الأحد، أبريل 09، 2006

أسفار : من قرطبة الي سمرقند



من قرطبة الي سمرقند.روائع الفن الاسلامي في متحف اللوفر
الحدث الثقافي الفني الاول في باريس.اطلالة علي روائع الفن الاسلامي واحتفالية لحضارة النور والغبطة المتصلة في ديار الاندلس وبخاري، عبر معرض " من قرطبة الي سمرقند " في متحف "اللوفر" العريق ومفتوح في الفترة من 30 مارس الي 26 يونيو

.


باريس- كتب صلاح هاشم



من أروع المعارض المقامة حاليا في العاصمة الفرنسية معرض " من قرطبة إلي سمرقند " الذي يعرض داخل احدي قاعات متحف اللوفر بجناح ريشيلو، أكثر من 42 قطعة فنية من روائع الفن الإسلامي، تنتمي إلي مجموعة "متحف الفن الإسلامي" في الدوحة. و قد شاءت الظروف أن يكون من حظ الفرنسيين والعرب المقيمين أن يشاهدوا قبل غيرهم هذه الأعمال الفنية البسيطة الجميلة الفريدة الفذة، في إطار سياسات اللوفر الجديدة التوسعية، وانفتاحه منذ فترة بشكل اكبر علي فنون وحضارة العرب..وتأتي هذه " الاحتفالية " بالفن الإسلامي والدعاية للمتحف الوليد، متحف الدوحة - تحت الإنشاء - وسط اضطرابات وإضرابات اجتماعية تمر بها حاليا فرنسا, استحوذت علي الاهتمام الإعلامي الأكبر، لتكون بمثابة دعوة للتفكير في أسلوب حياة،وفلسفة وجود، في قلب حمي المواجهات والصدامات في الشوارع والطرقات علي الرصيف، فإذا بتلك " الاحتفالية "تخرجنا بلطف من أجواء الأزمات الفرنسية، لتضعنا في التو في قلب أسلوب حياة عرفته حضارة الإسلام في أوج تألقها وتوهجها ، من أقصي الجنوب في قرطبة في الأندلس، وحتي بخاري في شرق آسيا، مرورا بمصر وسوريا والهند والصين وغيرها. معرض " من قرطبة الي سمرقند " الذي اقيم تحت الرعاية السامية لحضرة صاحب السمو الشبخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر، هو بمثابة رحلة في التاريخ والجغرافيا، لتفتيح العيون علي حقائق لم تكن تخطر علي بال أحد من الفرنسيين وبعض العرب المقيمين،.. لعل أهمها أن هذه القطع الفنية المعروضة من الروائع، لم يكن القصد منها أبدا أن تعرض علي الناس في المتاحف، في وقت لاحق،ولم تكن لمجرد التجميل والتزيين، مثل ديكورات الأثاث الأجنبية الغرائبية الايكزوتيكية التي يستوردها بعض الناس في بلادنا من ايطاليا وكوريا والصين ، بل كان القصد منها أن تصبح أدوات عملية لتبسيط وتسهيل طقوس الحياة العادية اليومية في البلاد التي عرفت حضارة الإسلام، وأينعت في ظل شجرته, ولم تكن فنون الإسلام وقتذاك إلا تلك الأدوات اليومية التي حفرها الفنان المسلم في الخشب والحديد والنحاس والورق، في الأحجار الكريمة مثل المرجان والماس والزمرد، لتكون مفيدة ونافعة في آن , وباعثة ومحرضة أيضا علي التأمل ، أي أشبه ما تكون بلوحة أو مرآة، تعكس من خلال موتيفاتها ورسوماتها وخطوطها حكايات العرب في عقيدتهم وأدبهم وآثارهم الفنية. ..حكايات كليلة ودمنة.. وقصص ألف ليلة وليلة علي الورق والسجاد والقماش, والتواصل من خلال طقوس الحياة اليومية العادية وأعياد الميلاد، مع النجوم والسحر والشجر، وكل الكائنات والموجودات ، من اجل بلورة أسلوب حياة، يتوحد فيها الإنسان مع المطلق، وهو يتمني أن يكون سحابة تخطر فوق رؤؤس المسجونين...

الاحتفال بالحياة

من قرطبة إلي سمرقند، ومن الفخار إلي الحرير، هنا وأنت تروح تتجول في المعرض، وتتأمل في أعماله، سوف تري كيف أن اللغة المرئية للفن الإسلامي تتحدث بمفردات متميزة.إذ بحلول عام 715 ميلادية، كانت خريطة العالم الإسلامي امتدت من الأندلس إلي آسيا الوسطي، وصارت أرض الإسلام "بوتقة " لأقوام مختلفة اثنيا ولغويا وتاريخيا، أثرت الفنون الإسلامية بتنوعها الكبير..
غير أن الرؤية الجديدة كما سوف تلاحظ ، تعدت الحدود الجغرافية، وباتت إيقاعات الثقافات الإسلامية تتردد أصداؤها حتي في حياة غير المسلم، سواء الأقباط في مصر واليهود في أسبانيا، أو المسيحيين في سوريا، بعدما توحدت الاختلافات تحت راية روحانية واحدة أفرزت حسا جماليا مميزا..
حيث امتازت ورش النحت في حوض البحر المتوسط بدقة حفرها علي العاجيات، وثراء تصاويرها الشخصية، حتي انه في القرن 12 ظل الحس الجمالي في صقلية حتي بعد خروج العرب منها، ويبدو ذلك جليا في بوق الاليفانت المبهر احدي القطع الفنية الايطالية ضمن المعروضات وهو علي شكل قرن غزال.وبصفتها لغة القرآن، اكتسبت اللغة العربية وبالتالي فن الخط أهمية خاصة، واحتلت الكلمة مكانا رئيسيا في فن العالم الإسلامي، وفي الوقت نفسه استخدم التشخيص أي التصوير الشخصي علي نحو واسع في مختلف الوسائط، وفي كل الأحقاب الزمنية، وكان خزافو البصرة أول من بدأ في القرن التاسع الميلادي باستخدام الكوبالت الأزرق علي الأواني بشكل أنيق، وهي تقنية ألهمت خزافي الصين بعد قرون، تقنية البريق المعدني التي استخدموها في الفخار..

لحن الأبدية

وكانت بعض المنسوجات من الهدايا الثمينة، كما كانت بعض السجاجيد تعد " حديقة داخلية " تسر العين في كل الفصول،في الليل والنهار.ويتضح هنا كيف أن عنصر السيمترية والتكرار يمنح المرء أو المشاهد أحساسا باللانهائية في المنسوجات والسجاجيد. إن التكوينات والعناصرالتزيينية تسعي هنا كما سوف يتبين لك من خلال التأمل في أعمال وأشغال المعرض، تسعي الي تحقيق نفس التوافق والانسجام الموجود في الكون, وإذا بها حين تخاطبه وتتواصل معه تعزف له علي ذات الوتر لحن الأبدية، فكل من عليها فان، ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام.هنا وأنت تتأمل في تلك الروائع الفنية سوف تسبح وتسافر بخيالك إلي البعيد. إلي ممالك الإسلام في غرناطة الزاهرة وقصر الحمراء.الي قاهرة الف ليلة وليلة التي مازالت تستحوذ علي روحك في أحياء المدينة القديمة بسحرها،.. في خان الخليلي، وعند ضريح السيدة زينب،.. وفي الحسين.. بمآذنها العريقة الشاخصة إلي السماء في توسل ودعاء، إن اللهم ارحم..
هنا أيلة برونزية تنساب المياه من فوها كشلال رقيق تتردد أصداؤه في حدائق قرطبة في القرن العاشر الميلادي، وامرأة عصفور خرافية ذات بريق معدني من القرن الثاني عشر الميلادي، وسر " تميمة " من الوشم الابيض من الهند المنغولية، وشذرات من حكمة في أبيات شعر كتبت بخط أبدي علي خزف من القرن العاشر الميلادي وكلها تصويرات او تصاوير سمها ماشئت وكلها تحتفل بالحياة وغناها..
تعال معي نتأمل في تلك المعروضات ونسبح بخيالنا مع تصاويرها وحكاياتها..
هاهنا بدن " نرجيلة " من الهند. وهنا صندوق من ايطاليا وقطعة شطرنج علي شكل فيل. هنا قاعدة صينية من النحاس الاصفر المكفت بالفضة. هذا ابريق من تركيا من اوائل القرن 16 ومصنوع من الفضة ومسبوك ومزين بزخارف محفورة ومذهبة, وهاهو كشكول " وعاء الدراويش " لجمع العطايا.
هذا شمعدان من العراق وذاك قنديل صنع لضريح السلطان بيبرس, وبجواره فرمان للسلطان سليمان القانوني, وهنا تتوزع المعروضات في الرواق علي ثلاث غرف وبجوار كل قطعة مضاءة بشكل يسر العين ويبرزها فتكاد ان تنطق، لوحة بيانات مفصلة تحكي عن القطعة الفنية وتفك لنا اسرارها وتحكي لنا حكايتها..وعليك أن تسبح بخيالك وتسافر إلي تلك الممالك وتشارك في اختراع حكاية لكل قطعة من نسيج حريري مخملي مفرغ وموشي بخيوط فضية وذهبية.
هنا مجلد من القرآن الكريم وكتاب " سلوان المطاع في عدوان الإتباع " لابن ظفر من سوريا وزوج من الأساور من مصر, وذاك كتاب ملحمة الرامايانا الهندية من اواخر القرن 16 الميلادي، وهذه هي السجادة التيمورية الشهيرة- مثل بساط الريح في الف ليلة وليلة- السجادة التيمورية ذات الحديقة وقطعة الشطرنج، في ايران وسمرقند، المصنوعة من خيوط حرير علي ارضية من القطن. وانظر هذا إسطرلاب اسطواني مسطح من النحاس، أبدع في صنعه حامد بن الخصر الخجندي عام 985 ميلادية..
ان القيمة الاساسية في هذا المعرض " من قرطبة الي سمرقند. روائع من متحف الفن الاسلامي في الدوحة" المقام حاليا في متحف اللوفر وحتي 26 يونيو، تكمن في انه تم اختيار القطع الفنية المعروضة
بعناية لتعبر عن " روح " مجموعة الدوحة، التي تضم آلافا من القطع، من القرن 7 الميلادي وحتي يومنا هذا..
وبما ان المجموعة غير معروضة في الوقت الحالي، يتيح هذا المعرض " رؤية " او فلنقل لمحة استباقية لمتحف الدوحة، من القرن 9 الي القرن 17، وبغطي منطقة جغرافية شاسعة تمتد من قرطبة غربا الي سمرقند شرقا، كما ان الخامات المعروضة متنوعة، فهي تشمل الخزف والمعادن والزجاج والعاج والنسيج والورق, والذهب والزمرد واليشم واليشب والحرير، وهي يقينا مختلفة في الشكل ، لكن يجمعها كيان واحد. فما نعتبره اليوم فنا إسلاميا، لم يكن في الواقع سوي مستلزمات يومية لأسلوب معيشة وحياة،.. فالاستخدام المكثف للزخارف والتصاوير والموتيفات والنقوش والالوان.. لايصدر الا عن نمط حياة أصيل وجوهري. نمط ينسجم مع فلسفة وجود، تنبع من " حب الحياة " والرغبة في التأكيد علي جمالها، كي نتصالح مع العالم وأنفسنا, ونحن نتسامي بهويتنا، والأخلاق الإسلامية الحميدة, وتعاونوا علي البر والتقوى، واعتصموا بحبل الله، وتعارفوا , حتي نقترب جميعا أكثر من إنسانيتنا.ووقتها فقط, حين نعتز ونفتخر بذلك الموروث الفني الحضاري في الفن الإسلامي ونحافظ عليه, هكذا رحت افكر، سوف ندرك يقينا من نحن، فلا نضيع في طرقات مدن الاستهلاك العربية الإسفلتية العربيدة، التي تستورد لنا الأثاث من بلاد بره، فتجعلنا نتغرب عن واقعنا وحياتنا..
والجدير بالذكر، كما صرحت صبيحة خمير كبير امناء متحف الفن الاسلامي في الدوحة لمجلة " سينما ايزيس "ان المعرض الحالي " من قرطبة الي سمرقند " سوف ينتقل بعد عرضه في اللوفر الي متحف بروكلين في امريكا ، ليعرض أعماله هناك في الفترة من اغسطس وحتي اكتوبر 2006..
حقوق الطبع محفوظة لمجلة سينما ايزيس
انظر ايضا
معرض " رينوار " في السينماتيك

ليست هناك تعليقات: