السبت، أغسطس 22، 2009

دردمات وثنائية السجان والسجين بقلم امير العمري

المخرج العراقي سعد سلمان


دردمات: ثنائية السجان والسجين




بقلم امير العمري




"دردمات" هو ما أنجزه فنان الفيلم العراقي المغترب في باريس سعد سالمان، وصوره في "العراق بعد الفوضى" - إذا جاز التعبير.

"دردمات" هي الهمهمات أو الغمغمات التي قد تكون خارجية أي مسموعة، يهمهم بها المرء لنفسه أساسا، أو دفينة داخل العقل لكنها مسموعة له.. بعد أن يعجز عن فهم ما يحدث له وما يحدث حوله.


إنه ليس فيلما مثل سائر الأفلام، يروي قصة تلعب فيها الشخصيات أدوارا رئيسية أو ثانوية تدور حول "حبكة" ما لكي تصل بنا إلى النهاية المحتومة، بل هو أيضا نوع من "الدردمات" السينمائية من ناحية الشكل أيضا إذا جاز التعبير، والمقصود أنه يعتمد على التحرر الكبير في السرد، وفي تركيب الجمل التي يستخدمها في بناء عالمه السينمائي.

ليس في الفيلم شخصيات بالمعنى المتعرف عليه بل شخصيتان أساسيتان فقط هما السجان والسجين.

وصحيح أن هناك التزام بمبدأ وحدة الزمان والمكان، لكن سعد سالمان يكسر هذا الإطار الزماني المكاني ويتجاوزه تماما كما يتجاوز "الدراما" التقليدية التي يحكمها الصراع بين الشخصيات، فيقوم بتجريد موضوعه ويحصره في هاتين الشخصيتين: المثقف والسجان، والإثنان يعكسان مأزقا مشتركا، فالسجان الذي ينفذ الأوامر والتعليمات- كما يقول- طوال سنوات عديدة، يقتل حسب التعليمات، ويعذب طبقا للأوامر، لا يمكنه أن يصدق أن هذا النظام الصارم الذي ظل خاضعا له لسنوات، قد سقط وانتهى، ولم يعد هناك ضباط ولا جنود في المعتقل الرهيب الكامن تحت أرض مزرعة للدواجن في بغداد، وهو يتصور في البداية أن في الأمر "مؤامرة ما". لكنه يبدأ وهو بين بعض العقل والكثير من الجنون، في تذكر كيف اختفى كل المعتقلين، بعد أن لقوا جميعا حتفهم بالقتل، ولم يبق هناك سوى سجين واحد هو زهير" الذي يقوم بدوره سعد سالمان نفسه، ذلك المثقف الذي قضى أكثر من عشرين عاما في سجون النظام، ويجد نفسه في لحظة عبثية مفارقة، الناجي الوحيد من المذبحة الجماعية في المعتقل في الساعات التي تسبق السقوط.

السجان لا يستوعب لحظة التغيير الفارقة في حياته فينتهي إلى الجنون المطلق والهذيان الذي لا ينتهي: يضرب أبواب الزنازين ويصرخ في المعتقلين الذين لم يعودوا هناك، يخاطب مسؤولا لم يعد له وجود على الطرف الثاني من الهاتف، يجدل أسلاكا يحاول أن يصنع منها مشنقة، يفكر في شنق السجين أو اطلاق النار عليه ثم يتراجع عن الفكرة ويقدم له الطعام ويحلق له لحيته التي استطالت فجعلته يبدو أقرب إلى حيوان مذعور يحملق بعينيه الواسعتين المندهشتين في الفراغ لا يفهم ماذا يدور حوله. ويقرر السجان اصطحاب السجين إلى الخارج للنجاة معه، وأمام ممثلي القوات الغازية يتهم كلاهما الآخر بأنه السجان، وينتهي الأمر بالإفلات من المأزق المؤقت ولكن في اتجاه المأزق الأكثر .


إنه مأزق السجان والسجين، وهو مأزق وجودي كما أنه مأزق تاريخي أيضا. من ناحية هو أقرب إلى عبث كامي الفارق في علاقة الفرد بالعالم، منه إلى أفكار سارتر حول مسؤولية الفرد عما يحدث له، لكنه أيضا عن ذلك المأزق التاريخي الذي يتمثل في أن "الحرية" التي تتحقق أخيرا حينما يرى السجين الشمس للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، سرعان ما يكتشف أنها ليست الحرية التي يعرفها بخبرته السابقة في الحياة قبل السجن. لقد اختفت الأماكن، واختفت معها "الذاكرة" التي تحددها في ذهنه. إنه يخرج من المعتقل لكي يكتشف أنه أصبح سجينا في سجن أشد قسوة، ليس فقط سجن الواقع الكبير، بل سجن الذات بعد أن فقد القدرة على الإحساس بما يحدث حوله أو عجز عن فهم أي منطق له.

إن بغداد التي عرفها السجين المثقف قبل دخوله السجن ليست هي التي يخرج إليها بعد "سقوط التمثال".

ما هذه الوجوه، وماذا حدث للنساء: لماذ يرتدين الملابس السوداء، وما كل هذا الحزن المطل من عيونهن، وأين ذهبت الوجوه البشوشة، ومن أين أتت كل هذه السيارات وهؤلاء البشر، ولماذا لم يعد يجد كتبا في جماليات الشعر والفن، لماذا أصبحت كلها فجأة كتبا دينية. وما هؤلاء التجار المنتشرين كالوباء في كل مكان، أين الوزارات.. أين الداخلية والأمن، بل أين ذهبت الدولة؟ أين الدولة؟

هذا السؤال الأخير يتردد على صورة "دردمات" خارجية، أي بصوت عال، وهو يتوجه بالسؤال إلى رجل في عرض

الطريق. الرجل يشير بيده في اتجاه ما ويقول إنها هناك. يسأله زهير: هل تراها؟ نعم إنها في نهاية الممر. يسير في اتجاه الممر وينفذ في مشهد يتجاوز الواقعية إلى السريالية، من داخل السوق، لكنه لا ينتهي سوى إلى الفراغ.

أما السجان المجنون، العريف "جبار" فإنه يصبح لصيقا به كما لو كان قدره الذي لا يملك منه فكاكا، فهو يتبدى له في كل مكان، بل ويبدو أحيانا كما لو كان يطارده، يريد أن يخنقه بكتلة من الأسلاك المجدولة يلفها حول رقبته. هذه الأسلاك يراها أيضا في كل مكان من شوارع بغداد، تلك الأسلاك العشوائية الكثيفة المجدولة الممتدة في الفراغ. إنها الخوف الكامن في داخله من المعتقل الذي لم يكن يرى في داخله سوى الضوء الأحمر.

هذه التساؤلات لا تؤدي إلى إجابات "منطقية" من داخل فيلم سعد سالمان، فهو ليس عملا تقليديا يخضع للمنطق المألوف كما أشرت، بل يبدو ككل، أقرب إلى حلم، أو بالأحرى، كابوس طويل ممتد في الزمان والمكان. نعم هناك ملامح للواقع من مدينة بغداد بشوارعها ونهريها الخالدين وأسواقها وسكانها، ولكن في سياق آخر مختلف بعد أن فقدت الأشياء معناها، فالأماكن لم تعد هناك، وما بقى فقد صلته بالذاكرة أو أصبح حطاما، والناس ليسوا نفس الناس رغم أن ملامحهم لم تتغير كثيرا، والقبح حل محل الجمال، والحزن حط على المدينة، والذاكرة نفسها أصبحت مهددة بالفقدان والضياع.. فما السبيل؟

هذه التساؤلات كلها تأتي إلينا من بين ثنايا لقطات هذا العمل البليغ البديع الرقيق الذي يصنعه فنان مهجووس بطرح الأسئلة، لكنه غير معني بتقديم إجابات عليها، فهو لا يرغب في محاكمة أحد، ولا في توجيه إدانات، بل يبدو فيلمه بأكمله، كما لو كان مصنوعا من وحي مثقف اغترب عن هذا الواقع، سواء وسط سنين المنفى الممتدة في أوروبا، أو داخل غياهيب السجن، ثم عاد وحيدا، كما لو كان قد ولد اليوم فقط، مع موت آلاف الأشياء التي كانت تشكل معالم أحلامه.. واليوم لم تعد الأحلام هناك. ولا يوجد أحد يمكنه أن يسمع، تماما كما كان الأمر دائما في حياة (زهير- سالمان): "ثلاثون سنة أتكلم ولا أحد يسمع!

هنا كاميرا واثقة، تعرف متى تتحرك، تمسح جدارا أو صفحة نهر، وغناء شجي حزين يمنح الصورة أحيانا لحظات من الإنارة الداخلية بعد أن تتوقف كل الكلمات والدردمات. وأداء تمثيلي، صحيح أنه يميل إلى الشكل المسرحي في أداء محمد المعموري تحديدا (في دور السجان) إلا أنه مقصود لتكثيف تلك الحالة من الهوس التي تجعله مثلا يقوم بتمثيل دور الجلاد والضحايا عندما يأخذ في اطلاق الرصاص على معتقلين وهميين لم يعد لهم وجود في المعتقل، ثم يلقي بالسلاح ويرتمي على الأرض ليمثل دور الضحية وهو يترنح متألما ينازع لحظاته الأخيرة قبل الموت.

نهاية الفيلم.. شعار مكتوب على جدار قرب النهر "عاش العراق الجديد".. بطلنا يبدو أنه سيستغرق في النوم.. أو ربما يدخل إلى غيبوبة طويلة.. فالفيلم ينتهي بالإظلام التام مباشرة بعد هذا الشعار المكتوب.. فما الذي حدث لعراق زهير وأين أخذوه منه.

ليست هناك كما ذكرت، إجابات، ولا رغبة في تقديم اجابات أو "بيان" احتجاجي من خلال المزج بين الوثائقي والدرامي، حقا هناك إعادة صورة مؤثرة بواقعيتها الوثائقية لبغداد بعد الحرب، لكن مفردات "دردمات" أقرب إلى مفردات الشعر، كلمات وجمل وأبيات متناثرة، لا تهدف إلى الحكي وإلى صنع "التراكم" بل إلى التعبير عن المشاعر والهواجس والافكار والأحاسيس. وفي الفن.. هذا كل ما يهم.


عن موقع الجزيرة الوثائقية

ليست هناك تعليقات: