مجددا ليلعبوا بها فى صحراء الجزائر..
ويا أهل الجزائر لكم أحببت نضالكم وعشقت سير أبطالكم ، فتحية من بلد شقيق مصر المحروسة وإلى كل طفل فى ربوع الأرض ليرحمك الله ويرحمنا بك ، ويحفظك كما حفظ على وإن كنت قد بدأت مقالتى بشكرى للسينما هذا الفن العظيم ، أريد أن أنهى بشكرين ، شكر لا أعرف لمن لعلى أم لمهدى شارف مخرج الفيلم أم للعمل كله وهو الأوقع الحقيقة ، شكرا جزيلا لكم على هذا العمل الرائع .. أما الشكر الثانى والذى لا يثنيه وجود شكرين قبليه وهو شكرى للصديق العم المصرى والباريسى الكبير الذى لفت نظرى لكل ما هو جميل فى حياتى ولا سيما السينما بكل لغاتها وأشكالها إلى ذلك الرجل الذى أكن له كل الاحترام والتقدير إليك سيدى صلاح هاشم وإلى مجلتك المخلصة للسينما سينما إيزيس ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق