الأربعاء، أغسطس 28، 2013

الطهطاوي نهاية حكم الاستبداد ؟ بقلم صلاح هاشم مصطفى



مختارات إيزيس



الطهطاوي.. نهاية حكم الاستبداد ؟


بقلم صلاح هاشم مصطفى

يمكن ان نعتبر أن مفكرنا المصري الكبير رفاعة رافع الطهطاوي رائد نهضة مصر الحديثة هو ثورة مصر التنويرية الفكرية التي قلبت الدنيا، وكانت نهاية لحكم الاستبداد،فلربما كان أهم ما أدركه الطهطاوي من رحلته أو بعثته في فرنسا ، هو أن الشعوب من حقها ان تخلع حكامها، وأن الشعب هو مصدر السلطات،ومن حقه ان يختار من يحكمه ومن حقه أيضا أن يثور على من يحكمه ويطالب بإسقاطه براحته ومزاجه، وقد استلهم الطهطاوي أفكاره هذه من أفكار فلاسفة التنوير في فرنسا وبخاصة من مونتسكيو مؤلف كتاب "روح الشرائع" فقد ترجم الطهطاوي الكتاب،وتعمق في فهم أفكار الثورة الفرنسية في كتابات جان جاك روسو وفولتير ، وكانت ثورة الشعب الفرنسي ضد شارل العاشر التي حضر وقائعها قد كشفت له أن من حق الشعب أن يخرج كما وقع يوم 30 يونيو في مصر ويقول للرئيس مرسي الذي انتخبه اتكل على الله يابابا، مش عايزينك ولاعايزين حكمك غور، من وشنا ، وكانت " ثورة " شعبية أو " انتفاضة " أو " تمرد " أو موجة ثورية - سمها ماشئت فلن نختلف معك على تسميات، موجة ثورية على مرسي وجماعته " الاخوان المسلمين " الفاشية الارهابية، ولولا تدخل الجيش لتنفيذ الارادة الشعبية،، واعتقال مرسي واقالة نظامه في 3 يوليو 2013 ، ماكان يمكن لمصر أن تكون "مقبرة للاخوان" ونهاية لحكم مرسي - من حفر حفرة لشعبه وقع فيها -  الطاغية المستبد
وأحب هنا في " مختارات إيزيس " أن أهدي قراء الموقع هذا المقال الجميل للشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجاز يتحدث فيه عن رؤيته للطهطاوي " سارق النار والانجازات التي حققها ولعل أهمها أن من حق الأمة أن تخلع حكامها ..

-----

الطهطاوي كما يراه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي

في ذكرى حافظ وشوقي‏4‏
الطهطاوي‏..‏ مترجم أم داعية؟
الدين لتربية الضمير‏..‏ والعقل لعمارة الدنيا
الطهطاوي غير كلامه ولم يغير موقفه‏!‏
من حق الأمة أن تخلع حكامها‏!‏ 

أحمد عبدالمعطي حجازي - مصر
أمس‏,‏ قلت ان الطهطاوي سرق لنا النار‏,‏ لكن الطهطاوي لم يكن أول سارق لها ولن يكون الأخير‏,‏ فالنار التي سرقها الطهطاوي هي النار التي سرقها بروميثيوس‏.‏ وبروميثيوس عند قدماء اليونان سيد نبيل عاش مع البشر الذين عاشوا في فجر التاريخ‏,‏ ورأهم يتعذبون في ظلمة الليل‏,‏ وصقيع الشتاء لأنهم لم يكونوا يعرفون النار التي كانت سرا من أسرار الآلهة‏,‏ وقد صعد بروميثيوس إلي زيوس رب الآرباب يسأله قبسا من النار فأبي‏.‏ وعندئذ عقد بروميثيوس العزم علي أن يسرقه‏,‏ فانتزع من الغابة عودا يابسا وعاد به إلي السماء يقربه من الشمس حتي اشتعل فهبط به إلي البشر الذين تمكنوا عندئذ من تدفئة مساكنهم‏,‏ وطهي طعامهم‏,‏ وصنع أسلحتهم‏,‏ وربما كانت هناك علاقة ما بين بروميثيوس وموسي الذي رأي النار في سيناء‏,‏ فذهب ليأتي منها بقبس يسير علي هداه‏.‏

النار التي سرقها بروميثيوس إذن واقتبسها موسي هي المعرفة‏,‏ وهي الحكمة‏,‏ وهي النور الذي نهتدي به في الظلمة‏,‏ ونتحرر من الخوف‏,‏ ونتقدم إلي الامام‏,‏ وننتصر علي البؤس والخرافة والطغيان‏.‏

ولقد اقتفي الطهطاوي أثر بروميثيوس فانتزع نفسه من ظلمات عصور الانحطاط التي رزحت تحتها مصر حتي أوائل القرن التاسع عشر‏,‏ وعبر البحر إلي مرسيليا‏,‏ ثم انطلق صاعدا إلي مدينة النور ليأتينا بقبس يوقظنا به من نوم الغفلة كما قال في الكلمة التي افتتح بها كتابه تخليص الإبريز في تلخيص باريز‏.‏

قبل الطهطاوي كيف كان المصريون يحكمون هم وسواهم من الشعوب العربية والاسلامية؟

لم يكن المصريون يعاملون باعتبارهم مواطنين‏,‏ ولم يكونوا يعاملون باعتبارهم اخوة لحكامهم في الدين‏,‏ وإنما كانوا يعاملون باعتبارهم مغلوبين‏,‏ لأن حكامهم لم يكونوا يصلون إلي السلطة إلا بالحرب التي تشنها دولة علي دولة أو جماعة علي أخري‏,‏ أوبمؤامرة يتمكن فيها المتآمر الطامع في السلطة من قتل الجالس علي تختها فيصبح من حقه أن يجلس مكانه‏,‏ هكذا صنع الأمويون مع الراشدين‏,‏ والعباسيون مع الأمويين‏,‏ والمماليك مع الأيوبيين‏,‏ والاتراك مع المماليك‏.‏ وهكذا قتلت شجرة الدر زوجها عز الدين أيبك‏,‏ ثم لقيت هي أيضا حتفها ضربا بالقباقيب ليخلفها نائب السلطنة قطز الذي استطاع ان ينتصر أولا علي بقايا الأيوبيين في بلاد الشام‏,‏ ثم انتصر علي التتار بفضل الظاهر بيبرس الذي كان يأمل في أن يعينه قطز نائبا له في حلب مكافأة علي حسن بلائه‏,‏ فلما خيب قطز أمله‏,‏ تآمر بيبرس مع مملوك له علي قتله‏,‏ وكان قطز قد خرج للصيد فانحني المملوك المتآمر علي يده كأنه يريد ان يقبلها حتي تمكن منها فلم يفلتها وعندئذ هوي بيبرس بسيفه علي عنق السلطان فقتله‏,‏ فأصبح له الحق في أن يحل محله سلطانا علي مصر والشام‏!‏

ومع ان الشوري مبدأ إسلامي راسخ من الناحية النظرية فالتاريخ الاسلامي حافل بالطغاة المستبدين‏,‏ واغتصاب السلطة لم يكن استثناء في الدول الاسلامية ـ ويظهر أنه مازال كذلك‏!‏ ولم يكن عملا مدانا‏,‏ بل كان أمرا مألوفا يجد من يبرره ويدعو الناس لقبوله‏.‏ وفيما يرويه ابن مالك القطان عن أحمد بن حنبل أنه قال من غلب بالسيف حتي صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولايراه إماما عليه برا‏,‏ كان أو فاجرا فهو أمير المؤمنين‏!!‏ والأمثلة الشعبية التي تتحدث عن العجل المعبود‏,‏ وعن زوج الأم الذي يجب ان نقول له ياعم‏!‏ كثيرة مشهورة‏.‏

فماذا حمل لنا الطهطاوي من باريس؟ وماذا جد علينا بعد عودته إلينا؟

لقد حمل لنا ما لم نكن نعرفه أو نفكر فيه أو نحلم به من علوم العصر وقيمه ونظمه ومؤسساته ومبادئه‏,‏ الدولة الوطنية‏,‏ والنظم الديمقراطية‏,‏ والقوانين الوضعية‏,‏ والعلوم الطبيعية‏,‏ والفنون الجميلة‏,‏ وحقوق المرأة وحقوق الانسان‏,‏ وكنت في مقالة الأربعاء الماضي قد قدمت أمثلة مما قاله الطهطاوي وترجمه في هذه الموضوعات‏,‏ وأريد في هذه المقالة ان أستوضح موقف الطهطاوي من هذا الذي قاله وترجمه‏.‏
هل استطاع الطهطاوي ان يفهم هذه المبادئ وان يقتنع بها‏,‏ أم ان البيئة التي تربي فيها‏,‏ والثقافة التي تلقاها والتقاليد التي نشأ عليها حالت بينه وبين ذلك؟ هل كان مجرد مترجم متردد متحفظ‏,‏ أم كان داعية لهذه المبادئ يبشر بها ويكسب لها الأنصار ويعمل علي أن تتحول إلي واقع حي مشهود؟

سنلتمس الجواب أولا لدي الطهطاوي الذي يبدأ حديثه في تخليص الابريز عن النظم الديموقراطية الفرنسية قائلا ولنكشف الغطاء عن تدبير الفرنساوية ونستوفي غالب أحكامهم‏,‏ ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن يعتبر‏.‏ ونحن نعرف أن العبرة في العربية بكسر العين هي العظة‏,‏ وهي الأصل الذي نرجع إليه‏,‏ والدرس الذي نتعلم منه ونستفيد‏.‏ ونعرف أن الاعتبار هو التدبر وقياس ما غاب علي ماظهر‏.‏ والطهطاوي يقصد اذن بهذه العبارة ان ننتفع بالمباديء التي ترجمها لنا في اقامة نظام سياسي جديد يكون أقرب للعدل وأوفي بتحقيق المصلحة‏.‏

والطهطاوي يرسم لنا صورة مفصلة لمؤسسات الدولة الفرنسية وسلطاتها التشريعية والتنفيذية مدركا أن المقصود من هذا النظام هو تقييد سلطة الملك واخضاع الحكومة لرقابة نواب الامة وممثليها وإلزام الجميع باحترام الدستور‏.‏ ولهذا يقول من ذلك يتضح لك أن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف‏,‏ وأن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد بحيث ان الحاكم هو الملك‏,‏ بشرط ان يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضي بها أهل الدواوين ـ أي مجلس العدول الذي يمثل الارستقراطية الملكية‏,‏ ومجلس النواب الذي يمثل الأمة‏.‏

لقد قفزت الثقافة العربية بهذه العبارات قفزة عبقرية عبرت بها عدة قرون‏,‏ فالمعني المقصود هنا يتجاوز الدستور إلي قضية أكبر وأهم هي جدارة العقل البشري وقدرته علي أن يكبح الشر ويعمر الدنيا ويجسد القيم الأخلاقية التي يبشر بها الوحي السماوي‏.‏ فالدين لتربية الضمير‏.‏ والعقل لوضع القوانين‏,‏ وسياسة المجتمع‏,‏ وتعديل النظم التي تتطور وتتغير مع الزمن‏.‏

وفي هذا يقول الطهطاوي وهو يتحدث عن الدستور فلنذكره لك وان كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالي ولا في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم‏,‏ لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والانصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد‏,‏ وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتي عمرت بلادهم وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت قلوبهم‏,‏ فلا نسمع من يشكو ظلما أبدا‏,‏ والعدل أساس العمران‏.‏

يقول ألبرت حوراني عن الطهطاوي في كتابه الفكر العربي في عصر النهضة هكذا ترك عصر التنوير الفرنسي أثرا دائما في تفكيره وفي التفكير المصري بواسطته‏,‏ نعم لم تكن بعض أفكار هذا العصر الرئيسية غريبة علي من تربي علي تراث الفكر السياسي الاسلامي‏,‏ لكن هناك أيضا افكارا جديدة يمكن تلمس أثرها في كتابات الطهطاوي‏,‏ كالقول بأن الشعب يمكنه‏,‏ بل يجب عليه‏,‏ ان يشترك في عملية الحكم‏,‏ وبأن من الواجب تهذيبه من أجل هذه الغاية‏,‏ وبأن الشرائع يجب ان تتغير بتغير الظروف‏,‏ وبأن ما كان منها صالحا في زمان أو مكان قد لايصلح لزمان أو مكان آخر‏,‏ هذا فضلا عن فكرة الأمة التي لعله استقاها من مونتسكيو الذي ألح علي اهمية الظروف الجغرافية في تكوين الشرائع‏,‏ مما يستلزم القول بحقيقة الجماعة المحدودة جغرافيا‏,‏ أي المجتمع الناشيء عن العيش في مكان واحد‏,‏ وبأن محبة الوطن أساس الفضائل السياسية‏.‏

وألبرت حوراني يضيف إلي ذلك قوله لم تكن هذه الأفكار بالنسبة للطهطاوي مجرد أفكار نظرية‏,‏ إذ بينما تعرف اليها نظريا أوحي اليه اختباره العملي في باريس بالوجه الذي يمكن لأمته‏,‏ ان تنتفع به منها ـ والمقصود بالامة هنا الامة المصرية ـ وقد ملأت فكرة مصر القديمة ذهنه فأضافت عنصرا مهما إلي تفكيره‏.‏

وبوسعنا ان نضيف إلي شهادة الاستاذ ألبرت حوراني شهادة الدكتورة نازك سابا يارد التي تقول عن الطهطاوي في كتابها الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة تقول قبل ان يغادر رفاعة فرنسا اندلعت ثورة سنة‏1830‏ فخصها بفصل من تخليص الابريز مبينا أسبابها‏,‏ مبديا اعجابه بإباء الفرنسيين وحرصهم علي حريتهم‏,‏ وتوصلهم إلي اختيار ملكهم‏,‏ فيحس القاريء بأن الطهطاوي سلم بحق الشعب في اختيار ممثليه‏,‏ ومحاسبتهم علي أعمالهم‏,‏ والثورة عليهم اذا أهملوا واجباتهم أو نقضوا القوانين‏.‏ إلا ان هذا الموقف تغير في مناهج الألباب ولعل الحكم الأوتوقراطي في مصر‏,‏ وما أصاب الطهطاوي حين نفاه عباس‏,‏ هو الذي جعله يخفف من غلواء حماسته‏,‏ فعندما عرض لموقف الشعب من الحاكم الذي يرفض أن يتقيد بالقوانين صرح بأن عليهم الطاعة الكاملة له لقوله تعالي‏:‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وان بدر من ولي الامر مايسيء إلي الرعية صبروا إلي ان يفتح الله لهم باب هدايته للخير‏.‏

وقبل أن أعلق علي ما ذكرته الكاتبة حول موقف الطهطاوي الذي تغير بعد نفيه للسودان‏,‏ أريد أن أصحح خطأ وقع سهوا في مقالة الأربعاء الماضي فقد ذكرت أن الفرنسيين ثاروا علي الملك لويس فيليب‏,‏ والصواب أنهم ثاروا علي شارل العاشر عندما خرج علي الدستور‏,‏ وأرغموه علي أن يتنازل عن العرش ليحل محله لويس فيليب‏.‏

أما ان يكون الطهطاوي قد غير موقفه المؤيد لحقوق الشعب بعد نفيه للسودان فمسألة فيها نظر‏,‏ لأن الطهطاوي غير كلامه بالفعل‏,‏ فهل يكون هذا دليلا قاطعا علي أنه غير موقفه؟

ومن المؤكد أن كتاب الطهطاوي تخليص الابريز الذي تحدث فيه عن الديموقراطية الفرنسية وأيد حق الشعب في الثورة علي الحاكم المستبد قرئ علي نطاق واسع‏,‏ ولقي من النخبة المصرية والعربية وحتي التركية ترحيبا حارا‏,‏ ولهذا طبع مرتين في حياة الطهطاوي‏,‏ فمن المفهوم ان يسبب لمؤلفه المتاعب حين تتغير الظروف السياسية وتضطر مصر للتراجع أمام السلطان العثماني وحلفائه الانجليز والروس‏,‏ ويرحل محمد علي وابنه ابراهيم‏,‏ ويتولي الحكم عباس الأول وكان حاكما جاهلا شبه أمي قرر ان يعيد البلاد إلي أحضان العثمانيين فهدم ما صنعه جده في النصف الأول من القرن التاسع عشر‏,‏ أغلق المدارس والمصانع‏,‏ وأبعد المصريين‏,‏ ونفي الطهطاوي للسودان‏,‏ فمما يمكن فهمه ان يسعي الطهطاوي لاستعادة ثقة السلطة الحاكمة فيه بعد ان عاد إلي وطنه في عهد سعيد الذي خلف عباسا في الحكم‏,‏ وإلا فماذا كان بوسع هذا المثقف المجرد من كل سلاح إلا قلمه ان يصنع في مواجهة سلطة غاشمة قادرة علي ان تطوح به خارج وطنه في أي لحظة؟

نعم‏,‏ خفف من حماسته للديمقراطية في مناهج الألباب ونصح الشعب بأن يطيع أولي الأمر وأن يقاوم ظلمهم بالصبر‏,‏ لكن هذه الأقاويل ليست دليلا قاطعا علي أنه غير موقفه من الديموقراطية‏,‏ فقد تحدث في هذا الكتاب ذاته عن الرأي العام‏,‏ وسلطته المعنوية‏,‏ ثم عاد إلي الديموقراطية‏,‏ في كتابه الأخير المرشد الأمين الذي صدر قبل وفاته بشهور قليلة‏,‏ فتحدث باستفاضة عن الحريات العامة بادئا بحرية ابداء الآراء والترخيص في تأليف الكتب‏,‏ ثم تحدث عن الحرية الطبيعية‏,‏ والحرية الدينية‏,‏ والحرية السياسية‏,‏ ثم تحدث عن مساواة المواطنين جميعا أمام القانون‏,‏ وختم بالحديث عن الأحكام التي لابد أن تستند إلي العقل قبل ان تستند إلي القانون‏.‏

ايمان الطهطاوي الذي لم يتزعزع بالعقل‏,‏ والحريات العامة‏,‏ والمساواة‏,‏ وحق المرأة في العلم‏,‏ وحقها في العمل دليل علي أن موقفه من الديموقراطية لم يتغير‏,‏ وان كان كلامه قد تغير في مناهج الألباب‏.‏

ويكفي أن نقارن بين موقفه من المرأة وموقف الثقافة السائدة منها لندرك أن موقف الطهطاوي من حقوق الشعب لم يتغير‏,‏ لأنه جزء من موقف شامل مبني علي الإيمان بحق الإنسان في الحرية والمعرفة والعدل والكرامة‏.‏

لقد نشأ الطهطاوي في مجتمع يعتبر المرأة ناقصة عقل ودين‏,‏ ويعزلها‏,‏ ويمنعها من الخروج لأن خروجها يعرضها للسقوط ويجلب لأهلها العار‏.‏

وقد رفض الطهطاوي هذا الموقف المتخلف الذي وقفته كل الثقافات القديمة من المرأة رفضا صريحا‏,‏ واعتبر المرأة مساوية للرجل وشريكة له‏,‏ لأن المرأة إنسان كما أن الرجل إنسان‏,‏ والبشر جميعا سواسية‏,‏ لا فرق بين الرجال والنساء‏,‏ ولا بين البيض والسود‏,‏ ولا بين ثقافة وثقافة‏,‏ أو بين عقيدة وعقيدة‏.‏

هذه الآراء التي جهر بها الطهطاوي في كل مؤلفاته تكذب الذين زعموا أنه لم يضف جديدا لمن سبقوه‏,‏ وتقطع بأن إيمانه بالديمقراطية لم يتزعزع‏.‏

ثم ان الديمقراطية كانت تكسب كل يوم أنصارا ومؤيدين‏,‏ وكان العمل في سبيل الدستور والبرلمان يزداد حيوية واتساعا‏,‏ وهذا من شأنه ان يبعث الطمأنينة في قلب الطهطاوي ويشعره بالرضا عن نفسه‏,‏ ويقوي ايمانه بالمبادئ‏,‏ التي بشر بها ودعا إليها‏.‏

كتاب الطهطاوي تخليص الا بريز يترجم إلي اللغة التركية‏,‏ ويستشهد به الوزير التونسي خير الدين في كتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك وفي عام‏1860‏ تتألف في تونس لجنة تتولي وضع دستور للبلاد‏,‏ وبعد ذلك بست سنوات تجري الانتخابات لاول مرة في مصر وينعقد مجلس شوري النواب‏,‏ وتتردد علي ألسنة أعضائه عبارات منقولة بنصها من كلام الطهطاوي عن مصر فقد جاء في ردهم علي كلمة الخديو إسماعيل في افتتاح المجلس إن ما قطفناه من زواهر الأخبار التاريخية وعرفناه من سوالف آثار الديار المصرية أنها كانت في الأعصار الخالية رافلة في حلل المفاخر الحالية‏,‏ وأن بقية الأقطار كانت تستمد من نبل معارفها الوافر‏,‏ معترفة بأنها مغترفة في الأصل من نيل عوارضها الزاخر‏,‏ لكن لتداول أبدي من لم يحسن تدبير ملكها في الملوك السالفين‏,‏ تناوبتها نوائب الزمن‏,‏ وتناولها أيدي المحن‏.‏ يريدون أن يقولوا لإسماعيل إن مصر في أحسن حال مادام الحاكم عادلا مستنيرا‏,‏ فإذا فسد الحكم فسدت البلاد‏!‏

وتبدأ الصحف الوطنية في الصدور‏.‏ وتتبني أفكار الطهطاوي وكلماته وعباراته‏,‏ فهي ترفع شعار مصر للمصريين‏,‏ وتتحدث عن حق الأمة في اختيار الحاكم‏,‏ وخلعه كما فعلت صحيفة الوطن التي نشرت يوم‏19‏ أبريل سنة‏1879‏ مقالة يقول فيها صاحبها ميخائيل عبدالسيد إن الأمة إذا اتفقت كلمتها علي خلع ملك أو سلطان فلابد من تنفيذ إرادتها وإجابة رغبتها وهو من كلام الطهطاوي في تخليص الإبريز‏.‏

وفي عام‏1876‏ يتم الاعلان عن أول دستور عثماني‏,‏ وفي العام التالي تجري أول انتخابات عامة في تركيا‏,‏ وفي مصر يتحول مجلس شوري النواب إلي برلمان حقيقي يحاسب الحكومة ويعترض علي انفراد الخديو اسماعيل بالسلطة‏,‏ وحين يتولي ابنه توفيق حكم البلاد من بعده ويتأخر في دعوة البرلمان للانعقاد يقدم له المصريون عريضة عليها ألف وستمائة توقيع يطالبون فيها باعادة الحياة النيابية‏,‏ وتصبح الديمقراطية قضية المثقفين المصريين والمتمصرين أمثال‏,‏ محمد عبده‏,‏ وحسين المرصفي‏,‏ ومحمود سامي الباروي‏,‏ وعبدالله النديم‏,‏ وأديب اسحق‏,‏ وعبدالرحمن الكواكبي‏.‏ ويتبني العرابيون الدعوة للديموقراطية‏,‏ ويجعلونها في رأس مطالبهم التي قدموها للخديو يوم خرجوا ليواجهوه في ميدان عابدين‏.‏
يقول أناس انني ثرت خالعا
وتلك هنات لم تكن من خلائقي
وهل دعوة الشوري علي غضاضة
وفيها لمن يبغي الهدي كل فارق
وكيف يكون المرء حرا مهذبا
ويرضي بما يأتي به كل فاسق؟‏!‏
فان نافق الأقوام في الدين غدرة
فاني بحمد الله غير منافق‏!‏
هكذا وقف البارودي يدافع عن الديموقراطية برغم هزيمة العرابيين الذين كان البارودي رئيسا لحكومتهم‏.‏ لكن هزيمة العرابيين لم تقض علي الحركة الديمقراطية التي ارتبطت بالحركة الوطنية في ثورة‏1919.‏ هذه الثورة المجيدة التي توحدت فيها مصر كلها وتطهرت وانصهرت واستعادت فضائلها واكتشفت نفسها من جديد‏.‏ والفضل الأول للطهطاوي أول من تحدث باللغة العربية عن الوطن‏,‏ والدستور‏,‏ وحقوق المرأة‏,‏ وحقوق الانسان‏.
عن جريدة الأهرام




ليست هناك تعليقات: