الأحد، أبريل 19، 2009

الحلقة الثانية من مذكرات جيل جاكوب. صلاح هاشم

جيل جاكوب مع النجمة الامريكية جودي فوستر



الحلقة الثانية والأخيرة من مذكرات جيل جاكوب رئيس مهرجان " كان " السينمائي الدولي




جيل جاكوب : يجب أن لا ننسي أبدا

أن وجها جميلا لامرأة ، يمكن أن يكون وحده

مبررا لصنع فيلم
بقلم : صلاح هاشم

الحلقة الثانية من مذكرات جيل جاكوب

في كتابه " سوف تمضي ألحياة مثل حلم "



وردة القاهرة




يحكي جيل جاكوب في كتابه " سوف تمضي الحياة مثل حلم " الصادر حديثا عن دار نشر " روبرت لافون " في باريس، يحكي عن لقائه مع المخرج الأمريكي الكبير وودي آلان لأول مرة، فيقول أن المقربين منه كانوا يروجون دوما لشهرة وودي آلان كمخرج خجول، يرفض التكريمات والحفلات ، وأنه يفضل أن يعزف علي الكلارينت في " مقهي كارليل " في نيويورك ،علي حضور المهرجانات السينمائية التي تسعي جاهدة إلي عرض أفلامه وتكريمه، بل ويرفض حتي حضور حفل توزيع جوائز الأوسكار لاستلام جائزة له ،بعدما قررأن ينشغل فقط بتأليف سيناريوهات أفلامه،وأن يعيش حياته بمزاجه ،ويهيأ نفسه لفيلمه الجديد القادم فقط ، ولا ينشغل بأي شيء البتة،سوي الانغماس كلية في ما يفعل، إذ يبدو أن هذه هي الوسيلة الوحيدة - هكذا فكر جيل - التي يستطيع بها المرء أن ينسي الموت..
ويتذكر جيل انه قبل عام 1984 لم يكن تحدث مع وودي آلان ، إلى أن التقاه مصادفة في فندق بلاتزا في باريس ( وعادة ما يهبط وودي في فندق ريتز ..) فتقدم إليه من دون سابق ميعاد ، وبادره قائلا : بونجور ياسيد وودي آلان. أنا جيل جاكوب. فرد وودي بسرعة إن حسنا وماذا بعد. وانتهي اللقاء عند ذلك..! ..
ويقول جيل أن السينما تطورت بشكل طبيعي في مجال الحلم، غير أن صورة توم باكستر الذي خرج من الشاشة وهبط الي قاعة العرض في فيلم " وردة القاهرة الأرجوانية " لوودي آلان ، لكي يلتقي بمتفرجة حسناء تدعي سيسيليا ولعبت دورها الممثلة الأمريكية ميا فارو في الفيلم وكانت تجلس في القاعة، ذكرته بمشهد شاعر كوكتو وهو يعبر المرآة في فيلم " دم الشاعر " لجان كوكتو الأديب الفرنسي الكبير، وأن تلك الصورة التي ابتدعها وودي آلان في فيلمه تغذي فينا ذلك " الوهم "، إذ يتحول البطل في الفيلم الذي يخرق الشاشة الي كيان إنساني حي من لحم ودم ، في الوقت الذي تتحول فيه ميا فارو البطلة من كائن حي إلي كائن من إبداع المخيلة، ويتساءل جيل جاكوب: تري أين نحن من كل هذا ؟ هل يمكن أن تتحول أحلامنا إلى واقع ملموس ومحسوس وهل هناك حقا خالقا لهذا الكون ؟. لقد بدا لي أن روحي بعد مشاهدة فيلم وودي آلان الأثير قد انشقت بالفعل إلي روحين، وان كل روح تعيش في صحبة الروح الأخرى المنفصلة عن أختها ، ونحيا في ذات الوقت، روح حياتي الواقعية وروح حياتي السينمائية ، و ها هما الاثنتان تسيران معا يا للعجب في نفس الاتجاه..
وكان جيل جاكوب عرض في مهرجان " كان " كل الأفلام " الجادة " والفكاهية التي أخرجها وودي آلان من عام 1984 وحتي عام 1990 ( ما عدا عام 1988 فقط ) ومن دون أن يحضر وودي المهرجان فلما التقي به أخيرا في فندق ريتز في باريس، تغلب علي خجله وانطلق يحدث وودي عن إعجابه بأفلامه وتفهمه لرغبته في عرض أفلامه علي هامش المسابقة الرسمية للمهرجان وعدم اقتناعه بمبدأ المنافسة، كما تحدثا عن المخرج السويدي برجمان الذي يعشق وودي أفلامه، وموسيقي الجاز التي يعزفها في ذلك المقهي في نيويورك، وذكر وودي آلان أن شركة أوريون الجديدة التي تنتج أفلامه، صارت ترسلها للمشاركة في مهرجان " برلين " السينمائي، وأنه سيحب كثيرا أن تكون عروض أفلامه الجديدة الأولي في مهرجان " كان " من جديد ، ويتساءل جيل جاكوب تري هل كانت هذه رغبة حقيقية لدي وودي، أم مجرد مجاملة منه وأدب وذوق..
ثم أن جيل عرض علي آلان فكرة كتابه الجديد بعنوان " زوار كان " علي نسق فيلم " زوار المساء " لمارسيل كارنيه وتتلخص الفكرة في ضم مجموعة من كتابات أشهر المخرجين الذين ترددوا علي المهرجان بين دفتي كتاب ، وراح جيل يعرض علي آلان ما جادت به قريحة هؤلاء من كتابات،للياباني كيروساوا والألماني شولندورف والبولندي كيلوفسكي والايطالي فيلليني والبرتغالي مانويل دو أوليفييرا وغيرهم ، وطلب من آلان ماذا يستطيع أن يقدم ..
فاقترح آلان أن يضم الكتاب بعض قصاصات عن مشروعات أفلام يريد أن يخرجها و تخطر علي باله أثناء تجواله و إقامته في فنادق العالم الشهيرة من أول " الجراند أوتيل " في روما مثلا ، مرورا بفندق " ريتز " في باريس وحتي فندق " كلاريدج " في انجلترا وأينما حل ،علي ان يكتبها وودي علي ورقة من أوراق الفندق المذكور، ويرسلها إلي جيل، فيضمها إلي كتابه، وعندئذ وبفضل آلان ، اكتملت فكرة الكتاب المشوشة،واتضحت في ذهن جيل جاكوب ولأول مرة يا للعجب !..
فقد كانت فكرة تجميع نصوص مهداة لمخرجين في كتاب فقط لا تكفي ، وأدرك جيل فجأة إنها لن تكون ذات قيمة إلا إذا وجدت المحور الأساسي الذي تدور حوله، بحيث لا تظهر مجرد تجميع لكتابات متفرقة ، فماذا يمكن أن يكون ذلك المحور باتري؟. وجدتها.انه ثيمة الإخراج او " الميزانسين " ، هكذا فكر جيل. أجل يجب أن يكون موضوع الكتاب هو عملية " الإخراج السينمائي " وكيف يتمثلها هؤلاء المخرجين الكبار، و ماذا تعني لهم، وكيف تكون. والآن فقط يمكن وضع نصوص آلان وشلندورف في فصل بعنوان" كيف يولد الفيلم ؟ " ثم توضع كتابات كيلوفسكي وأوليفييرا في فصل بعنوان " عن التصوير والمونتاج " وتوزع الكتابات الاخري في عدة فصول : فصل لعملية اختيار الممثلين الكاستينج ، وفصل آخر لإدارة الممثلين وهلم جرا، وبسرعة راح جيل يبحث عن ورقة من أوراق فندق ريتز ليدون عليها كل ذلك، وكان يظن بأنه لن ينسي كلمة واحدة من الكلمات التي نطق بها وودي آلان أمامه ، حين عبرت الغرفة فجأة ميا فارو زوجة وودي آلان وحيته بهزة رأس. فإذا به ينسي الدنيا كلها وما عليها ، ولم يعد يتذكر أي شيء إلا وجهها الطفو لي الجميل الساحر ذاك الذي ذكره بدور سيسيليا الذي لعبته في وردة القاهرة الأرجوانية..
وذات يوم رن جرس الهاتف في منزله وإذا بأحدهم يقول هالو أنا وودي آلان ، فرد جيل بسرعة معتقدا أنها مجرد مزحة : هالو وأنا انجمار يرجمان، ثم أغلق الخط ، إلا أن وودي ألان عاود الاتصال وأبلغ جيل انه سيحضر دورة مهرجان " كان " ليعرض فيلمه الجديد، وحضر بالفعل لكن مع زوجة جديدة ، وقبل القيام بكل المهام التي طلبها منه جيل: حضور المؤتمر الصحفي بعد عرض الفيلم وجولة التصوير المعتادة مع أبطال الفيلم علي سطح قصر المهرجان بجوار البحر تحت الشمس الإفريقية القادمة من الشرق، وكان مجيء وودي آلان إلي المهرجان مكسبا يضاف الي مكاسب وانجازات جيل جاكوب في استقطاب نجوم هوليوود من أمثال اليزابيث تايلور وشارون ستون ومادونا الي ساحة المهرجان ، ليس للدعاية والاستعراض وخطف الأضواء والتكريس للسينما الهوليودية التجارية والاستوديوهات ألكبري التي تعمل ب " نظام النجوم " في أمريكا وتهيمن علي أسواق العالم، ولكن لدعم فكرته الأساسية في الترويج من خلال المهرجان ونجومه لسينما " الإبداع " والخلق ، سينما المؤلف التي توظف السينما الفن – للتعبير عن مشاكل عصرنا وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية في أعمال المصري يوسف شاهين واليوناني انجلوبولوس والتركي ايلماظ جوني والبولندي اندريه فايدا والصربي أمير كوستوريكا والإيراني عباس كيارستمي والياباني اكيرا كيروساو، وكذلك الاستفادة من حضور النجوم ، لتسليط الضوء علي اكتشافات المهرجان من المواهب السينمائية الجديدة في العالم..

*


تعيش السينما


يحكي جيل جاكوب في كتابه " سوف تمضي الحياة مثل حلم " كيف تم اختياره لوظيفة " المندوب العام " لمهرجان " كان " السينمائي منذ عام 1977( أصبح في ما بعد رئيسا للمهرجان عام 2000 ) ويلخص هنا عصارة ، والدروس المستفادة من تجربته علي قمة أعظم وأشهر وأضخم مهرجان سينمائي في العالم، فيذكر في الفصل السادس والعشرين بعنوان " تعلم " ، الذي يبدأ بعنوان فرعي " مواهب جديدة "أن المهرجان يشهد مرة " سنوات وفرة" ،ومرة أخري " سنوات عجاف " وان مجموعة الأفلام التي يختارها جيل جاكوب مع مجموعة من المساعدين المقربين من أشهر النقاد السينمائيين في البلاد، بالإضافة إلي شبكة واسعة من المراسلين للمهرجان في أنحاء العالم " تتسامق بمجدها وأهميتها..
ليس فقط علي المستوي الفني للأفلام المختارة فحسب ، بل علي المستوي المالي والاقتصادي أيضا، حتى أن كل دول العالم تتطلع بطبيعة الحال إلي أن تكون ممثلة فيها، ولو بفيلم كل سنة. وتفضل بالطبع أن يكون الفيلم ضمن الأفلام المختارة للمسابقة الرسمية للمهرجان التي تحتل مركز الصدارة وتستقطب الاهتمام ، أكثر من الأفلام أو التظاهرات الاخري التي تتضمنها " قائمة الاختيار الرسمي ( في حدود 50 أو 60 فيلم جديد من أنحاء العالم ). ذلك لأن قسم أفلام المسابقة الذي يشتمل علي عشرين فيلما هو " عقد " المهرجان الفريد ، وتتمني كل دولة أن يكون لها في ذلك العقد جوهرة سينمائية أو ماسة.." ..
ويتساءل جيل جاكوب هنا، ماذا تفعل لو كنت مكانه، ويا لها من مهمة شاقة حقا. فالعالم ينتج سنويا حوالي 2000 فيلم ويعرض منها علي المهرجان كل سنة أكثر من 1000 فيلم من جميع دول العالم، وجميعها تطمح إلي المشاركة في المسابقة الرسمية ، فكيف تختار منها 20 أو 22 فيلم علي الأكثر للمسابقة ؟ انه بالفعل كابوس حقيقي يجثم علي أنفاس جيل جاكوب وحده ،الذي يختار بمعرفته ويقرر، ويتعرض بالطبع في كل مرة لحساب قاس وعسير من قبل أكثر من 6000 صحفي وناقد يستقبلهم المهرجان كل سنة ..
ويقول جيل انه لأمر صعب حقا أن تقيم كل فيلم من هذه الأفلام المختارة علي حدة، وكذلك في علاقة كل فيلم بالأفلام الاخري، وبخاصة عندما يكون هناك فارق زمني قد يمتد إلي عدة شهور، بين مشاهدة فيلم وآخر..وهناك سنوات كما يقول تبدأ باختيار أفلام جد جيدة ثم تنتهي باستقبال أفلام ضعيفة لا تصلح في نهاية فترة الاختيار، وأحيانا لا تكون هناك أفلام جيدة كافية بالمرة للمسابقة حتي شهر يناير أو فبراير، أي قبل موعد انعقاد المهرجان في شهر مايو ، والإعلان عن قائمة الاختيار الرسمي وأفلام المسابقة في مؤتمر صحفي عام للمهرجان في نهاية أبريل كما جرت العادة ، فما العمل أذن ؟
يجب علي جيل جاكوب عندئذ أن يحافظ علي برودة أعصابه في ثلاجة أو براد يا للرعب، وينتظر وصول تلك الأفلام المعجزة التي تصل مثل طوق نجاة في آخر لحظة وتنقذ الموقف. .فكما أن هناك لحظات فرح وابتهاج بوصول فيلم رائع، هناك أيضا لحظات يأس وقلق وصبر وانتظار قد تطول، لحين اكتمال مجموعة أفلام المسابقة، لكي تضع نهاية لفترة الخوف والقلق وحرق الأعصاب البشعة..وهكذا تمضي حياة المندوب العام للمهرجان في خندق التوازنات والمراوحات، بين النعيم والجحيم ، بين المتعة والعذاب والألم..
ويقول جيل : " ..أحيانا تتجاوز الأفلام الكبيرة في المسابقة المتوسط العام، كما حدث عام 1979، وأحيانا تكشف الصحافة عن خيبة أملها في أفلام المسابقة، وتلعب ( الصحافة) هنا دورا هاما في الكشف عن طقس و " جو " المهرجان العام . إنها هي التي تصنع وتحدد إن كان صحوا ولطيفا وجميلا ومشمسا ، أو كان كئيبا وممطرا وموحلا، وهي التي تشكل من خلال مداخلتها في المهرجان وتقييمه، تشكل مزاجي الشخصي أنا أيضا. إن صفقت الصحافة، وجد المندوب العام أن ذلك طبيعي جدا ومشروع، وان صفرت، ظن إنها تتآمر عليه.. " ..
وتكشف الصحافة عادة عن خيبة أملها في ما يخص أولا قائمة الاختيار الرسمي ، و في ما يخص ثانيا توزيع الجوائز في المهرجان، فأحيانا يتم اختيار مجموعة أفلام لمخرجين لامعين مشهورين، لكن يتضح لها للأسف في ما بعد، أن أفلامهم لا تصل إلي مستوي الجودة الذي عهدناه في أفلامهم السابقة، وهنا تعبر الصحافة عن خيبة أملها لضعف المستوي العام لأفلام المسابقة..
وأحيانا قد تحيد الجوائز عن اختيارات الصحافيين والنقاد والإجماع الإعلامي الرسمي، فيكون هو السخط العام، وتعبر الصحافة عن خيبة أملها في ألجوائزكما تم توزيعها، وتلعن بالطبع " المندوب العام " المسئول أيضا عن اختيار الأفلام مع لجنة التحكيم وأعضائها. الصحافة هي "ترمومتر" المهرجان،لأن الناقد السينمائي الذي يكتب عن المهرجان وأفلامه،لا يكتب في رأيي بصفته كناقد فقط ، بل يكتب أيضا كما لو كان مديرا للمهرجان ، وعضوا مجهولا في لجنة التحكيم ، ومخرجا سينمائيا، أو مشروعا لمخرج سينمائي، لكن لم يتحقق بعد..
وغالبا ما تكون " حلوي " النقاد والصحافيين في المهرجان كما لاحظت ، اكتشاف " المواهب " السينمائية الجديدة ، وستجد ان البعض من الصحفيين قد يعترض علي اختيار موهبة جديدة تعرض فيلمها في المهرجان لأول مرة، علي اعتبار أنها لم تنضج بعد ، في الوقت الذي يغضب فيه البعض الآخر، ويري أنه كان من الأفضل، بدلا من ضم الفيلم الجديد لمجموعة أفلام التظاهرات الجانبية مثل " نظرة خاصة ، إلحاقه بمجموعة أفلام المسابقة، التي تستقطب إليها أكثر من أية تظاهرة جانبية أخري الاهتمام الأكبر، وأضواء الشهرة والمجد..
إلا أن مجرد مشاركة أول فيلم لموهبة جديدة في المهرجان هو مكسب رائع في رأيي ، فهي في جميع الأحوال لن تخسر شيئا من خلال تقديمها، بل علي العكس، قد يسمح عرض فيلمها في المهرجان بشرائه في أنحاء العالم والدعاية لها ، مما يسهل علي تلك الموهبة السينمائية في ما بعد عملية العثور علي تمويل لفيلمها الجديد التالي ، وبخاصة إن لم يتعرض الفيلم لاستقبال سيء ومدمر ومأسوي من قبل الصحافة..
لم أكن أعرف بالطبع أي شيء عن كل هذه الأشياء التي ذكرتها سابقا ، وعندما التحقت بالمهرجان ، كنت أجهل كل تلك الأمور، وكان علي أن أتعلم وأعي من عند نقطة الصفر.أتعلم أولا أن مهرجان "كان " وتظاهرة بهذا الحجم لا يمكن إدارتها كما لو كنت تقود سيارة سباق..
وثانيا إن من حق الصحفيين والنقاد أن يكون لهم رأيهم وتشخيصهم الأساسي في المهرجان الذي يمكن مناقشته والأخذ به، ومن ذلك توافر عدد كبير جدا من الأفلام للمشاهدة ،وكان لابد من تقليص عدد الأفلام المشاركة، وهو موقف " سياسي " بالدرجة الأولي ( كانت الأفلام تختار سابقا حسب الجنسية وليس الجودة، وتفرض أحيانا فرضا علي إدارته ، وذلك قبل التحاق جيل جاكوب للعمل في المهرجان عام 1977 )
قمت أولا بضم الأقسام الثلاثة من اختراع موريس بيسي - خارج المسابقة الرسمية - في قسم بعنوان " نظرة خاصة " وكان ذلك أول خطأ ارتكبته، فقد كان العنوان الذي اخترته للتظاهرة الجديدة عنوانا شاعريا مستلهما من قصيدة للشاعر الفرنسي بول ايلوار، لكنه لم يكن عنوانا سينمائيا بارزا وموفقا يعلي من قيمة " المخرج " في السينما، مثل عنوان تظاهرة أخري جانبية وأعني بها تظاهرة " نصف شهر المخرجين " من تنظيم نقابة المخرجين الفرنسية ، وكان الوقت فات لتغيير عنوان التظاهرة الجديدة..
لكني كما أعتقد كنت موفقا جدا في إنشاء مسابقة " الكاميرا الذهبية " مبكرا بمجرد حلولي في المهرجان ، وهي المسابقة التي تدخلها الأفلام الأولي لمخرجيها في جميع أقسام المهرجان، وتتنافس في ما بينها للحصول علي " كاميرا كان الذهبية " فقد أدركت ومنذ عام 1977 أن "الصفوة " من المخرجين البارزين في العالم ، بدأت تكبر وتشيخ ، وأنه لابد ومن الضروري فتح الباب ل " جيل جديد " من المواهب السينمائية الجديدة في العالم، لكي يحمل شعلة السينما الفن ، ويواصل مسيرة المخرجين الكبار، وقد تملكتني تلك الفكرة واستحوذت علي كياني حتى أصبحت سلوتي وهوايتي المفضلة بمرور الوقت ، ودفعتني إلي إنشاء مؤسسة " السينيفونداسيون " السينمائية، ومن بعدها " دار إقامة المهرجان "- ريسدانس دو فيستيفال- لرعاية وتبني وتشجيع المواهب السينمائية الجديدة، ثم أني توجت كل هذه الإبداعات أو الهياكل السينمائية بإنشاء " الأتيلييه " أو المحترف ، إضافة إلي تظاهرة سينمائية جديدة بعنوان " كل سينمات العالم "..
إلا أن هذا كله لا يمنع وبخاصة عندما أعجب بمخرج جديد ، أن أصطحبه في رحلته علي درب السينما الفن ، فأعرض أفلامه فيلما وراء فيلم، كما فعلت من قبل مع الدانمركي لارس فون تراير ، والنيوزيلندية جين كامبيون ، والشقيقين الأمريكيين كوين ، والشقيقين داردين من بلجيكا ، وكيسلوفسكي من بولندا ، وونج كار واي من هونج كونج. ومن عند الايطالي موريتي إلي الأمريكي وودي آلان ، ومن دون أن أنسي الأسباني كارلوس ساورا ، والأمريكي روبرت ألتمان ، والفرنسي جان لوك جودار..
وسرعان ما ظهر تأثير ذلك وكل تلك التغييرات التي استحدثتها ، إذ راحت المهرجانات السينمائية ألكبري الأخرى تقلد مهرجان " كان "، وتستلهم من إستراتجيته التي تعتمد في الأساس علي " الاكتشافات " الجديدة ، وذلك بإنشاء الأقسام والتظاهرات الجانبية، وكنت استطيع عندئذ أن أصرخ إن ألحقونا سرقونا ، لكني فضلت أن أطلق صيحة أن تعيش السينما. والواقع أن الصحفيين والنقاد وقفوا إلي جانبي منذ أن بدأت عملي ، وكانوا راضيين عن اختياري ك " سينيفيل " كعاشق للسينما لإدارة المهرجان ، في محل ذلك الموريس بيسي الذي لم يكن أحد يحبه كثيرا ، وكان ينظر إلي الصحفيين والنقاد علي أنهم أشخاص تافهين ولا يفقهون شيئا. و كانت الصحافة، عبرت عن ارتياحها لتلك " الروح الجديدة " التي حطت في شخصي، وشرعت ترحب بكل جديد تعرضه علي شاشات المهرجان..
كنت وحيدا. و كان من اللازم علي أن أبني وأشيد " تجربة " جديدة، وأن ابتدع أسلوبا خاصا وفريدا في إدارة المهرجان. كان علي أن أكتشف، وأن أتعلم من أخطائي، وأن أتقدم وأتطور وأفهم. وكان أول قرار اتخذته، أن أعطي إجابة فورية حاسمة للأشخاص الذين يتقدمون بأفلامهم للمشاركة في مسابقة المهرجان، وأن أرد عليهم بنعم أو لا في نفس اليوم، لكي يفهم الجميع بأني وحدي صاحب القرار..
ومن جانب آخر اعتمدت فورا صيغة العمل، وفقا لمجموعة قواعد محددة، وبحيث لا أحيد أو أتنازل عنها أبدا، وهذه القواعد هي:
القاعدة رقم 1: أن لا أكذب أبدا، وان لا أعد إلا إذا كنت قادرا علي الوفاء بالوعد
القاعدة رقم 2:أن أتحدث مباشرة مع مخرج الفيلم..
القاعدة رقم 3: أن أظهر ثقافتي السينمائية..
القاعدة رقم 4: أن أحوط نفسي بوجهات نظر وأفكار وآراء و " نظرات " جديدة دوما من خلال مجموعة من المستشارين المقربين
القاعدة رقم 5: أن تضم المسابقة الرسمية للمهرجان 12 بلدا علي الأقل كل سنة..
القاعدة رقم 6 : أن لا اعتمد نظام " الحصة"- الكوتا - في اختيار أفلام المسابقة، بحيث يكون للبلد المشارك عدد محدد من الأفلام لا يتجاوزه، وعليه لا مانع أبدا من عرض 4 أفلام من ليتوانيا في المسابقة، إن تقدمت مثلا بأربع « روائع " سينمائية..
القاعدة رقم 7 : قبول مشاركة أفلام النوع – مثل أفلام " الو سترن " الكاوبوي، إذا كانت تقدم جديدا في النوع، وتحقق إضافة..
القاعدة رقم 8 : اختيار أفلام متطورة صاعدة ، داخليا علي مستوي تطور أحداث الفيلم وحبكته، وخارجيا أي علي مستوي تطور ونضج المسيرة الفنية لكل مخرج علي حدة..
القاعدة رقم 9 : لا خوف من " نظام النجوم " ، وبخاصة إذا كان يسمح بأن تروج مثلا لفيلم من الأفلام الفنية " سينما المؤلف " للمخرج البرتغالي مانويل دو أوليفيرا مثلا، من خلال نجمة سينمائي كبيرة مثل الأمريكية شارون ستون..
القاعدة رقم 10 : البحث دوما عن أفلام جد متميزة فريدة، وعدم الانسياق للصرعات والموضات الفارغة الزائلة..
القاعدة رقم 11 : اختيار أعضاء للجنة تحكيم المسابقة من بين الفنانين فقط..
القاعدة رقم 12 : الامتناع عن الرد علي أي " هجوم " علي المهرجان في الصحافة..
القاعدة رقم 13 : تكريم المخرجين المؤلفين الكبار، وتثبيت شهرة من صاروا معروفين منهم ، واكتشاف " أجيال " جديدة من المواهب السينمائية..
القاعدة رقم 14 : أن لا أنسي أبدا أن وجها جميلا لامرأة ، يمكن أن يكون وحده مبررا لوجود الفيلم..
القاعدة رقم 15 : عدم الالتزام بأية قواعد علي الإطلاق. تعيش السينما ..

ليست هناك تعليقات: