الأربعاء، مايو 07، 2008

جنينة الأسماك .بقلم د.شريف حتاتة





"جنينة الأسماك".. والضائعون في بحر الحياة


بقلم

شريف حتاتة(1)

هل يُوجد ما هو أقسى من إحساس الإنسان بالضياع، بأن الحياة صحراء لا مكان له فيها ولا معنى لوجوده، ولا هدف حقيقي يُعطي له قيمة؟ هل الوحدة هى التي تقود إلى هذا أم أنه الخوف ؟ وإذا كان هو الخوف فلماذا نخاف ؟ هل هو مغروس فينا أم أن النظام الذي نعيش في ظله يزرع الخوف في قلوبنا ؟ هل الضياع والوحدة والخوف، هذا الثلاثي الوجودي الذي تُعاني منه فئات من المثقفين، والمهنيين نساءً ورجالاً ميزتهم ظروف الحياة هى التي تجعلهم عاجزين عن التواصل مع الآخرين، عاجزين عن الحب، عن الإقدام، عن الخروج من النطاق الضيق الذي سجنوا أنفسهم فيها، فأصبحوا مثل الأسماك المحجوزة في فناطيس من الزجاج، أو مثل الدجاج في المفارخ، يقضون أيامهم وسط ضجيج مدينة كالقاهرة، وسط فضلاتها الملقاة في الشوارع، وزحامها، وجموعها، ومآسيها، وجحافل الأمن المركزي فيها دون أن يُحركوا ساكناً ليُغيروا شيئاً في أوضاعهم؟ وهل أراد "يسري نصرالله" و"ناصر عبد الرحمن" أن يطرحوا هذه الأسئلة عن طريق الشخصيات المعبرة، والصور المختلفة التي تضمنها فيلمهما "جنينة الأسماك" المعروض حالياً بالقاهرة؟

إنه فيلم لفت الأنظار في مهرجان برلين الثامن والخمسين ( سنة 2008 ) بينما ثار عليه نقاد، وصحفيون أثناء عرضه الخاص يوم 24 مارس في سينما "سيتي ستارز" بالقاهرة، وتركوا الصالة رافعين أصوات الإحتجاج.

قصة رواها أبطالها

تدور الأحداث كلها في الحاضر داخل مدينة القاهرة ما بين مبنى "ماسبيرو" والسيرك القومي وحي "الزمالك" حيث تُوجد حديقة الأسماك وخلال ثمانية وأربعين ساعة فقط من الزمن. "ليلى" إمرأة سنها 32 سنة، قامت بدورها الممثلة التونسية "هند صبري" تعمل مذيعة في الراديو حيث تُقدم برنامجاً اسمه "أسرار الليل". أثناء هذا البرنامج يتصل بها المستمعون تليفونياً، ويبثونها أدق أسرارها دون أن يفصحوا بالطبع عن أسمائهم."ليلى" تلعب الإسكواش" بقوة ومهارة، وتذهب إلى "الديسكو" أحياناً حيث يُحاول الرجال الإحتكاك بها جسدياً. تكتب بعض قصص الأطفال وأحياناً تتناول وجبة سريعة في الكافتيريا مع زميلها مخرج البرنامج، قام بدوره "باسم سمرة". إنه يحبها، لكنه لا يفصح عن حبه، وفي إحدى جلساتهما يُحاول أن يقنعها بأن تستقل بحياتها، أن تعيش وحدها لتتخلص من قيود الأسرة فيدلها على شقة فارغة قد تناسبها. مع ذلك تظل كما هى في حياتها محاصرة في النطاق الضيق لأسرتها المكونة من أم أرمل، قامت بالدور "منحة البطراوي" والتي نراها تنشغل "بالكروشيه" وترفض أن تتحدث عن حياتها مع زوجها الراحل، ومع أخ وحيد منشغل بمشاهدة التليفزيون أغلب الوقت.

تقوم "ليلى" بزيارة الشقة حيث تلتقي بصاحبتها، إمرأة وحيدة مسيحية، قامت بدورها "سماح أنور"، تتساءل ما الذي يُمكن أن يحدث لها لو حكم الإخوان المسلمين في مصر. لكن "ليلى" تتردد في تأجيرها رغم إعجابها بالشقة كأنها تخشى الإقدام على هذه الخطوة.

"يوسف" الذي يقوم بدور الممثل "عمرو واكد" مهنته طبيب تخدير، وسنه خمسة وثلاثين سنة تقريباً. يعمل صباحاً في مستشفى استثماري كبير، وفي الليل في عيادة تتم فيها عمليات إجهاض غير قانونية للنساء الحوامل. "يوسف" يعشق الإستماع إلى ما يحكيه المرضى تحت تأثير البنج، وعندما يستيقظون يروي لهم ما سمعه. إنه مهتم أيضاً بالاستماع إلى برنامج "ليلي" الإذاعي، لكنه منغلق على نفسه لا يحكي للآخرين شيئاً عن حياته. يقضي الليل نائماً في سيارته رغم أنه يمتلك شقة ومرتبط بإمرأة يزورها أحياناً ويبيت عندها. في بعض الأيام يجول حول حديقة الأسماك دون أن يدخل إليها كأنه يخشى أن يُواجه فيها شيئاً يتهرب منه. والده يحتضر من مرض السرطان ويحيا بأنابيب مزروعة في جسمه. الابن "يوسف" يهتم به، ويرعاه، ويستمع إليه بل ويحقن نفسه بالمورفين لُيشجع آباه على تقبل المخدر الذي وصفه له الطبيب. مع ذلك نشعر بوجود حاجز نفسي بينهما يحول دون التعبير عن العواطف التي ربما تعتمل في أعماقهما.

تصطحب "ليلى" شابة في الجامعة حملت من علاقة بأحد زملائها إلى عيادة الإجهاض، فتكتشف أن "يوسف" يعمل هناك. تتعرف عليه عن طريق نبرات صوته سمعتها عندما كان يتصل بها في البرنامج الإذاعي التي تقدمه. تُصاب بصدمة نتيجة هذا اللقاء، لكنه لقاء لا ينتهي إلى شيء فهما يفترقان لنُدرك أن الوحدة التي يُعانيان منها ستستمر دون تغيير، وكأنها قدر، وينتهي الفيلم على هذا النحو.

يختلف تكنيك هذا الفيلم عن أفلام "يسري نصرالله" الآخرى في أسلوب السرد حيث أن الأبطال يقصون أجزاءً من حياتهم، ويُعبرون عن بعض ما يجول في أعماقهم، في أن الأحداث والحوارات واضحة، لا غموض فيها. إنها بسيطة، ويسهل تتبعها، كما أنه مزج في الصوت بين استخدام الكاميرا الـ 35 مم والكاميرا الديجيتال. أنه لا يعبر عما يريد قوله بشكل مباشر وإنما يتركنا لنفهم ما يقصد إليه عن طريق الجو العام الذي صنعه، عن طريق التصوير وأداء الممثلين، بالإيحاء وليس بالكلام، وبفضل التعاون الذي قام بينه وبين الممثلين مما سمح لهم بإجادة أدوارهم حتى فيما يتعلق بالأدوار البسيطة مثل دور "سماح أنور" صاحبة الشقة المعروضة للتأجير، أو دور "أم ليلى" الذي قامت به "منحة البطرواي"، أو دور المخرج الإذاعي جسده "باسم سمرة".

مستوى فني رفيع

الفيلم سلس، والتصوير ملفت للنظر في إنسيابه الحركي واللوني. لا يُوجد استعجال بل الكاميرا متأملة، وتترك فرصة لإستيعاب المشاهد. الصوت واضح والحوار بسيط ومقنع. المشاهد الخاصة بالأب المريض كانت رائعة في صراحتها وعدم إحجامها عن التعرض لقبح المرض والجسم الإنساني عندما يُصاب بالسرطان، لكنه كان قبحاً جميلاً. الممثل "جميل راتب" يستحق الثناء على الدور الذي قبل القيام به ليُثبت أن الفنان الحقيقي يهمه الفن قبل كل شيء آخر.

إنه فيلم عميق يصنع حالة وجدانية، ويُخاطبنا بالصور والإيحاء فيجعلنا نفكر. التساؤل الوحيد الذي طرأ علي ذهني هو ألم يكن من الأفضل أن يتمكن السيناريو من عرض كل ما قام بعرضه في القصة دون أن يقوم الأبطال بالحكي حتى يُحافظ على الحالة التي أدخلنا فيها؟ أقول ربما لجأ السيناريو إلى هذا الحل تسهيلاً للأمر لأن كاتبا الفيلم أرادا أن يقولاً الكثير عن طريق تعدد الشخصيات الموجودة في الفيلم. أما الممثلون فقد قاموا جميعاً بأدوارهم على نحو مقنع ومؤثر بعيداً عن التشنجات التي عودتنا عليها السينما المصرية في كثير من الأحيان وكأن الميلودراما مرض أُلصق بها لا فكاك منه.

يستحق "يسري نصرالله" التهنئة لأنه في هذا الفيلم خاض الطريق الصعب الذي يقود إلى الفن بصرف النظر عن المكاسب المادية، في بلد، وفي ظل صناعة للسينما أفسدت فيها الإعتبارات التجارية كل شيء، بما فيها ذوق المصريين والمصريات ومستواهم الثقافي والوجداني، وبما فيها أيضاً ذوق الكثيرين من نقاد السينما.

قد يتبادر إلى ذهن البعض أن يتساءلوا: لماذا لم يتعرض "يسري نصرالله" إلى مشاكل أهم في حياتنا بدلاً من هذا الترف التأملي والوجداني؟ لكن في رأيي أن دور الفن هو أن يتعرض لجميع نواحي الحياة العامة والتفصيلية، الكبيرة والصغيرة شريطة أن يتعرض إليها بصدق فني، وبمعرفة لموضوعه. وقد سُئل الشاعر الفرنسي "لوي آراجون" يوماً لماذا لم يكتب عن مشكل العمال بينما هو شيوعي فأجاب: "أنا أكتب عما أعرفه".


(1) كاتب وروائي مصري

ليست هناك تعليقات: