شاشة التلفزيون اليوم : مرآة نرجس.. ومكانا لاستعراض الذات
كتب : درويش الحلوجي
ربما يكون المفكر والفيلسوف الفرنسي بورديو هو أخر المفكرين الكبار الذين تركوا بصماتهم الفكرية ، وأثروا بشكل عملي علي الحركات الاجتماعية والسياسية التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين, ويعد أحد أهم المنظرين الذين تعد أعمالهم أدوات للنضال الفكري والنظري، فيما يعرف الآن بحركة العولمة البديلة. في السنوات الاخيرة من التسعينيات كرس بورديم اهتماما كبيرا لنقد الدور الذي تلعبه وسائل الاعلام والميديا الجديدة في فرنسا، وشن نقدا حادا علي فساد وسائل الاعلام الفرنسية, وتبعية المثقفين الفرنسيين الذين أطلق عليهم " كلاب الحراسة الجدد " كما ركز بشكل خاص علي الدور الخطير الذي يلعبه التلفزيون في تكريس الاوضاع والمصالح السائدة ، وفي التفريغ السياسي، واللعب بعقول المستهلكين من المشاهدين. لقد أثار كتاب " التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول " منذ صدوره ولايزال الكثير من الضجة والتعليقات مابين الترحيب والحماس الشديد، وبين الهجوم الحاد علي الكتاب ومؤلفه، ويكفي ان نعلم أنه صدرت للكتاب ثماني طبعات في الفترة الاولي من اصداره. يقول بوردو في الفصل الاول من الكتاب بعنوان المسرح والكواليس : " سأحاول هنا من خلال التلفزيون أن اطرح بعض الاسئلة عن..الدور الذي يلعبه التلفزيون..وهذه رغبة تبدو متناقضة الي حد ما لأنني اعتقد بشكل عام ..أنه لايمكن أن نقول شيئا كثيرا من خلال التلفزيون ، وبشكل خاص عندما نريد أن نقول شيئا عن التلفزيون. أليس من الواجب علي ، اذا كان صحيحا انه لايمكن أن نقول شيئا ذا أهمية عبر التلفزيون- أن استخلص مع عدد من كبار المفكرين والفنانين والكتاب أنه علينا جميعا أن نمتنع عن التعبير عن آرائنا من خلال التلفزيون ؟. يبدو أن هذا البديل لم يتم قبوله بشكل قاطع وفقا لطريقة كل شييء أو لاشييء. انني اعتقد انه من المهم الاشتراك والتحدث عبر التلفزيون لكن " تحت شروط معينة" ، انني أستفيد اليوم بشروط تعتبر استثنائية تماما وذلك بفضل قسم الصوتيات والمرئيات بالكوليج دي فرانس
أولا- الوقت المخصص لي غير محدود ، وثانيا- الموضوع الذي اتناوله في خطابي غير مفروض علي- لقد حددت الموضوع بشكل حر- ويمكنني أيضا أن أغيره، وثالثا- ليس هناك أحد، كما هو الحال في البرامج التلفزيونية العادية لكي يذكرني بضرورة الالتزام بالتعليمات بحجة الضرورات الفنية، أو بسبب المشاهد الذي لن يفهم مايقال أو بأسم مراعاة الاخلاقيات أو الضروريات الفنية للمشاهد الجيدة الخ. لكن هل يمكن أن نقول لماذا نقبل الاشتراك علي الرغم من كل شييء في برامج التلفزيون في ظل الظروف العادية ؟ هذا سؤال غاية في الاهمية وع ذلك فان غالبية الباحثين والعلماء والكتاب ممن يقبلون المشاركة لايطرحونه، ويبدو لي ضروريا أن نتساءل عن هذا الغياب. كما أنه من الحقيقي انهم لايستطيعون ان يعتمدوا علي اعمالهم لكي يكونوا حاضرين باستمرار, فليس لدي هؤلاء من طرق اخري الا الظهور بشكل متكرر كلما كان ذلك ممكنا علي شاشة التلفزيون, وبالتالي أن يكتبوا علي فترات منتظمة وايضا مختزلة بقدر الامكان، كتبا وظيفتها الاساسية، كما لاحظ ذلك جيل ديلوز، تأمين دعوتهم الي البرامج التلفزيونية. لهذا السبب أصبحت شاشة التلفزيون اليوم نوعا من مرآة نرجس، ومكانا لاستعراض الذات.. وللمقال بقية
درويش الحلوجي* كاتب ومترجم مصري مقيم في باريس.صدر له عدد من الترجمات منها " الكون . البحث عن لحظة الميلاد.تأليف هوبرت ريفز و" ابستمولوجيا: نظرية المعرفة " تأليف جاستون بلاشار, وكتب عددا من الدراسات حول " الانتفاضة الشعبية في مصر" و" العلم والدين والمصالح: الخطاب الديني لدي العلماء المصريين" اطروحة في سوسيولوجيا المعرفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق