الخميس، أبريل 13، 2006

محور " نقد سينمائي " : فيلم " يوم آخر " للثنائي اللبناني المبدع جوانا وخليل جريج


يحكي عن قضية اكثر من 18 ألف مفقود في لبنان ويقدم تشريحا لمجتمع ومدينة
فيلم " يوم آخر " لجوانا وخليل جريج : نعم للحياة الآن
ماسة سينمائية عربية تتألق بفهم مفردات الفن ,اسراره وسحر السينما
باريس: كتب صلاح هاشم
من اجمل الافلام التي شاهدتها حديثا في عرض خاص في سينما لاباجود في باريس فيلم " يوم آخر A PERFECT DAYاللبناني لجوانا حاجي توما وخليل جريج ،الثنائي اللبناني الذي قطع شوطا في صناعة الاخراج السينمائي، وبرز ونضج ،وحقق من خلال " يوم آخر " في اعتقادي أحد أجمل الافلام اللبنانية التي صنعت في السنوات الخمس الاخيرة ، بل انها يتجاوز كل تلك الافلام- لا لا يلغيها-- بحسه الفني الموسيقي المرهف, والسينما ليست في نهاية المطاف، سوي بناء ومعمار وايقاع، بل انه يتجاوزها ايضا بفهمه العميق، وطرحه لمفردات اللغة السينمائية، التي افتقدناها في جل الافلام العربية المصريةالاستهلاكية ومنذ زمن، واذا ب " يوم آخر " بانسيابيته وبساطته، يحقق شكلا ومضمونا ، يحقق خطوة اخري كبيرة لصالح السينما عربية ولبنانية ، التي تسعي الي ان تكون قريبة منا، ومن همومنا وطموحاتنا واحلامنا في الخلاص، ومحاربة الهراء العام
فعلي مستوي الموضوع، يقدم " يوم آخر " طرحا لمشكلة ازلية ،مثل جرح يدمي في قلب كل لبناني، الا وهي مشكلة الحرب الاهلية المروعة التي عاشها لبنان لفترة تزيد علي 15 سنة ، ودمرت تماما كل شييء، وصارت مأساة تضررمنها كل اللبنانيين، ويناقش من هذاالمنظور هما يعيشه كل لبناني، وهو عند البعض مثل تلك الام اللبنانية في الالم تراجيديا انسانية، وطقس حياتي تعيشه في كل لحظة وبكل ما يحمله في جعبته من ارق مرعب، وخراب. ويركز الفيلم علي مشكلة المفقودين في الحرب الاهلية اللبنانية( اكثر من 18 الف لبناني ) تبخروا فجأة هكذا، واحد لايعلم اين ذهبت جثثهم ،ومأتم هؤلاء مازال قائما حتي ينتهي الحداد عليهم، وهذا هو قدر اللبنانيين.. قدر مأساة الحرب والمفقودين ..التي صارت قطعة من تاريخهم وذاكرتهم ولحمهم.. والجميل ان الفيلم يصور ثقل هذه المأساة التي ترزح فوق القلب.. ويتأسي لها كل عربي محب للبنان واهله الطيبين ،من دون ان تطلق في الفيلم رصاصة واحدة، بل يصورها من خلال بعض اللقطات الشاردة في ما هو اشبه مايكون بغياب ( حجر الزاوية في الفيلم ): رجل يروي الزرع في حديقته ولا يلوي علي شييء، وبضع رجال من الحرس الاشداء، يقفون في زاوية من زوايا الحي، واحد لايعلم من هم ولم وقفتهم تلك،( وهنا تستطيع ان تساهم في صنع الفيلم وتخترع لهم حكاية من عندك) وعجوز تطعم علي الرصيف القطط ،..وتبحث عن قطتها ..واحد لايعرف ويللعجب ماهي قصتها
علي مستوي المضمون يناقش الفيلم محنة الام التي تنظر عودةزوجها المفقود في الحرب ،وتخاف حتي وهي تتفرج علي ذلك الجسد الجميل، منظر جسدها في المرآة وهي تتطلع وتتفرج علي جمالها ، الذي ينضب ويذوي مثل شمعة وينطفأ رويدا، تخاف ان يحضر شبح زوجها الذي يحاصرها في كل مكان ، كي يعاتبها علي نسيانها له ، وبعدما اخلصت له في الحب، وانجبت له هذا الشاب اليافع بطل الفيلم الذي يحاول طوال الفيلم، يحاول ان يعيد وصل الحبيب، ويبحث عن حبيبته ( لبنان ؟ ) طوال النهار والليل في انحاء المدينة، واخشي من جمال الفيلم, واسستحواذه علي مشاعري وفرحتي به، أخشي هنا ان استطرد واروي لكم تفاصيل حكايته.. وليس هذا هو المهم
المهم في " يوم آخر " طريقة الحكي، و الشكل السينمائي الجديد المغاير لاساليب السينما العربية التقليدية التي عفي عليها الزمن وصارت جديرة فقط بالمتاحف التاريخية وصناديق القمامة
اذ يحقق الثنائي اللبناني هنا في " الكلية " الفنية للفيلم، اي توتايته ان صح التعبير نضجا فنيا لم يبلغاه قط من قبل في فيلميهما الاخيرين، ويصلان الي بلورة قصيدة فنية سينمائية موسيقية، متوهجة بسحر الفن وهشاشته، واشبه ماتكون بقصة قصيرة للامريكي هيمنجواي او الايطالي بيرانديلو او الروسي انطون تشيكوف ، من خلال شكل يتواصل مع الحساسية الجديدة في السينما ، ولغة السرد وقواعد الانشاء او الاخراج او( الصنعة )السينمائية( كلمة صنعة كانت تطلق علي التألف والانشاء الموسيقي في الاندلس ) فاذا به اقرب الي الحفر علي الماس والنقش بالضوء علي الصخر والحجر، علي منوال.. وموال الالم، لأن الجروح الحقيقية يقينا هي التي تصنع شذرات الفن العظيم من الالم, وهي التي تمسك بجمال الحياة وعبثيتها في آن
باسلوب سينمائي فني يعتمد كما في فيلم " يوم آخر " علي انشاء منمنمات او حكايات صغيرة مثل موتيفات وفتحات فن المشربية الارابيسك التي قد تبدو مفككةغير مرتبطة لكنها بتراكمها الصاعد تخلق توترا وتشويقا هيتشكوكيا آسران يجعلنا متاهفين علي معرفة تطور الحدث في الفيلم ، وينجح من خلا ل تراكم المشاهد والاحداث في تشييد البناء المعماري الروحاني للفيلم الذي ينسكب عذبا في ارواحنا.. ويرطب الحلوق المحروقة بالالم والحزن والشجن
فيلم " تفصيص " كما احب ان اطلق علي مثل هذه أفلام، مثل تفصيص حبات الرمان المسكر الحلو.. تحت شجرة ريحان في غرناطة
فيلم " يوم آخر " علي مستوي الشكل ، يخلق كيانا صوفيا سينمائيا ، من حيث العلاقة مع الدين وعلم النفس وتطبيب القلوب وتعامله مع خلق الاحاسيس
فلنجعل " يوم آخر " اذن تطبيبا للنفس اللبنانية المجروحة، و شباب لبنان الهائم علي وجهه في طرقات مدينة تحت الاعمار، وذاكرة وتاريخ تلك الحرب الاهلية المرعبة، الذي يسري في دمه مثل المرض اللعين الخبيث، يطارده واينما حل
كما يقترب الفيام من اعمال المتصوفة الزاهدين، من حيث اهتمامه بتصوير مواجد وحالات، وعواطف وشطحات،ومشاعر احاسيس أحاسيس يمتزج فيها الحزن بالالم، حتي تحين لحظة المخاض الخلاص، واذا بالفيلم في النهاية ينفتح مثل وردة و كما تخرج العنقاء من وسط اللهب ، وتولد من جديد.. ينفتح علي الامل الوليد.. وتلك اللقطات الجميلة المتفائلة التي ينتهي بها الفيلم، وقد راح بطله بعد ان قام من غفوته العميقة ، علي رصيف البحر، يخرج ويركض في شارع الكورنيش، في بيروت الناس والانس والبحر، منفتحا علي الامل في حياة جديدة، يتطهر فيها و نتتطهر نحن معه، من كل ادراننا وسوءاتنا ،وبشجاعة الرجل الذي صعد الي آخر درجات سلم اليأس والشظف والالم كما يقول نيكوس كازانتزاكيس في " تمرينات روحانية "، ندلف الي داخل المياه من دون وجل .نعم للحياة واستمراريتها، ونعم لاعادة استكشلف المكان من جديد ، لبنان الجديد تحت الاعمار، المكان الذي انطلقنا منه
فيلم " يوم آخر " اعتبره مكسبا للسينما اللبنانية والسينما العربية الجديدة، وربما كان اجمل ما في الفيلم هو انه يبعث علي التساؤل والتأمل والتفكير في واقع حياة لبنان الآن، ويجعلنا نعيش في الفيلم زمنه وايقاعه، وانه يمسك حتي في أعلي لحظات استمتاعنا باحداثه وشكله الفني البديع، يمسك بتوهج الحياة ذاتها
تحية لجوانا وخليل الثنائي اللبناني الفني علي فيلمهما " يوم آخر " البديع الجديد
عن جريدة " القاهرة " بتاريخ 25 ابريل 2006
انظر ايضا
دردمات: فيلم جديد لسعد سليمان في ايزيس

ليست هناك تعليقات: