السبت، أغسطس 01، 2009

تعقيب وتوضيح من الناقد امير العمري بمناسبة فوزه بجائزة قلم الاهقار الذهبي

المخرج الفلسطيني ايليا سليمان

ايليا سليمان في مهرجان كان السينمائي 2009

الناقد السينمائي امير العمري



تعقيب وتوضيح من امير العمري بمناسبة فوزه بجائزة " قلم الاهقار الذهبي " في النقد السينمائي



أمير العمري : لماذا والي متي يكون النقاد في المهرجانات للفرجة فقط ؟



كتب : صلاح هاشم

شعرت بسعادة غامرة ، عندما قرأت الخبر التالي الذي نشرته جريدة " ايلاف " بتاريخ الجمعة 31 يوليو 2009 ، بخصوص فوز الناقد السينمائي المصري الكبير الصديق أمير العمري المقيم في لندن بجائزة " قلم الاهقار الذهبي ".. ويقول الخبر:


" إيلاف من لندن: فاز الناقد السينمائي المصري أمير العمري، المقيم في لندن حالياً، بجائزة "قلم الأهقار الذهبي" وقيمتها 5000 دولار عن مقاله النقدي المميز عن فيلم" الزمن الباقي" للمخرج المصري إيليا سليمان بين الحداثة وما بعد الحداثة. ويعتبرأمير العمري واحداً من أبرز نقاد السينما في العالم العربي ، وهو كاتب وباحث ومحاضر سينمائي. نشر مقالاته السينمائية في عدد كبير من الصحف والمجلات العربية. حاضر في عدد من الجامعات، من بينها كلية الدراسات الشرقية في لندن، وكلية الاعلام في جامعة 6 أكتوبر. شارك بوصفه عضواً في لجان التحكيم لعدد من المهرجانات السينمائية العربية والعالمية أبرزها مهرجان "أوبرهاوزن السينمائي للأفلام التسجيلية والقصير" (ألمانيا)، مهرجان طهران للأفلام القصيرة (إيران)، مهرجان لوكارنو السينما (سويسرا)، مهرجان تطوان السينمائي (المغرب)، ومهرجان كان السينمائي (اللجنة الدولية للنقاد). شغل العمري عدداً من المناصب الإدارية نذكر منها، رئيس جمعية نقاد السينما المصريين (2002-2003)، ومدير مهرجان الاسماعيلية السينمائي (2001) ورئيس تحرير مجلة السينما الجديدة (2002-2003). ويحرر حالياً صفحة السينما في موقع بي بي سي أرابيك دوت كوم التابع لهيئة الاذاعة البريطانية. صدرت للعمري ثمانية كتب من بينها "سينما الهلاك: اتجاهات وأشكال السينما الصهيونية، اتجاهات جديدة في السينما، هموم السينما العربية وكلاسيكيات السينما التسجيلية". منهمك إضافة الى عمله في موقع البي بي سي بتحرير مدونة "حياة في السينما" على شبكة الانترنت التي أطلقها في أغسطس 2008. ". وأوضحت ايلاف أن المعلومات المذكورة في الخبر عن سيرة امير العمري الذاتية والابداعية، مقتبسة بتصرف من موقع وكيبيديا الحرة..

والحقيقة ان مصدر سعادتي وفخري بحصوله علي تلك الجائزة ، هو اعتزازي اولا بصداقتي لامير منذ زمن بعيد ، ولأنه أمير من النوع الذي لاينسي ابدا اصدقائه، فهو يذكر دوما بهم، ويتذكرهم ، ويحبهم كما هم ، وليس كما يحب امير ان يكونوا ، أن يكونوا مثله او علي ذوقه أوشاكلته ، ولذلك يتركهم امير (علي هواهم) اوعلي سجيتهم ، وهو شييء جميل ومتميز عنده، فهو لا يسعي ابدا لتغيير اصدقائه،ولا يطلب منهم ان يتمثلوا رأيه،او يشاركوه وجهة نظره في الحياة والسينما والافلام ، ولهذا السبب احمل لأميرمحبة وتقدير خاصين..

غير ان امير ، وهو جانب مهم جدا في شخصيته، يتميز عن بقية اصدقائي بميزة خاصة ومهمة ، الا وهي انه يشجع اصدقائه المقربين علي الابداع والعمل والكتابة، وقد كانت سعادتي كبيرة جدا بزيارته حديثا الي باريس،فقد تجولنا وتصعلكنا كالعادة في حواريها وشوارها ، وتحدثنا في امور شتي من ضمنها تربية العيال و الفن والافلام ، ولم نتعب من المشي والكلام ..

ومن خلال حواراتنا التي لم تنقطع، كنت اشعر بان تلك الحوارات المفتوحة علي الحياة والهواء الطلق تحت سماء باريس، يجب ان تسجل علي الفور حتي لا تضيع، وانها تحفز،ولو بشكل غير مباشر، تحفز وتشجع أيضا علي الابداع والعمل والكتابة، كما انها تشي في ذات الوقت بقلب انساني كبير عند " أبو ريم " يجعلك تحبه أكثر..

كتابات ذات طابع خاص

فرحت في الحقيقة لامير، عندما قرأت الخبر المنشور في " ايلاف " ، كما لو كنت انا الذي فزت بالجائزة، فامير صاحب قلم أصيل، ومتميز، وله " نفس " خاص في الكتابة – كتابة تفكر ، وتوظف السينما كأداة تفكير، بل وتشعر وانت تقرأ أحيانا مقالاته، بأنه كان يمكن بان يضيف اليها من عنده الكثير، الكثير من بنات افكاره ومواقفه وقناعاته، بالاضافة الي الافكار التي تضمنتها تلك المقالات من قبل،ومن هنا تنشأ متعة اللقاء والحديث معه، والصعلكة في صحبته في شوارع المدينة ، حيث لا ينتهي معه ابدا حبل الكلام عن الحياة والسياسة والافلام ومغامرة الكتابة..

هذه المغامرة المسنودة عند امير علي ثقافة سينمائية موسوعية، ومعرفة واجادة للغة اجنبية ، وتجربة حياة سينمائية وغير سينمائية عريضة ، وفضول معرفي لاحد له .لكني احببت بعد ان اطلعت علي الخبر المذكور ان استوضح امير أكثر في ما يتعلق بتلك الجائزة، فأرسل الي أمير الرد التالي الذي يقول فيه :



لماذا والي متي يكون النقاد في المهرجانات للفرجة فقط




" ..عزيزي صلاح
لم تشأ كل الظروف والترتيبات أن أشارك في مهرجان وهران السينمائي الثالث، وقد اضطررت بالتالي لعشرات الأسباب الخاصة بالعمل، وبانشغالي في مهرجان آخر انهمكت بالعمل فيه، وأيضا بسبب تعذر الاتصال المستمر مع ادارة مهرجان وهران، لترتيب التغطية الاعلامية التليفزيونية اليومية التي كنا في بي بي سي نعتزم القيام بها، وتركيز المهرجان على موضوع اشتراكي في حلقة النقد السينمائي.. بينما لم أتمكن من كتابة البحث المطلوب في حينه، وغير ذلك من أسباب، حالت دون ذهابي.
لكني شاركت بالفعل في مسابقة أفضل مقال بمقالي عن فيلم "الزمن الباقي" لسبب رئيسي، هو اهتمامي الكبير بفكرة حصول النقاد أخيرا،على تقدير حقيقي في مهرجان عربي من خلال مسابقة، وليس من خلال اختيارات أصحاب المهرجان ، وهو ما كنت أطالب به، وهذا من أهم الجوانب التي ابتكرها مهرجان وهران الذي لم يسبق لي حضوره بالمناسبة.
إنني أرى أن النقاد، الذين يصنعون السينمائيين ويساهمون بدور بارز في لفت الأنظار إلى أفلام كثيرة ومخرجيها، لا يلقون نفس ما يلقاه السينمائيون عادة من احتفاء وتقدير بمنحهم جوائز مالية. وكنت دائما أرى أنه لابد من تقدير جهود النقاد ، وتكريم هذا الجهد بما يليق، أي عن طريق تخصيص جوائز مالية أيضا على غرار ما يحصل عليه السينمائيون. وسواء حصلت أنا على الجائزة ، أم حصل عليها غيري من النقاد ، فهذا يعد تكريما لنا جميعا ولما نقوم به.
في المقابل يجب أن أعترف بأنني لم أكن سعيدا، عندما علمت أن مشاركة عشرة من النقاد في ندوة حول السينما العربية ويطلب من كل منهم إعداد ورقة بحث يساهم بها ، بكل ما يقتضيه هذا من جهد وعمل شاق قد يستغرق أكثر من اسبوعين إذا كان الناقد فعلا يتعامل بالجدية المطلوبة مع مادته، وعلمت ان المشاركة ستكون بدون أي مقابل مالي. وكان يجب في اعتقادي أن يقدر المهرجان هذا الجهد الخاص من المساهمات، وألا يقال إن هذا الجهد سيكون "تطوعيا"، فما معنى " التطوع " هنا خاصة وكيف يمكن ان يكون المقابل للجهد المبذول لكتابة المادة النقدية المطلوبة مجرد " تقدير رمزي " ، ولماذا يطلب من اي ناقد أو كاتب محترف التفرغ للقيام بجهد تطوعي ، في حين أن المهرجان يعلن أن لديه ميزانية تبلغ 2 مليون دولار؟
ولماذا لا يخصص المهرجان عشرين ألف دولار مثلا كمكافآت للنقاد؟ هل وجود النقاد الذين يساهمون في وجود المهرجانات وترسيخها، حتى ولو عن طريق انتقادها، أصبح وجودا رمزيا، هل يكفي دعوتهم للفرجة على تكريم السينمائيين (بالجوائز والتقدير والأموال أيضا!!). وحديثي هنا لا ينحصر فقط في مهرجان معين، بل يشمل معظم المهرجانات العربية. والموضوع بأكمله كما أشرت، يتعلق بمكافآت رمزية في النهاية، فهل ترقى في النهاية جوائز النقد أو مكافآت النقاد إلى ما يحصل عليه السينمائيون!
وأنا لا أتكلم عن المال من أجل المال، فهذه المبالغ لا تغني أحدا منا.
وأخيرا.. ولعلمك الخاص، حتى هذه اللحظة أنا قرأت ما نشر عن حصولي على جائزة ذات قيمة مالية منحتها لجنة تحكيم في مهرجان وهران، ولم يمنحها المهرجان، لكني لم أسمع ولا كلمة واحدة، ولم أتلق أي رسالة من المهرجان تفيد حصولي على هذه الجائزة، ولا من الذي استلمها نيابة عني مثلا.. لا شيء على الاطلاق من جانب المهرجان بل صمت مطبق.. فما معنى هذا؟ هل فوجيء المهرجان بحصول ناقد مستقل لم يحضر المهرجان، على هذه الجائزة من لجنة تحكيم لم يعلن عن أسمائها مسبقا ، ولم أكن أعرف ممن تتكون أصلا!
لا أعرف

وتقبل تحياتي

أمير العمري

..



كل هذه التساؤلات المهمة التي يطرحها امير العمري هنا في تعليقه هي مايجب ان ينشغل به كل نقاد السينما الجادين المحترفين بالفعل ، والمطلوب الآن موقف محدد وموحد تجاه تلك المهرجانات التي لا تحترم النقاد ولا تعجبها ارائهم وانتقاداتهم علي مساخرها وميزانياتها وحفلاتها الاستعراضية وتريد ان يعملوا ويكتبوا ببلاش. وباب التعليقات مفتوح في سينما ايزيس للتعقيب والنقاش والردود لمن شاء ان يدلي بدلوه..

سينما ايزيس تهنيْ امير العمري ، وبمناسبة حصوله علي جائزة " قلم الاهقار الذهبي " تعيد هنا نشر المقال الفائز بالجائزة المنقول عن مدونته " حياة في السينما " وبعض تعليقات القراء حوله..




المقال الفائز بجائزة " قلم الاقوار الذهبي "




فيلم "الزمن الباقي" لإيليا سليمان بين

الحداثة وما بعد الحداثة



بقلم امير العمري



فيلم "الزمن الباقي" للمخرج إيليا سليمان هو الإسم المطبوع باللغة العربية على شريط الفيلم الذي عرض في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ62 ، ورغم ذلك مازلنا نقرأ لمن يطلقون عليه "الزمن المتبقي"، تماما كما تطلق صحيفة معينة على فيلمه السابق "يد إلهية إسم "يد قدرية"!

كثيرون يعتبرون أن أسلوب التعبير السينمائي عند إيليا سليمان في فيلمه البديع هو أسلوب ينتمي إلى ما بعد الحداثة postmodernism في حين أن الصحيح أنه ينتمي إلى الحداثة modernism أساسا، وفي المقام الأول.

الأسلوب الحداثي يتضح أولا في كون الفيلم قائما على التأمل العقلي، رغم البناء الذي لا يمكن اعتباره بناءًَ تقليديا على أي مستوى. إنه بناء ينتقل بين الأزمنة انتقالات واضحة ومحسوبة عبر فترات زمنية محددة، دون أن يقفز فيما بينها أو يجعلها تتداخل بحيث لا يستطيع المشاهد التفرقة بين الماضي أو الحاضر: في الأزياء وطريقة التعبير أو الملامح، بل إن وجود "البطل- المؤلف- المخرج" في الكثير من لقطات ومشاهد الفيلم صامتا متأملا، يؤكد طيلة الوقت على وجود "صاحب الرؤية" أو "صاحب النص" وعلى أهميته، وهذه كلها من الملامح الأصيلة للحداثة modernism في حين أن ما بعد الحداثة تميل إلى استبعاد المؤلف أو التقليل من أهميته ومن أهمية ذاكرته أو حياته الشخصية، كما تميل إلى تداخل الأزمنة والخلط فيما بينها في نسيج مركب أقرب إلى "الاسكتشات".

ليس هذا فقط بل إن وجود المؤلف، صاحب النص والرؤية، يرتبط ارتباطا وثيقا بفكرة استدعاء الذاكرة، وتصفية الحساب مع الماضي، في محاولة لفهم ما حدث في الماضي، وكيف كان ممكنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه: على الصعيد الشخصي السينمائي يعيش واقعه داخل فلسطين المحتلة بكل ما يحيطه من مظاهر "اغتراب" يعبر عنها ويعكسها في فيلمه ببراعة، أو على الصعيد العام: الانتقال من تراجع إلى آخر، ومن اشتداد في القسوة يؤدي إلى مزيد من التهميش والاغتراب دون القدرة على الفعل لأنه محكوم عليه بالهزيمة أمام قوة بطش ليس لها مثيل في التاريخ بل إنها تبدو كما لو كانت قوة "من خارج التاريخ" لا يصلح معها بالتالي التعامل بالمنطق القائم بل بخلق واقع آخر هو أقرب إلى الحلم.

يتبع إيليا سليمان في فيلمه أسلوبا "حداثيا" modernist في تصوير ما يمكن وقوعه في الواقع ولكن مع بعض المبالغة أو التضخيم مثل مشهد الدبابة التي تتابع شابا فلسطينيا يخرج من بيته لالقاء كيس القمامة. صحيح أن التناقض بين الدبابة الضخمة ومدفعها الطويل، والشاب الضئيل الحجم وكيس القمامة التافه الشأن قد يثير السخرية والضحك، ولكن هذا أيضا ليس فقط قابلا للحدوث، بل إن مشاهد من هذا النوع حدثت أمام كاميرات التليفزيون وعلى الهواء مباشرة دون أن تثير أي ضحكات بالطبع لأنها تبدأ ثم تنتهي عادة نهاية دموية.

إذن هناك استبعاد لفكرة تصوير ما لا يمكن تصور وقوعه (وهو عنصر أساسي في سينما ما بعد الحداثة).

الزمن والماضي

ثالثا: إن سياق الصور والمشاهد وطريقة تركيبها معا ينتقل في الزمن تدريجيا، هو سياق ينشد مخاطبة العقل، ودعوة المشاهد إلى التأمل والتفكير، فهو لا يعتمد على العبث من أجل العبث بل يعتمد منهج التغريب من أجل التقريب كما عند بريخت، ولم يكن مسرح بريخت بأي معيار مسرحا ما بعد حداثي بل حداثي تماما لأنه لم يكن انقلابا على العقل بل محاولة لفهم التاريخ (أي الماضي والحاضر معا) من مقياس العقل والتأمل والإحساس بالمتعة الفنية الكامنة في البنية الداخلية للعمل الفني في الوقت نفسه.

رابعا: يمكن القول إن فيلم "الزمن الباقي" لا يقدم الماضي من خلال أي نظرة "نوستالجية" أي تعكس الحنين إلى ذلك الماضي، كما تميل أعمال ما بعد الحداثة عموما، بل الهدف من تقديم الماضي هنا هو فهم الوضع الذي وصلنا إليه في الحاضر، وليس التطلع بحنين إلى ما كنا عليه، بل التأكيد على استمرارية الدوران الجهنمي لعجلة التاريخ في اتجاه تكريس الظلم وتوسيع نطاقه، وفقدان القدرة على مواجهته بالقرارات والشعارات الفارغة طول الوقت، بحيث نصل إلى تلك الحالة "العبثية" التي يصورها إيليا سليمان حسب رؤيته الشخصية للحالة الفلسطينية التي تتلخص في: العجز، الدوران في نفس الحلقة، الصمت والانتظار، شيخوخة الذاكرة، ممارسة لعبة الكر والفر مع الطرف الآخر، الحلم بالقفز فوق الحاجز "المادي تماما" بطريقة سحرية، مثل الحلم بعبور نقطة التفتيش الإسرائيلية بل وتفجيرها تماما بقوة المرأة وفتنتها، أو تدمير دبابة إسرائيلية بقذفها ببذرة المشمش، أو التصدي لآلة الحرب الإسرائيلية الهائلة بقوة العدالة الإلهية التي تنزل فارسة جبارة من السماء في فيلم "يد إلهية".

وعلى الرغم من وجود المخرج- البطل- المؤلف حاضرا في الكثير من مشاهد الفيلم، يتطلع، ويراقب، ويتأمل، فليس المقصود هنا تجسيد فكرة "التلصص" التي تعد أساسا جوهريا أيضا في سينما ما بعد الحداثة، بالمعنى الحسي المباشر أي التلصص على ممارسة الجنس مثلا أي اقتحام المحرم وتصويره والفرجة عليه بعد تصويره سرا، أو تصوير الجنس بشكل جريء مقتحم صريح.

إن "تطلع"- وليس "تلصص" إيليا سليمان هنا، يجسد كما أشرت، الوجود المادي لصاحب الرؤية السينمائية (كمرادف لصاحب النص في الأدب) ويؤكد عليه كشاهد على مسار التاريخ طوال ستين عاما أي منذ مولده في عام "النكبة" نفسها 1948.

اختلاط الأساليب

ويغيب عن الفيلم أيضا ما يعرف في سينما ما بعد الحداثة باختلاط الأساليب والرؤي الفنية، وهو ما يطلق عليه منظرو ما بعد الحداثة pastiche أي المزج بين الأساليب مثل الكوميديا والدراما النفسية وأسلوب الفيلم الرومانسي والفيلم الموسيقي.. إلخ

هذا الانتقال الحر بين الأساليب الفنية في سينما ما بعد الحداثة يميل إلى تحرير السينمائي من التقيد بأسلوب أو منهج ما محدد في التعامل مع مادته، اتساقا مع التحرر من المفهوم "الأيديولوجي" الواحد في سينما الحداثة عموما، ومن فكرة الخضوع للشكل. ويظل هذا الطرح عموما طرحا نظريا، يتطور باستمرار ولا يمكن تصور أنه أصبح مغلقا غير قابل للمراجعة بل إن أساس فكر ما بعد الحداثة هو التطور المستمر والتعديل والتبديل والتداخل بل والانتقال ما بين مفردات الحداثة وما بعدها في نسيج فني واحد.

في فيلم "الزمن الباقي" هناك حقا نزعة إلى المبالغة الكاريكاتورية في تقديم الشخصيات والأحداث، هذه النزعة تتصاعد مع المضي في الزمن، أي أن الفيلم يبدأ بشكل واقعي ثم يميل في صعوده زمنيا إلى أسلوب أقرب إلى مسرح العبث، ولكن دون أن يكون هناك خلط وانتقالات متعددة بين أساليب سينمائية مختلفة بدون أي حواجز كما في أفلام أخرى تنتمي مذهبيا لسينما ما بعد الحداثة ربما كان أشهرها مثلا فيلم "برازيل" لتيري جيليام.

إن "الزمن الباقي" ينتقل من أسلوب إلى آخر في النصف الثاني منه، ليس كوسيلة لتحرير الخطاب من تقليديته، والتعبير عن موقف من الحياة يتمثل في رفض وحدة الأسلوب واللغة، بل يعد امتدادا لنفس الرؤية أو الخيال السينمائي داخل الإطار نفسه وهو السخرية من التاريخ ولكن من داخل المنطق التاريخي نفسه، وتصوير "الوجود الإنساني" نفسه باعتباره مأزقا مشتركا، فمأزق الفلسطيني ليس منعزلا هنا عن مأزق الإسرائيلي.

سخرية من التاريخ

إن مشهد توقيع وثيقة الاستسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في بلدية الناصرة، يكثف سخرية المخرج من التاريخ: هنا على الطرف الأول رجل دين مسيحي ورجل دين إسلامي، ورئيس البلدية الذي يهرع إلى مكان الاجتماع كل ما يقلقه هو تأمين حياته لذا يرفع له مرافقه علما أبيض من خارج نافذة السيارة. وعلى الطرف الإسرائيلي عسكريون ببزاتهم العسكرية الخشنة يعيشون وهما يصنعونه ويريدون تسجيله في وثيقة تاريخية هو وهم "الانتصار" كما لو كانوا قد خاضوا حربا ضد جيش حقيقي يضارعهم في قوتهم وبأسهم وانتصروا عليه بالقتال في أرض المعركة. إنهم أيضا يصرون على التقاط صورة تذكارية للجميع معا بهذه "المناسبة التاريخية" حسبما يقول الضابط الإسرائيلي. هذه سخرية واضحة من التاريخ من داخله.

ومع امتداد الزمن يتحول الفلسطيني إلى معتقل في بيته: إيليا سليمان يجلس مع والدته في شرفة المسكن، يكتفيان بالتطلع إلى الألعاب النارية بمناسبة حلول العام الجديد.

وعلى الأرض يبدو كلا الطرفين منغمسين في لعبة هزلية تبدو كما لو كانت ممتدة إلى الأبد. لاحظ مثلا المشهد الذي يتناوب فيه الطرفان، الفلسطينيون والإسرائيليون، جذب نقالة يرقد فوقها مصاب فلسطيني داخل مستشفى. هؤلاء يريدون إسعافه بسرعة، وأولئك يريدون اعتقاله. السلاح يحسم الأمر في النهاية ولكن هل يعتبر هذا الحسم خروجا من المأزق أم تعميقا له!

التأويل هنا واضح، والموقف أيضا واضح، وهو تأويل عقلاني تماما يحمل رؤية وموقفا سياسيا حتى لو لم يكن المخرج- المؤلف يقصد توصيل معنى مباشرا من خلاله. إنه ذلك "اللهو" الذي يبدو تلقائيا، أو يأتي في إطار "فوضى" بصرية، إلا أنها تلك "الفوضى المنظمة" التي تميز الفن الحداثي.

ولاشك أن رؤية إيليا سليمان الحداثية جدا، هي التي تسبب ما يطلق عليه "قلق التأثر" أو "المدلول المكمل" (حسب دريدا) الذي يرجئ المدلول باستمرار إلى ما لا نهاية. إنه يقترب من عالم ما بعد الحداثة دون أن يلجه بالكامل، بل يكتفي بالتوقف على عتباته، مفضلا الاحتفاظ بقدرته على التأثير والإقلاق حتى من خلال السخرية من التاريخ، ومن الذات، ومن الوعي المدرك.

إن لقطاته الثابتة (التي لا تتحرك فيها الكاميرا) التي يغلب عليها الحجم المتوسط medium shots تبدو الأكثر مناسبة للتأمل، للتفكير، لمراجعة المدرك المتلقى أو الوعي المتراكم وإعادة النظر، ليس فقط في التاريخ المروي، بل في الموقف الإنساني الذاتي أيضا. ولعل في هذا كله تكمن عظمة هذا العمل السينمائي الكبير وأهميته.

------



تعليقات علي المقال



sakita يقول...

مقال جميل، لدي تعليق قد يكون خروجا عن الموضوع قليلا:

ذكرت فيلم برازيل مثالا لفيلم ما بعد حداثي يه خلط وانتقالات متعددة بين مختلف الأساليب السينمائية... ورغم أنني أوافقك في مسألة الخلط بين الأساليب السينمائية إلا أنني لا أراه فيلما ما بعد حداثيا لأن له رسالة حداثية واضحة - الفيلم يشكل نقد للبيروقراطية، والمجتمع الاستهلاكي وهو متأثر جدا بأجواء رواية أورويل 1984 (وفي نهاية الأمر كلاهما يتحدثان عن موظف يقع في الحب متحديا أعراف النظام لكن يفشل) لكنه لا ينتقد النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي فحسب مثل رواية أورويل (الذي كان شيوعيا خاب أمله بالشيوعية بعد زيارته للاتحاد السوفييتي) بل ينتقد أيضا المجتمع الاستهلاكي وما يسمى بـ corporate america (رغم كونه بريطانيا) والبيروقراطية الخ.... النهاية أيضا مختلفة إذ أن بطل 1984 يدرك خسارته ويقوم النظام بالقضاء على رغبته بالمقاومة بالتعذيب وغسيل الدماغ أما في فيلم برازيل فلا يعلم البطل بأنه خسر بل يعيش في عالم من الأوهام - بحسب إحدى نهايات الفيلم فهنالك نهاية بديلة للسوق الأمريكي.

باختصار فيلم برازيل له نقد واضح لظواهر اجتماعية موجودة وإن كان يعتمد أسلوبا مختلفا... لا أدري ما هي بعد الحداثة تماما لكنني لا أظنها تقدم على مثل هذا النقد للمجتمع.


أمير العمري يقول...



عزيزي: موضوع ما بعد الحداثة طويل ومتشعب وأحسن ما قرأت فيه لباحث أمريكي (من أصل مصري) مشهور جدا في الولايات المتحدة وأوروبا هو الرائد الحقيقي لتيار ما بعد الحداثة اسمه إيهاب حسن Ihab Hassan يمكنك الرجوع إلى كتاباته وكتبه وهي عديدة. حاولت تبسيط الموضوع وتبيانه من خلال مقال تطبيقي وليس كلاما نظريا متقعرا، لكن تلخيص الأمر في حالة "برازيل" ينحصر في النقاط التالية:

العودة إلى أساليب سينمائية قديمة (مثل الفيلم نوار مثلا)، ويختفي فيه الفارق بين الماضي والحاضر والمستقبل. ترى الباحثة ليندا هتشيون أن "برازيل" ما بعد حداثي لأنه يعيد النظر إلى التاريخ بشكل ساخر، ولأنه يعد محاكاة ساخرة parody لفيلمين شهيرين هما "المدمرة بوتيمكين" لأيزنشتاين، و"حروب النجم" لجورج لوكاش. وكلها كما تلاحظ، تتعلق بالشكل واللغة والأسلوب، وهو ما تطرقت إليه في مقالي المشار إليه مقارنة مع فيلم :الزمن الباقي"، وليس لكونه يحمل رسالة ما أو موقفا فكريا.

__

sakitaيقول...


بالنسبة لما بعد الحداثة فانا لست مطلعا على الكتابات النقدية في الموضوع وأظن أنه أصلا مصطلح مختلف عليه (فوكو الذي يرى البعض نظريته البنيوية ما بعد حداثية كان قد انتقد الما بعد حداثة) فهو مصطلح ملتبس برأيي. لقد ظننت دوما أن الاهتمام في الشكل/البناء في أدب/سينما ما بعد الحداثة هو محاولة للتعبير عن مضمون ما بعد حداثي بشكل يلائمه... أما المضمون فهو فشل الحداثة وشعور الفرد بالوحدة الخ... سقوط الأيديولوجيات والايمان بعدم قدرة الإنسان معرفة الحقيقة بل كل ما نعرفه هو وجهة نظر ليس إلا الخ... لذا فأي فيلم له رسالة لم أكن أراه ما بعد حداثيا... ربما علي أن أقرأ أكثر عن الموضوع.

ليست هناك تعليقات: