كان السينمائي 61 ماذا حقق ؟
بقلم
صلاح هاشم
ترى ماذا حقق مهرجان «كان» السينمائي العالمي في الدورة 61 وما هي يا ترى أبرز ملامحها؟. حقق المهرجان بلا شك الكثير، حيث انه بداية لا يشمل فقط المهرجان الرسمي (أي قائمة الاختيار الرسمي) بل يشمل ايضا تظاهرتين مهمتين جدا تعقدان على هامشه، هما تظاهرة «أسبوع النقاد» وتظاهرة «نصف شهر المخرجين» غير ان الوقت والركض في محاولة لمتابعة افلام المسابقة، وتظاهرة نظرة خاصة في قلب قائمة الاختيار الرسمي (56 فيلما) لا تسمحان بتغطية التظاهرتين الهامشيتين المذكورتين، إضافة الى أن قائمة الاختيار الرسمي تشمل أيضا أفلام مسابقة الأفلام القصيرة، ومسابقة الفونداسيون «المؤسسة» المخصصة لأفلام المعاهد والمدارس السينمائية في العالم. ولذلك لا نبالغ عندما نقول، اننا حين نكون في كان، «نغرق» في «بحر» الأفلام، ولا نستطيع الا الحديث عن أفلام المسابقة (22 فيلما)، وفقط عن بعضها، لكي ننوه بما تحمله من رؤى وصنعة، وفكر جديد، لتطور فن السينما ذاته، وتضيف إليه من ابتكارات واختراعات الفن المدهشة، وإلى حين تسمح الظروف قريبا بالحديث عن أفلام التظاهرات الأخرى.
لا شك في أن أهم ظاهرة في الدورة 61، هي: انفتاح المهرجان في كل التظاهرات الرسمية وغير الرسمية عامة على السينما في آسيا واميركا اللاتينية، واميركا اللاتينية بالذات، حيث عرض المهرجان في المسابقة الرسمية فيلم «سحري الخاص» من سنغافورة و«مدينة 24» من الصين، و«خدمة سرفيس» من الفلبين، لكنه عرض أربعة افلام دفعة واحدة من اميركا اللاتينية هي «العمى» للبرازيلي فيرناندو ميريل، و«ليونيرا» لبابلو ترابيرو، و«امرأة بلا رأس» لليوكريشيا مارتل من الارجنتين، و«خط التمرير» لوالتر ساليس من البرازيل. كما يمكن أيضا ان نضيف الى القائمة فيلم «تشي» للاميركي ستيفن سودربيرغ، فهو ناطق بالاسبانية، وطاقم الفيلم كله من اميركا اللاتينية. وفي تظاهرة «نظرة خاصة» نجد فيلمين هما «لوس باستروداس» لامات ايسكلانت من المكسيك، و«حفل الشابة الميتة» لماتيوس ناشترجال من البرازيل، كما عرض في المهرجان العديد من الأفلام اللاتينية ايضا، من التشيلي وكولومبيا والاورغواي وغيرها في تظاهرة «اسبوع النقاد»، مثل فيلم «دم يظهر» لبابلو فندريك من الارجنتين، وكذلك في تظاهرة «نصف شهر المخرجين» مثل فيلم «طوني مانيرو» لبابلو لوران من التشيلي وغيرها. الاشتغال على التاريخ والسبب في اختيار هذه الأفلام وعرضها في تظاهرات المهرجان، يكمن في ان محاولات السينما للتجديد والتطوير والتحسين المستمر الذكي في بلدان قارة اميركا اللاتينية، وبخاصة في الدول الثلاث الارجنتين والبرازيل والمكسيك، تكتسب أهمية خاصة من ناحيتين، حيث تتمتع أولا كل دولة منها على حدة بتراث سينمائي كبير، وهناك في كل دولة منها تقاليد سينمائية، تراكمت بمرور الزمن، كما هي الحال مع السينما المصرية، ومن هذه التقاليد ينهل شباب سينما الحاضر في تلك الدول. كما انها من ناحية ثانية تركز في أفلامها على واقع بلدانها ومجتمعاتها، بكل ما فيه من مشاكل وتناقضات وأزمات، كما في فيلم «خط التمرير» البرازيلي، كما تهتم وتلتف من ناحية ثانية على تاريخها وذاكرتها وماضيها، لتنقب وتفتش وتبحث فيها، وتقلب في جذورها، وتتعرف على «هويتها». ولذلك تقدم من خلال تلك المحاولات «صورة» تتواصل مع المشاهد في التومن، حيث واقعيتها، وارتباطها بالتقاليد السينمائية الموجودة في كل بلد على حدة أيضا، وإدراك أهمية استمراريتها بشكل أو بآخر في تلك المحاولات. ولذلك لا تحضر أفلامها من فراغ، او تهبط علينا من كوكب آخر، كما في بعض أفلام السينما العربية التافهة العبث التي صارت مسخا، ولم تتطور بطبيعتها منذ زمن، وتلك «العقلية» المتخلفة التي تتحكم فيها. العقلية التي تفكر في ان نجاح الفيلم يتوقف على عدد ملايين الدولارات المصروفة عليه، أو «النجوم» الفواخر الذين سيضطلعون ببطولته، والحفلات التي تقام لإطلاقه للعرض، ولا علاقة لأفلامها بالسينما من قريب أو من بعيد، ولا بواقعنا الذي نعيشه، ولا بحياتنا. ولا يعرف أحد من أين تأتي لهذه الأفلام ميزانياتها الهائلة التي تكفي لفتح عشرات المعاهد والمدارس و«نوادي السينما» والمستشفيات، وإطعام عشرات الملايين من الجوعى المحرومين في بلادنا وعلاجهم، وكذلك صنع أفلام كثيرة، تحكي عن بؤسهم والظلم الواقع عليهم وتلتفت الى شكواهم. معالجات جديدة في حين عجت سيناريوهات أفلام اميركا اللاتينية في المهرجان واحتشدت بالأفكار والأساليب والتجارب والمعالجات الجديدة، لكنها وقبل أي شيء آخر، وعلى العكس من سينماتنا، تغوص عميقا مثل نصل خنجر حاد وقاطع في ضلوع واقعها وحاضرها، وتستلهم وتغرف منه، لكي تقدم نماذج باهرة للسينما الحقيقية كما نفهمها ونحترمها ونقدرها. السينما التي تتحدث عن «الأحشاء» وعن «الجذور»، ولاتأنف من نشر غسيلنا القذر فوق سطح العالم والكون، حيث ان ذلك «الغسيل» مطلوب وضروري وربما في كل فيلم، وحيث ان تواجده وحضوره القوي اللافت للانظار وواقعيته في بعض أفلام المخرج الهندي الكبير ساتيا جيت راي، أو في بعض أعمال مخرجينا الكبار من أمثال صلاح أبو سيف أو توفيق صالح أو يوسف شاهين أو داود عبد السيد أو نوري بوزيد أو اليا سليمان، لم يمنع الناس من زيارة الهند أو مصر أو تونس أو فلسطين، بل ربما يكون، من خلال توهج افلام «الغسيل» الواقعية هذه، الفني والساحر، قد حفزهم أكثر على زيارة بلادنا، والتعرف إليها والى أهلها، والتأمل في ودراسة معالمها وتاريخها وواقعها، كما هي الحال مع فيلم «خط التمرير» البرازيلي لوالتر ساليس الذي دخل مسابقة المهرجان، ونعتبره من أقوى الأفلام التي تعرض لواقع البرازيل الآن. يحكي الفيلم عن واقع أسرة برازيلية مكونة من أربعة شبان تعولهم أمهم التي تعمل خادمة، ومحاولاتهم العثور على مخرج من واقع الفقر والبؤس والبطالة داخل مدينة سان باولو البرازيلية العملاقة التي تضم 20 مليون مواطن، ويصل فيها طول اختناقات المرور من فرط الزحام، الى 200 كيلومتر، وتعتبر من أكثر مدن العالم ارتباكا وازدحاما وفوضى. وينتهي الفيلم بمأساة، حيث تدفع تلك الظروف الواقعية التي نعيشها معهم في الفيلم - مع الأخ الذي يفشل لكبر سنه في ان يصبح لاعب كرة محترفا (الخلاص بالكرة) فيدمن على تعاطي المخدرات والشرب، والأخ الثاني الذي يعمل في محطة بنزين، وينضم الى كنيسة ليصبح واعظا ومرشدا (الخلاص بالدين). والأخ الثالث الذي يعمل في وكالة لنقل الرسائل، وقد تزوج في الخفاء من صديقة له وأنجب منها، ثم يؤدي به الأمر بسبب ظروف البطالة التي يعاني منها الشباب، لا في البرازيل وحدها ودول امريكا اللاتينية بل في دول العالم الثالث أيضا وبلداننا، الى كسر نوافذ السيارات، وخطف حقائب أصحابها بالداخل بالقوة (الخلاص بالسرقة). ثم الأخ الرابع أصغرهم، وهو أسود وفي العاشرة من عمره ولا يعرف من يكون والده، فيروح يبحث عن الوالد طوال الفيلم من خلال صورة تحتفظ بها الأم، ثم ينتهي به الأمر الى سرقة اتوبيس نقل عام، لكي يهرب به من ظروف البؤس المرعبة في شوارع سان باولو. تدفع كل تلك الظروف بالطبع من خلال تصوير الحياة في تلك المدينة العملاقة الى اليأس والملل والإحباط وارتكاب الجريمة، غير ان سوداوية الفيلم ونظرته التشاؤمية المأسوية الموحشة، وغسيل البؤس الذي ينشره في «كان» ليصور حال سان باولو وضياع شبابها، لن يمنع أبدا الناس من زيارتها، والتصفيق لكل تللك المحاولة الفنية في الفيلم التي تستحق الاعجاب، وبخاصة اذا عرفنا ان والتر ساليس مخرج الفيلم لم يضع الاخوة الاربعة مع امهم في ديكور شقة داخل استديو واخذ يصورهم، بل جعلهم لكي يكون فيلمه اكثر واقعية ومصداقية في تصويره لظروف العيش القحط البائس في المدينة، يعيشون داخل بيت حقيقي من بيوتات الاحياء الشعبية الرثة الفقيرة والعشوائيات التي تكتظ بالهامشيين والعاطلين عن العمل وتشكل الآن غيتوهات للبؤس على حافة المدن الكبرى، كما انه لم يختر أبطاله الأربعة من «النجوم» الفواخر، بل اختارهم من بين الهواة، الذين يمثلون في السينما لأول مرة!! ولم يفكر أبدا في أن نجاح الفيلم واختياره ضمن أفلام المسابقة في المهرجان ستتوقف على ملايين الدولارات التي سوف تنفق على إنتاجه، ودفع أجور نجومه، بل ستتوقف على واقعيته ومصداقيته. تحرير «النظرة» وربما كان هذا الفيلم أنضج أفلام والتر ساليس وأحد أهم الأفلام البرازيلية في الوقت الحاضر، حيث لايهتم مخرجنا هنا بالالتزام بالحكاية التقليدية، فيركز على حكاية اخ، ثم ينتقل الى الاخ التالي ليحكي لنا حكايته، بل يتجول بكاميرته كما يشاء في انحاء المدينة وهو يعرض في ذات الوقت لحكاياتهم، لكي يمسك بحركة الحياة فيها وتوهجها. ويبدأ الفيلم بلقطة مشهدية رائعة للأم، التي تشجع ناديا للكرة، ونراها تشاهد مباراة لناديها في إستاد ضخم ترفرف عليه الأعلام، وقد بدت تلك الأعلام مثل خيمة كبيرة تغطي المشجعين بالآلاف في الإستاد، وهم يمارسون طقسا دينيا جماعيا وروحانيا، لكي يصير الكل في واحد مطلق، يتحرر من الجاذبية الأرضية عند تسجيل هدف في مرمى الخصم، وينطلق مثل طائر في عنان السماء. ولذلك أيضا نجد ان الفيلم من ناحية الأسلوب، يجمع بين الروائي والتسجيلي، ويتنقل بينهما وفقا لمزاج المخرج وإرادته، وفي ذلك أيضا «تحرير» للنظرة، نظرة المشاهد، لكي تتجول مع المخرج، ولا تتقيد بالمشاهد الروائية الحكائية في الفيلم فقط، بل تتنقل معه وعن طواعية بين الروائي والتسجيلي، وهو اتجاه بدأ يفرض نفسه وقد برز في عدة أفلام أخرى بما يشكل أيضا ظاهرة في الدورة 61 مع ظاهرة السينما اللاتينية.. إن نظرة واحدة الى قوائم أفلام التظاهرات الرسمية وغير الرسمية في الدورة تكشف أيضا عن حضور دول أخرى غير البرازيل والأرجنتين والمكسيك بأفلامها في المهرجان، مثل البراغواي وفنزويلا والتشيلي، لكن مع حضور أكبر للسينما الأرجنتينية، يفوق حضور كل بلدان اميركا اللاتينية الاخرى. ولا شك في أن ذلك الحضور «اللاتيني» البارز، يجعل من هذه الدورة الـ61 دورة تكريم غير مقصود لسينما اميركا اللاتينية، لتنوعها الهائل، وإضافاتها وانجازاتها الملهمة لتطوير فن السينما. ويجعلها أيضا سنة للسينما الأرجنتينية في المهرجان عن جدارة، وتكريس لذلك الحضور السينمائي الارجنتيني من خلال «ايقونة» كرة القدم مارادونا الذي حضر المهرجان بمناسبة عرض فيلمه «مارادونا» اخراج الصربي أمير كوستوريكا، وتستحق لكل تلك الأسباب التي ذكرناها أن نصفق لها ولأفلامها.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق